رحيل عراب الأغنية المغربية أيتها الأغنية المغربية، هل جف معينك النابض الرقراق؟ فغدت تهوي من سمائك نجوم، وتذوي من شجرتك أوراق، كأوراق الخريف، كانت، إلى الأمس القريب، نضرة في عرصات الإبداع، ثاوية في ربوات الفن العالية، تخط، بألحان عذاب في سجل الخلود، سطور خصب فني، وتحكي قصة مجد موسيقي مفقود لا يزال يبحث عمن يعيد لألاءه ويخرجه من سراديب النسيان. في الخميس الماضي، أخرست يد المنون رائدا من رواد الموسيقى المغربية الأصيلة، فنانا موهوبا وملحنا مقتدرا، فقد رحل في صمت الزاهدين الأستاذ عبد النبي الجراري، مكتشف المواهب وعراب الأغنية المغربية، بعد مسار حافل بالجهد والعطاء، تاركا إرثا فنيا متنوعا في مجال الأغنية العصرية، تلك التي تقع خارج دوائر الطرب الأندلسي وطرب الملحون والأنماط الشعبية ذات القيمة التراثية أو الفولكلورية. مبدع كبير هو، وفنان أصيل، انطلق من الموهبة والاحتكاك بأساتذة الفن الرفيع لإغناء رصيده ومعارفه الفنية، وتشبع بالفن انطلاقا من قناعات وطنية هادفة، وكان وراء اكتشاف أكثر من موهبة في الغناء واللحن ووضع الكلمات; فقد قام الراحل عبد النبي الجراري، وهو الفنان المثقف، بدور رائد من أجل أن تأخذ الموسيقى المكانة اللائقة بها من بين الفنون المغربية، ناهيك عن التضحيات الجليلة التي قدمها للشباب من الموسيقيين والملحنين والعازفين على حد سواء، من حيث التأطير والتوجيه. كان هاجس الجراري هو الموسيقى، وشاغله هو تكوين جسد موسيقي متكامل كما هو الشأن في باقي البلدان التي تحترم فنها وخاصة موسيقاها، وذلك من منطلق إيمانه، على حد قوله، بأن «الموسيقى دوما هي لغة إحساس وتربية وأدب وعلم وثقافة وتربية ذوق وليست هرجا وارتجالا»، ولأجل ذلك وضع الراحل، إلى جانب مجايليه من أقطاب الغناء العصري بالمغرب، من قبيل أحمد البيضاوي وأحمد جبران وعبد القادر الراشدي وأحمد الشجعي وإبراهيم العلمي ومحمد فويتح والعربي الكوكبي والعباس الخياطي وعبد الوهاب أكومي وغيرهم كثير، الأسس الضرورية لمدرسة موسيقية متمسكة بالهوية المغربية، لحنا وإيقاعا وأداء. وعن ذلك قال الأستاذ صالح الشرقي في مذكراته (جل تر المعاني) «سنة 1950 كانت الحركة الفنية الغنائية بالمغرب قد عرفت دبيبا ملموسا بمختلف المدن الكبرى وخصوصا على يد الأستاذ عبد النبي الجراري الذي يعود إليه الفضل في تكوين أول جوق عصري حقيقي كان عبد القادر الراشدي وإسماعيل أحمد من بين أفراده»، وهو جوق الاتحاد الفني الرباطي سنة 1947. عرف عبد النبي الجراري بأنه واحد من جملة المجددين لمسار الأغنية المغربية المعاصرة، وكانت منطلقاته وتصوراته للتجديد هو أنه «اجتهاد بدونه لا تكون الأغنية»، والاجتهاد عنده «أن تكون الروح الفنية متوفرة في الإنسان الفنان إحساسا وإلهاما ثم لحنا وغناء وعزفا»، كما أنه محاولة اكتشاف جمل موسيقية توظف التوظيف السليم. ويعتبر الراحل عبد النبي الجراري، بشهادة العديد من المتتبعين للشأن الفني بببلادنا، من خيرة ما عرفه المغرب من الفنانين، معرفة ومهارة وموهبة، فقد كان بارعا في العزف على العود والكمان والبيانو، فضلا عن تمرسه الموسيقي العلمي. في البداية غنى الراحل الجراري بعضا من ألحانه بصوته، وقال هو نفسه عن ذلك في إحدى حواراته «كانت الأصوات المغربية