1- محنة الفلسفة. "الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبَّسَ بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه عن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كلما ذكره ذاكر وغفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة ومعجزاته المستنيرة حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة وعددناه مقصرا.. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية، والحمد لله، فالافتقار إلى المنطق أصلا وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقُعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر كل صحيح الذهن لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو لإسلام لتخمد نارهم وتنمحي آثارها"(1). النص مقتطع من كتاب "الفتاوي" للفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان الشهروزي الملقب بابن الصلاح، المزداد سنة 577ه بشهروز شمال العراق، درس في الموصل واشتغل بتدريس العلوم الشرعية في دمشق التي توفي بها سنة 643ه، من أشهر مؤلفاته "أدب المفتي والمستفتي"، وعنف اللغة الفقهية المستخدمة يدل على مدى التشبع بقيم اللااحترام، المتنافية مع القيم الدينية السمحة التي تدعو إلى احترام قواعد التخاطب "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(2)، ويُصادر على احترام الحق في التفكير، والحق في الاختلاف، النص عبارة عن رشاش من العنف الرمزي، وخطاب الكراهية لا يليق برجل دين، ينتشي بالدرجة القصوى لشيطنة الفلسفة والفلاسفة، مع التظاهر بالاحترام للحاكم ودعوته لملاحقة كل من يُعمِل العقل أو يُساهم في تعليم ممارسة التفكير، وخطاب تكفير المشتغلين بالفلسفة والتفلسف ممزوج بالحقد والكراهية، وتحريض السلطات على إعمال السيف، وإعدام كل من يُفكر، وعدم احترام أهم حق تصونه الشريعة التي يفتي ابن الصلاح باسمها، وهو الحق في الحياة. تشترك لغة معظم الفتاوي المحرمة للفلسفة والمكفرة للفلاسفة، بعدم احترام المبادئ العقلية البسيطة، ورفض إعمال العقل، واحتقار التفكير/التفلسف، والافتخار بالفقر المنطقي، والأمية الفلسفية أي الأمية الفكرية، والتأصيل للعنف بكل تلويناته والمطالبة برأس الفلسفة، وممارسة الوصاية على الإنسان الديني، دون كبير عناء الإقناع الحجاجي والبرهاني، كما هو مُبين في النص الديني "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"(3)، وهذه حجة على عدم احترام الحِجاج الشرعي، مادام يقوم بدوره على المنطق الذي يُعتبر من وجهة فقهية زندقة وخروجا عن الملة، إنه عنف يتكلم وهو لا يبحث عن المعقولية، لأنه عنف خارج مدار العقل ويُقدم نفسه كعنف، بخلاف "العنف" الذي يتحدث عنه بول ريكور "العنف الذي يتكلم هو عنف يبحث عن المعقولية، إنه عنف دخل مدار العقل وبدأ ينكر نفسه كعنف"(4)، إن عنف الخطاب الفقهي هنا، يقدم نفسه كعنف دون مواربة، ويدعو السلطات والمواطنين إلى إلغاء تدريس الفلسفة باعتبارها الشيطان الأكبر، وملاحقة الفلاسفة والمتعلمين، معلمين ومتعلمين، وإعمال السيف في رقابهم، لأنهم مُضِّلُّون وضَالُّون، إنه باختصار خطاب الإقصاء والتحذير والتخويف ، يقوم فيه بعض فقهاء السلطان بأدوار مركبة: الوشاية