ما يمكن أن يُقال عن "دومينيك ميدا" أنها غارقة في العمل حتى الأذنين. ويرتبط هذا الأمر بنمط حياتها؛ ذلك أنها من النساء اللواتي يَقُمْن بأعمال متعددة المشارب في نفس الآن، واللواتي يتصفن بالحيوية والنشاط. كما أنها ذات مسار علمي مرموق؛ إذ تخرجت من المدرسة العليا للأساتذة، قبل أن تحصل على شهادة التبريز في الفلسفة، وقد درست كذلك في المدرسة الوطنية للإدارة. موظفة سامية للشؤون الاجتماعية، وباحثة في علم الاجتماع، امرأة تحمل قضايا متعددة، وفاعلة في عدة مؤسسات وحركات جماعية، امرأة تجمع بين الالتزام والفكر والفعل، بالإضافة إلى الاهتمام بالسياسة (كانت مقربة من "مارتين أبري"، شاركت في الحملة الانتخابية لكل من "سيغولين رويال" سنة 2007، و"بينوا هامون" سنة 2017، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الترشح في لائحة الخُضْر في الانتخابات الأوروبية…). تعتبر موضوعة العمل محور حياة "دومينيك ميدا"؛ فمنذ دراستها الفلسفية الأولى حول "قيمة العمل" سنة 1995، ومرورا ببحوثها حول علاقات الأوروبيين بالعمل، أو دفاعها عن حق المرأة في العمل، ووصولا إلى نقدها للنزعة الاقتصادية لصالح الإيكولوجيا، كانت، ولاتزال، تبحث في معايير المجتمعات الأوروبية القائمة على العمل… مع البحث بشكل متواصل عن سبل الخروج من هذا الإشكال. فبالنسبة إلى "دومينيك ميدا"، لا يعتبر العمل هو محور الحياة، ولا يمكن أن ينظر إليه باعتباره أساس العلاقة الاجتماعية – وهذا هو تناقضها الإنتاجي (التناقض بين أطروحتها وبين حياتها المكرسة كلية للعمل)- وهكذا فهي توصف بالمثالية لأنها كانت سبَّاقة إلى التفكير، ليس في تحرير الفرد عبر العمل، وإنما في تحرير العمل من أجل مجتمع حر بالفعل؛ أي مجتمع يترك المجال مفتوحا أمام أنشطة أخرى، وأمام حركات جماعية قادرة على بَنْيَنَة الوجود المشترك. في سنة 1995، أثار كتابها "العمل، قيمة في طور الاختفاء؟" (الصادر عن دار "أوبيي") زوبعة، مثلما حدث أيضا مع قانون 35 ساعة الذي تدعمه. فبينما مؤشرات البطالة تصل إلى مستويات قياسية، لا تتمثل حالة الطوارئ في التغني بفضائل الوقت الحر (التي تمتلك حولها، رفقة "أرسطو"، الكثير لكي تقوله)، بل في إعادة تشكيل قيمة العمل الحقيقي لمواجهة هشاشة الوضعيات والظروف. وبالتالي، فهذا يعني أنها إذا كانت تراقب بحذر التحولات الكبرى التي طالت العمل في الوقت الحاضر وفي المستقبل: أتمتة الخدمات، والإعلان المتواتر عن نهاية العمل المأجور، ومآل عمل الفرد لحسابه الخاص، موت الوظيفة بسبب استبدال البشر بالآلات، والدخل العالمي… فإنها تعتبر التحول الإيكولوجي الإمكانية الوحيدة المتاحة الحاملة ليوتوبيا إيجابية. وبحملها لقناعاتها المثالية في يد، ولنزعتها النفعية في اليد الأخرى، تبدو "دومينيك ميدا" مستعدة للاستماتة في الدفاع عن نظريتها. في سنة 1995، فتح كتابها "العمل، قيمة في طور الاختفاء؟" النقاش حول "قيمة العمل" التي تشغل الجميع على الدوام؛ حيث أشارت إلى أن قضية العمل كانت منذ تلك الفترة مركزية في النقاش العمومي؛ فالمندوبية العامة للتخطيط كانت قد شكلت سنة 1994 لجنة حملت اسم "العمل في عشرين سنة"، اضطلعت فيها "ميدا" بمهمة المقرر. كان الجميع آنذاك يتكلم عن "قيمة العمل" كما لو أن العمل جيد في حد ذاته، خاصة أنه كان الأساس الوحيد للعلاقات الاجتماعية. لم يكن هذا الأمر يتماهى مع دروس الفلسفة، ولا مع واقع العمل. لذلك فالكتاب يدعو إلى تقليص مكانة العمل في حياتنا، سواء الشخصية أو الاجتماعية، حتى نترك المجال مفتوحا أمام كل من الأنشطة السياسية، والعائلية، والودية، والعاطفية، وكذا التطوير الحر للذات. وقد خُتم الكتاب بدعوة مزدوجة إلى تقليص الغلاف الزمني الأسبوعي للعمل، وإلى تحسين ظروف مزاولة الشغل… كما قام بذلك "ماركس" في ختام كتابه رأس المال. وعلى العموم، تتعدد المصادر التي شكلت فكرة الكاتبة حول العمل وتتنوع؛ فهناك أولا الفلسفة اليونانية التي تعتبر أن أساس العلاقات الاجتماعية هو السياسة. ولا شك أن النص الذي أثَّر بشكل قوي فيها هو الأسطورة المذكورة في محاورة بروتاغوراس لأفلاطون؛ حيث سيسرق "برومثيوس" النار من الآلهة؛ أي سيسرق القدرات التقنية، ثم سيوزعها على الناس. هذه هي البداية الفعلية للتبادل. هل كان لدينا في هذه الفترة مجتمع بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؟ لا! حتى يكون لدينا مجتمع، كان من المفروض على "هرمس" أن يسرق القدرات السياسية وتوزيعها أيضا بين البشر. وخلافا لما دافع عنه "آدم سميث" لاحقا، ليس تبادل المنافع أو العمل هو المسؤول عن وجود المجتمع، بل إن وجوده يرتبط بالقدرة على التداول والتحديد الجماعي لشروط الحياة المشتركة. تعريب وإعداد: نبيل موميد