منعدمة حتى ظهور بهيجة إدريس والمعطي بلقاسم، في وقت كان فيه آخرون يغنون ألحانهم بأصواتهم كالأستاذ أحمد البيضاوي والأستاذ العباس الخياطي، لقد كان بارزا بوضوح افتقار الأغنية المغربية إلى أصوات، وهو ما شرعنا في إيجاد حل له بعد مرحلة تأسيس الجوق الوطني بدار الإذاعة الوطنية». ويبقى برنامج «مواهب»، الذي كان يعده الفنان الراحل للتلفزة المغربية منذ انطلاق بثها في ستينيات القرن الماضي، مدرسة تخرجت منها جل المواهب والأصوات المغربية الكبيرة التي لمعت في سماء الموسيقى والغناء بالمغرب والوطن العربي، ومن خلاله أمد الساحة الفنية بالجديد من الدماء. ومن الأقوال المأثورة عن الراحل، في هذا الصدد، «من السهل على الإنسان أن يقف متحدثا عن الموهبة، لكن من الصعب عليه أن يكشف خبايا ومكامن تلك الموهبة». وفي مذكراته تحدث الأستاذ صالح الشرقي عن فترة الخمسينيات من القرن الماضي التي تؤرخ لبداية حركة فنية وطنية فقال «لقد كانت هناك أسماء اعتبرت كإفراز لهذه الفترة، وغالبيتها أسماء برزت من خلال برنامج «مواهب» الذي كان يعده الأستاذ عبد النبي الجراري رغم ما قيل عنه، إلا أن التاريخ سجل مآثره»(...) لقد خرجت هذه المدرسة دفعة هامة من مطربي ومبدعي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، والفضل كل الفضل يعود للجراري». لقد أبدع الجراري، خلال عمره الفني وعمله في الإذاعة والتلفزة من 1953 إلى 1985 أعمالا ودررا لحنية تبلغ زهاء 90 لحنا لأمتع الأغاني المعاصرة المتجددة، وأسند ألحانه لكثير من نجوم الأغنية المغربية والأصوات الغنائية. فقد لحن الجيراري للراحل المعطي بلقاسم «اسمع يا شعب» و»مع الحسيمة» و»يا بهجة المغني» و»كان أحن علي»، ولعبد العاطي آمنا في بداية مشواره الفني «افرح يا شعب بلادي»، ولبهيجة إدريس «من غير ميعاد قابلتو و»يا عروس المغرب غني» و»قوللي طمني»، ولمحمد علي «محاورة يا فلاح» و»بطل الأبطال» و»رفيقتي» و»كن من المحاسن بشرى»، ولعبد الهادي بلخياط «نحن سواء» و»نشيدك أول ما في اللسان» و»يا حبيب القلب» وقطعة «بلادي» التي كانت منطلقا لمساره الفني، ولعبد الحي الصقلي «أيام الربيع» و»بسيمة وشان وهمة»، ولعبد الوهاب الدكالي نشيد «هذا الجلاء» وأنشودة «أنت»، وللمرحوم إسماعيل أحمد «اذكري» و»ليه يا ظالم» و»لحن الذكرى» و»نداء الحبيب» و»ابتسم يا غزال» و»كان فعيونو كان» و»بالشعب» و»عيدك عيدي» والقائمة طويلة. رحل إذن الأستاذ عبد النبي الجراري، عن عمر 87 عاما، ولم يكن رحيله عبور من مروا مرور الكرام، بالنظر لربرتواره الحافل، وستبقى كل ذكرى لرحيله تؤجج السؤال عن مستقبل الأغنية المغربية وآفاقها، وما تم القيام به وفاء لروادها، ومنهم الأستاذ الجراري، الذي كما قال جلالة الملك محمد السادس، في برقية التعزية التي بعث بها إلى أفراد أسرة الراحل، «إن عزاءنا في الفقيد الكبير هو الأجيال الفنية المتعاقبة، التي تكونت على يديه، ونهلت من خبرته الفنية الواسعة، على مدى عقود من الزمن، فشقت طريقها في سماء الفن والإبداع المغربي والعربي، عن جدارة واستحقاق، والتي تعد بحق خير ذكرى لرحيل أحد أعمدة الغناء المغربي، كما أن ألحانه الشجية وأغانيه الأصيلة ستظل خالدة في الذاكرة الفنية المغربية على مر الأجيال»، رحمه الله.