والجاسوسية والتآمر على الفكر الحر، تثبيث المواطن في القصور، التحريض على قتل المفكر الحر، وترويض المواطنين على قيم الامتثال والخضوع والخنوع وطاعة واحترام السلطات، وتقديمها كقيم مرغوب فيها أخلاقيا واجتماعيا، في المقابل التشجيع على احتقار مدرسي ومتعلمي الفلسفة والتنكيل بهم، ومن تم فاحتقار وإهانة الفكر والمفكرين والإعجاب بالسلطة وتملقها و"احترامها"، ظاهرة اجتماعية متجذرة في تاريخنا الثقافي. يتَّضِحُ أن أغلب الخطابات الفقهية تعمل وفق ثنائية الترغيب والترهيب، الترغيب في "النقل المقدس" بتمظهراته المتنوعة: التكرار ، الاستنساخ والاجترار..، والدعاية لها كقيم يجب أن تكون موضوعا للرغبة الاجتماعية، والترهيب من "العقل المدنس" بمزالقه الخطيرة كتجديد الأفكار والإبداع والابتكار، يحاول الخطاب الفقهي المُزيَّف عبر استهدافه للفلسفة أن يستهدف تعطيل العقل المُفكر، والانقضاض على قيم الاحترام، انطلاقا من احتقار العقل وإلغاء وظائفه المركزية، عدم احترام حرية التفكير، عدم احترام حرية التعبير، تجريم المساءلة النقدية باعتماد قفاز الشريعة، لا احترام قيم الشريعة السمحة، وذلك بِلَيِّ عُنُقِ النص الديني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"(5) والمُبتَغى هو "تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء"(6)، وصناعة نسخ بشرية متشابهة، وصناعة قطيع من الكائنات المُروَّضة، الهشَّة والمِطواعة، ينبني نمط وجودها على احترام قيم السمع والطاعة، لا احترام قيم العقل وممارسة التفكير. * تنطوي مفارقة الخطاب الفقهي على تصور عمودي لقيم الاحترام تشي به التقابلات والثنائيات: المقدس/المدنس، اللاهوت/ الناسوت، النقل/العقل، الدين/ الدنيا، الراعي/الرعية، الحاكم/المحكوم، الشيخ/المريد، المُطاع/المطيع، العارف/الجاهل، المحترَم/المحترِم..، ويوظف الفقيه، المقدس الديني بالدعوة إلى احترام العارفين باللاهوت الديني، التابعين ومن تبعهم بإحسان، صناعة قيم التبعية والتكرارية، والإعلان عن موت الزمن، إن الزمن الفقهي زمن ارتدادي، يحيا فيه الإنسان الديني بأفكار جاهزة وطقوس مبرمجة وأدوار محددة سلفا، تنتصِب فيها علاقة الدين بالمجتمع، من خلال الزج بالإسلام في الصراع السوسيوسياسي، بين طبقة المحافظين التي تريد المحافظة على الوضع القائم وإعادة إنتاجه، باحترام قيم الجماعة وعدم مخالفتها أو مراجعتها وانتقادها، هكذا يستوجب مفهوم قيم الاحترام وفق هذا التصور، العمل بقواعد النقل لا العقل، الطاعة قيمة أخلاقية مثمنة اجتماعيا، طاعة أولي الأمر، طاعة العارفين بالدين، طاعة السلطة..، والقبول بالتفاوتات الاجتماعية واحترام التراتبية لأنها قضاء وقدر يجب الإيمان والتسليم به، لا ممارسة التفكير لمعرفة أسبابها وخلفياتها والقوانين الثاوية وراء ظهورها. المطلوب إذن هو الذوبان والانصهار في الأمة الممتدة، الجماعة الممتدة، الأسرة الممتدة، وقيمة الفرد التابع تكمن في مدى إتقانه لدور التبعية، والسمع والطاعة، دون إعمال للعقل أو مساءلة نقدية، وهذا ما ترفضه الفلسفة، كممارسة فكرية تُناهِض السذاجة والبلادة والغباء، وتُطالب بالنقد البناء للأفكار الجاهزة وعدم تبني الأحكام المسبقة ومراجعة القناعات الدوغمائية (7) Dogmatisme كقناعات تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل المراجعة والمناقشة، حتى وإن أثبتتِ الحُجَج والأدلَّة والبراهين والاستدلالات خطأها وتهافتها، في مُختلف المجالات المعرفية، المعرفة الدينية، الفلسفية، العلمية، السياسية، الفنية..