ثقافة الحقد والكراهية في أبهى عصورها.. تلتهم يوميا الآلاف من البشر في العالم، تسحقهم أنياب العنف الفتاكة، قرابين بشرية كانت حية تُرزق.. لها أحلامها وآمالها.. فجأة.. اخْتُطِفت الأرواح.. مشاهد تراجيدية تقذفنا بها الأخبار.. وتتحدُّث عنها المذيعة الجميلة، وقد فاق لون احمرار شفتيها حُمرة دماء القتلى في بورما.. اليمن.. العراق.. سوريا.. وابتسامتها العريضة تحكي الكثير.. لعلَّ تبلَّد الإحساس الإنساني هو أحد أخطر مظاهر الأزمنة المُعاصرة، حيث يتناول البشر وجبات العشاء مُرفقة بصور جثث القتلى وتختلط قهقهات ضحكات الأسرة "السعيدة" ببكاء وعويل أمهات فلسطينية على استشهاد أطفال في عمر الزهور.. المغرب بيتنا جميعا، بيتنا الذي نُحبُّ أن نراه مزدهرا، رائعا.. لكن المغرب لا يُشكِّل استثناء.. العنف القبيح يحصد العديد من الأرواح يوميا.. العنف الأسري ضد الأصول والفروع.. العنف المدرسي في كل المؤسسات التعليمية، بما فيها الجامعات، العنف في الملاعب.. العنف في الشوارع.. في الأسواق.. في المحطات الطرقية.. وحرب الطرقات.. التي تخلف قتلى وجرحى ومعاقين وأرامل وأيتام.. عندما نبحث عن الخلفية الأساسية للعنف، ونواته المركزية، سنجد جرثومة الحِقد هي المُحرِّك الرئيسي للعنف الرمزي والمادي، وقاموس الشتائم في المغرب أصبح موسوعة ضخمة، متنوعة الفصول، شتائم تتطاول على الذات الإلهية، شتائم تهين المعتقدات الدينية، شتائم تدعو على الوطن والمواطنين.. شتائم تلعن النسب، شتائم تمس الشرف، وتبقى الشتائم الجنسية فهي الأكثر تداولا بين الصغار والكبار.. أما العنف المادي من اعتداء بالأسلحة البيضاء وإزهاق الأرواح، والتباهي بالتقاط صور لشباب وشابات، صور مدجّجة بالسيوف والسكاكين الكبيرة ونشر فضائحها على الصفحات الفايسبوكية، هذه السلوكيات الانحرافية أصبحت مفخرة وموضة تدل على أن أصحابها مرضى بالحقد على المجتمع بكل قيمه ومؤسساته وقوانينه.. حِقد له أسبابه طبعا، وهذه وظيفة العلوم الإنسانية ومختبراتها البحثية، التي تعرف تخلفا وفسادا كبيرا في المغرب، ولهذا السبب يصرخ الطلبة والباحثون بأعلى صوتهم: اسمحوا لنا بالحث لحلِّ مشاكل الوطن.. لماذا اللامبالاة؟ لماذا الإقصاء؟؟.. دعونا نعالج الوطن الجريح قبل مرحلة الخطر.. دعونا نُحبُّ الوطن أكثر.. إن تعرض الإنسان للاحتقار والتهميش.. والقهر، بشكل مستمر، يخلِّف لديه جراحات نفسية غائرة ملئية بالكراهية، فيتصرف بحقد وعدوانية، ضد الغير، وبالتالي يكون العنف تعبيرا عن الحقد القابع في الذات المقهورة التي تتحيَّن الفرصة لتفريغة بشكل عشوائي يحصد اليابس والأخضر، ولعل واقعة الشهيد محسن فكري صرخة مدوية ضد الاحتقار، الذي يُقاسي المغاربة آلامه في حياتهم اليومية بانتظام، لدرجة أن بعض الفراعنة يتعاملون مع المواطن بمنتهى الازدراء وكأنه حشرة بشعة يمكن سحقها دون لفت الأنظار.. إنه الحقد باختصار.. من مظاهر الحقد انتشار ثقافة الفشل، والرغبة في رؤية الغير يرزحون تحت خيبات الإخفاق وويلات الفشل في حياتهم.. في الدراسة، العمل، الزواج، العلاقات اجتماعية.. بل إن فشل البعض يفوق النجاح الذاتي عند فئة من الناس، فما يشفي غليلهم