، ومهما تغيرت الظُّروف التاريخية فالأفكار الدوغمائية تَدَّعي القدسية والتنزيه عن أي نقد، والنتيجة الحتمية للتَّصلُّب الدُّوغمائي هي تجريم الاختلاف الفكري، والسُّقوط في العنف، وهنا مَكمن مِحنة الفلسفة والإنسان الفلسفي، وهي مِحنة انطلقت بِناء على قناعات مُتصلِّبة، أصدرت أحكاما مُسبقة، تُوِّجت بمحاكمات مُسبقة، وسنضرب مثالين من تاريخ الفلسفة. *محنة الفيلسوف ابن رشد: "تهافت التهافت". تتعدد القراءات والتأويلات الساعية إلى تبيان الأسباب الثاوية خلف مأساة الفقيه والفيلسوف ابن رشد القرطبي، والتي تنطلق من هجمة الفقهاء الشرسة على الفلسفة، وتستحضر الإمام أبو حامد الغزالي زعيم المتكلمين، الذي كفر فلاسفة الإسلام في كتابه "تهافت الفلاسفة"، فيردّ عليه ابن رشد بكتابه "تهافت التهافت"، وهذه القراءات بدورها أصبحت جزءا من القناعات الدوغمائية التي تحتاج إلى مراجعة نقدية. *محاكمة ابن رشد مدارها قناعة دوغمائية، لفهمين متعارضين لقيم "الاحترام": - فهم ينطلق من قناعة فقهية وثوقية متصلبة للفلسفة المتهافتة "تهافت الفلاسفة"، التي لا تستحق الاحترام لأنها تفكير تضليلي، يروم شق عصا الطاعة وبث الفُرقة في الأمة المنسجمة، وظيفتها شيطانية بامتياز، حدَّدت مصير الفيلسوف ابن رشد و"أفضت إلى محاكمته حيث لعنه الحاضرون من كبار القوم، فتم إخراجه من المحكمة على حال سيئة، ونفي إلى قرية لا يسكنها إلا اليهود، ليس هذا فحسب، بل أمر الخليفة المنصور بحرق جميع مؤلفاته الفلسفية وبمنعه من الاشتغال بالفلسفة والعلوم ماعدا الطب" (8). عندما نتحدث عن الفيلسوف ابن رشد أو الإمام الغزالي فنحن إزاء قامتين فكريتين كبيرتين، ومساءلة وتفكيك موقفيهما هو التجسيد الفعلي لاحترامهما، نظرا للمآلات والنتائج الاجتماعية التي فجرتها أفكارهما، والتي أثرت في تغيير وتشكيل مسارات القيم المرتبطة ب: الطاعة، الاحترام، التكفير، التفكير، الانغلاق، الانفتاح..، وتبعاتها المتمثلة في خطورة الموقف الدوغمائي الذي قد يقع ضحيته المفكر. -تصنيف الفيلسوف ابن رشد للناس إلى: جمهور (الحس المشترك)، وجدليون (السوفسطائيون)، وعلماء (الفلاسفة)، ودعوته إلى عدم التصريح بتأويلات النص الديني للسوفطائييين فكيف بالعامة، "وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل، فضلا عن الجمهور، ومتى صرح بشئ من هذه التأويلات إلى من هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبُعدِها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرِّح به والمصرَّح له إلى الكفر"(9)، إن التصور الرشدي يؤسس لمصادرة الحق في حرية التعبير، ويقيم تراتبية هرمية لمراتب الناس: أدناها العامة، وأشرفها الفلاسفة، وهو موقف ينطوي على إهانة وعدم احترام الجماهير الممكنة للفلسفة، نظرا لاستشكال وصعوبة المعرفة البرهانية على العامة، وعدم احترام ممكناتها العقلية، بدعوى أن البوح لها بالتأويلات هو الذي أسس لظهور الفِرق والطوائف، وأدى إلى" شنآن وتباغض وحروب، فمزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق"(10)، إن الفيلسوف ابن رشد يدعو إلى حجب الحقيقة عن الرأي العام، احتراما للتماسك الاجتماعي. -لكن ماذا عن ازدراء الفقهاء الذين نجحوا في استفزازه؟ إن مرتبة الفقهاء مرتبة العوام "حضيض المقلدين"(11)، وابن رشد يُدرك أن الفقهاء خطباء الآلة الإعلامية الأكثر قُربا من وجدان الجماهير، ورغم ذلك لم يحترم أهداف الإقناع الحجاجي الذي كلما تفوق فيه فكريا، إلا وحصد المزيد من الخصوم واقعيا، وهذا ما جعل الفلسفة معزولة، مادامت الدعوة إلى عزلتها كانت من فلاسفتها، الذين اعتبروا أنفسهم خاصة الخاصة. *محنة غاليليو غاليلي: "حوار حول نظامي الكون الرئيسيين البطليموسي والكوبرنيكي". لقرون طويلة، هيمن التصور الأرسطي الفلكي الذي يتناسب مع معتقدات الكنيسة، التي ترى أن الأرض ثابتة، هي مركز الكون والكواكب تدور حولها، غير أن الفلكي والفيزيائي الإيطالي "غاليليو غاليلي" أثبت تجريبيا، اعتمادا على المنهج التجريبي المجهز بأدوات علمية، خطأ دعوى أرسطو، وبالتالي صحة نظرية "نيقولا كوبرنيك"، سيما وأن المنظار الذي اخترعه "غاليلي" مكنه من تسجيل وقائع جديدة، مثل وجود توابع للمشتري، مما أوحى إليه ببراديغم جديد للنظام الشمسي، يُخالِفُ أفكار الكنيسة، وما ورد بهذا الشأن في سفر الجامعة "إن الشمس تُشرِقُ والشَّمسُ تَغرُب وتُسرِع إلى موضعها حيث تشرق"(12)، وهذا ما ستعتبره الكنيسة هرطقة، وغضب العلماء من "غاليلي" الذي شكك بفهمهم للنص الديني، وصدر عن المجمع الكهنوتي سنة 1616، قرار يتهم بالهرطقة كل من يقول بدوران الأرض، واستدعى ديوان التفتيش "غاليلي" الذي وعد ب"الطاعة" وأُجْبِرَ علانية على الاعتراف بخطأ أفكاره ونظرياته، رغم صوابها حتى يُجنِب نفسه الإعدام، خصوصا وأن شبح جوردانو برونو الذي أُحْرِقَ حيا قبل ستة عشر.. مازال جامحا في ذهن "غاليلي" الذي ركع كما طُلِب منه وتلا البيان الذي أعدَّه الديوان. لقد فرضت الكنيسة الإقامة الجبرية على "ّغاليليو غاليلي" فعاش وحيدا "رازحا تحت وطأة الفاقة والمرض، ثم تعاظمت مصائبه بفقد بصره فأظلمت العينان المضيئتان اللتان اكتشفتا جبال القمر ونجوم البلياديس وتوابع المشتري وهلال الزهرة وحلقة زحل، وكتب له صديقه الأب كاستيللي: لقد أظلمت أنبل عين صنعتها الطبيعة، وا أسفاه ! وفي هذه الحالة من البؤس والألم والفجيعة فارق ذلك الرسول إلى النجوم، الذي فتح للإنسان نافذة يُطِلُّ منها على الكون في الثامن يناير 1642، وهو في الثامنة والسبعين من عمره"(13). إن مِحْنة "غاليلي" تُوجت بتصنيف مؤلفاته ضمن الكتب المحرمة تداولا وتدريسا، "ولم تُعِد له الكنسيسة الكاثوليكية الاعتبار إلا في عام 1992، أي بعد ثلاثة قرون ونصف من محاكمته، فصححت الخطأ الذي وقع في حقه". أفضت محاكمة "غاليلي" إلى انتقال الثورة العلمية إلى أوربا الشمالية، وحملت فكرة دوران الأرض، فكرة مركزية لدى الإنسان الغربي هي دوران الأفكار وحراكها ورفض الأفكار الجاهزة، واحترام قيم العقل وقيم العلم، وقيام النهضة الغربية وانبثاق أطروحات التعاقد الاجتماعي، ومفاهيم القانون، الحق، الواجب، وانتشار فلسفة الأنوار، وقيام الثورة