ويجعلهم يشعرون بالدرجة القصوى للفرح والمتعة والابتهاج هو سماع أخبار عن حريق شبَّ ببيت جار، أو إصابة شخص بمرض مزمن، أو رسوب طالبة مجدة في مباراة توظيف، أو إفلاس مُريع لقريب.. والأدهى أن الفشل تحول إلى ثقافة لها مؤسساتها وأجهزتها، وخبراؤها ودعاتها ومريدوها، الفشل يرفع راياته السوداء التي تُرفرف وتنتشي بكل فشل جديد، ولا تقف عند هذا الحد، بل تُحيك المؤامرات لصناعة الفشل وإحباط الراغبين في النجاح، لأن النجاح في كل المجالات يُزعِج ثقافة الحقد والكراهية، وتثور ثائرتهما.. ويتصرفان برعونة هوجاء.. الحقد.. الكراهية.. أمس، اليوم وغدا؟؟ يصنعان الإحباط.. يُصبح الإنسان مُحبطا مهْما كانت شخصيته قوية ومتَّزنة، والإحباط طريق الانتحار.. هناك من ينتحر في المخدرات وبدافع الحقد يستقطب أكبر عدد ممكن من الضحايا بغية الانتحار الجماعي في المخدرات، هناك من ينتحرن في الدعارة وبالحقد أيضا يجذبن الصبايا لدفعهن للانتحار الجماعي في البغاء.. وبالحقد ينتحر بعض الشباب في دوامة العنف.. كفى من الحقد والمهانة، أيها العابثون لا تدفعوا المواطن إلى الانتحار، بمن في ذلك الأطفال الصغار. الحقد هو الذي أخرج إبليس من الجنة.. والحقد هو الذي دشّن أول جريمة دموية مهولة في التاريخ البشري قتْل قابيل لأخيه هابيل. إذا كان الحقد يحمل في أحشائه بعدا انتحاريا فهل من حلٍّ لهذه المعضلة؟ وهل من سبيل لنشر المحبة في العالم المتوحش؟ تضطلع الفلسفة بمهمة الجواب على هذا التساؤل الإشكالي، وللذين يقولون"فيم تفيد الفلسفة إذن؟" يقول لهم1، الفيلسوف دومينيك لوكور، بأن المستقبل الإنساني مرتبط بممارسة التفكير، مستشهدا بمقولة الفيلسوف والإبستمولوجي جاستون باشلار بضرورة تضافر جهود "المجتمع من أجل المدرسة وليس المدرسة من أجل المجتمع"2، ويُعلِّق الفيلسوف دومينيك لوكور على هذه الجملة الباشلارية المتفائلة، "بأن مجتمعا إنسانيا جديرا بهذا الإسم لا يمكنه أن يكون غير مجموع مؤسسات تهدف إلى أن تتعلم دوما أكثر عن العالم"3، هكذا تفرض علينا الفلسفة أن نفكِّر، وممارسة التفكير تحمينا من الأمية الفكرية، وتحمينا من الحقد والكراهية، وتساعدنا على التمييز بين الفضيلة والرذيلة، بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والوهم، بين حياة الاحترام وحياة الاحتقار، والفلسفة ليست هي الفيلسوف سقراط أو الفيلسوف كانط.. الفلسفة هي ممارسة التفكير الحر، والنقد البناء والقدرة على الاختيار وتحمل مسؤولية الاختيار..، بكل اختصار الفلسفة ليست هي محبة الحكمة وإنما هي حكمة الحب، وأستشهد في هذا المقام ببيت شعري للفيلسوف والمتصوف محيي الدين بن عربي يقول: أدينُ بدِين الحُبِّ أنَّى تَوجَّهتْ ***** ركائِبُه فالحبُّ ديني وإيماني نعم، يبدو مستقبل الفلسفة أكثر خصوبة كلما واجهت حياة البشر مآزق خطيرة، وأخطرها الحق، الفشل، الانتحار.. ومهما تطورت مظاهر الحياة الإنسانية ف"قد نكون على أعتاب مجتمع ما بعد الحداثة، إلا أننا بالتأكيد لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة"4، والمجتمع الذي يخسر الفلسفة، يخسر المحبة بين أفراده ويخسر التسامح ويخسر العيش المشترك. ما أكثر النصوص الفلسفية التي، تدعو بمعقولية حجاجية، إلى نشر قيم المحبة والتسامح، وهناك شذرات فلسفية تصنَّفُ ضمن النصوص التي بإمكانها تغيير المعيش اليومي، وتغيير العالم بتعبير لوسيان جوم Lucien Jaume ، من بينها التحفة للفيلسوفة حنا أرندت: "إن الحب وحده يستطيع الصفح، مادام وحده الحب يعرف تمام المعرفة كيف يفتح ذراعيه للشخص، كيفما كان، إلى حد الاستعداد الدائم للصفح عما بدر منه، وأنه من اللازم أن يظل الصفح خارج اعتباراتنا وحساباتنا. ويوافق الحب، وما يمثُّله في دائرته، الاحترام في مجال الشؤون الانسانية الواسع. ويشير الاحترام إلي نوع من الصداقة بلا حميمية ولا قرب، إنه تقدير للشخص من خلال المسافة التي يضعها العالم بيننا، ولا يخضع هذا التقدير لمزايا يمكن أن تثير إعجابنا، ولا لأعمال يمكن أن تحظى بإجلالنا. وعليه يعتبر اختفاء الاحترام في أيامنا هذه، أو قل لم تعد القناعة بأن الاحترام لا يكون واجبا إلا في حق من ينالون تقديرنا أو إعجابنا، عَرَضا واضحا من أعراض عملية نزع الطابع الشخصي عن حياة العامة و الاجتماعية. على أية حال، فان الاحترام الذي لا يهم إلا الشخص يكفي ليكون ملهما للصفح عما اقترفه الشخص، مراعاة وتقديرا له. غير أن الاحترام نفسه، المنكشف في العمل و الكلام الذي يبقى موضوع الصفح هو السبب العميق الذي يفسر كيف يتعذر على أي كان الصفح عن نفسه بنفسه. وهكذا كما في الكلام والعمل، نخضع للآخرين الذين يروننا في صورة فريدة نعجز عن رؤيتها بأنفسنا. فبتقوقعنا على ذواتنا لن نستطيع الصفح لبعضنا البعض عن أتفه السيئات وذلك في غياب معرفة بالشخص الذي لأجله يكون الصفح ممكنا"5. ذا النص بلغته الفلسفية الشعرية، التي أجاد في ترجمتها المُبدِع حسن العمراني، هو نص يثوي في جوفه قيمة قيم المحبة الإنسانية، حيث يعانق الحب الصفح، وينحني الاحترام أمام التسامح، وتُغري الصداقة العيش المشترك، إن الحب الإنساني هو معنى قيم الاحترام، لأن الحب معرفة، تقصد موقفا فعِّالا، يعرف ثمار المحبة ومآلات التسامح وعواصف الحقد وأعاصير الكراهية، التي تهدّد العيش المشترك، فحذاري من الواقعة.. ليس لوقعتها كاذبة.. ولنجعل المحبة والتسامح والاحترام قيما سامية لحياتنا. المراجع والإحالات: دومينيك لوكور، ترجمة محمد هشام، "فيم تفيد الفلسفة إذن؟ من علوم الطبيعة إلى العلوم السياسية"، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 2011، الصفحة:259. دومينيك لوكور، ترجمة محمد هشام، "فيم تفيد الفلسفة إذن؟ من علوم الطبيعة إلى العلوم السياسية"، أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 2011، الصفحة:259. المرجع نفسه، الصفحة:259. LEAMAN Oliver , The future of philosophy , Routldge , Lndon & New York, 1998, P :29 . حنا أرندت، استحالة الرجوع إلى الوراء والصفح كأفُق، ضمن كتاب دريدا وآخرون، المصالحة والتسامح، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال للنشر،2005، الصفحة:60/61، مقتطف من كتاب منار الفلسفة، السنة الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، TOP EDITION، الطبعة الأولى2007، الصفحة:41.