الفرنسية في العالم القديم والثورة الأمريكية في العالم الجديد، وميلاد القيم الحداثية، التي ستُجسدها الفلسفة الكانطية، التي تُعتبر فلسفة قيم الاحترام بامتياز، وأهم هذه القيم احترام الحقيقة ونشرها، مهما كان الثمن، وهذا مغزى محنة الفلسفة، منذ إعدام سقراط، الذي أخرج الحقيقة من كهف أوهام الأفكار الجاهزة، والآراء المتصلبة، والقناعات الدوغمائية، إن واجب قول الحقيقة واجب مطلق، غير مشروط، ولا يعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات، وهذا الفِعل يستلزم الشجاعة، والجرأة والنزاهة، لأن احترام الصدق واجب أخلاقي في ذاته، بل هو أوجب الواجبات الإنسانية وفق التعبير الكانطي، حتى وإن أضَرَّت الحقيقة بالذات أو بالغير، لذلك يرْفُضُ كانط حُجَج بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة، لأنَّ هذا سيُفضي إلى شَرعنة الكذب، وتحوُّلِه إلى قانون كوني للحياة، وتَهاوِي المصداقية، وانهيار أُسُس التفاهم بين الناس، وسيادة الظُّلم والظَّلام، ومن تمَّ فقيمة الحقيقة تكمن في كونها فضيلة بالمعنى السُّقراطي للكلمة(14)، واحترام الحقيقة يتجلّى في التَّضحية من أجلها، وليس فقط مدحها وتقريظها، ومن هنا نفهم تضحية الفلاسفة بحياتهم من أجل إشاعة الحقيقة ومناهضة الوهم. إن محنة الفلسفة انتصار لاحترام الحقيقة التي يصفها اسبينوزا بالنور الذي يطرد الظلام، وهذه أعظم مِنحة تُقدمها الفلسفة للإنسانية جمعاء. 2- منحة الفلسفة: - الحداثة الكانطية ومشروعها التنويري. *جواب كانط عن السؤال: ما هي الأنوار؟ "ما هي الأنوار؟ إنها خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه. قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، تجرأ على استعمال عقلك أنت، ذلك هو شعار الأنوار. إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران بقاء مثل هذا العدد الكبير من الناس مرتاحين إلى قصورهم مدى الحياة بعد الحياة، بعد أن حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من التوجيه الخارجي، كما يفسران كم من السهل على البعض أن يُنصِّبوا أنفسهم أوصياء على هؤلاء. إنه من السهل جدا أن يكون المرء قاصرا ! فلو كان لدي كتاب يقوم مني مقام العقل، ومرشد يقوم مني مقام الضمير، وطبيب يقرر لي نظام غذائي...، فلن أكون بحاجة إلى تجشُّم أي عناء بنفسي. لست بحاجة إلى أن أفكر طالما أن بوسعي أن أدفع، إذ أن آخرين سيتكفلون بهذا العمل المُضني، فأن تعتبر غالبية الناس (بمن فيهم الجنس الضعيف برمته) تلك الخطوة نحو رشدها بمنتهى الخطورة إضافة إلى كونها أمرا مبنيا، ذاك هو ما يعمل الأوصياء على تكريسه بكل جهدهم، إذ أنهم أخذوا على عاتقهم إمعانا في لطفهم، ممارسة إشراف تام على البشرية، وبعدما دفعوا بقطيعهم إلى هذا المبلغ من الحمق، واحتاطوا بعناية كي لا تجرؤ هذه المخلوقات الوديعة على أن تخطو خطوة واحدة للخروج من الحظيرة التي حبسوها فيها، فإنهم يُطْلِعُونَها على الخطر الذي يتهدَّدُها فيها لو غامرت بالخروج وحيدة. والحال أن هذا الخطر ليس بالحقيقة كبيرا إلى هذا الحدّ، لأنها ستتعلم في النهاية المشي بعد بضع عثرات، غير أن حادثا من هذا النوع يجعل المرء جبانا والهلع الذي ينجم عنه يثني عادة تكرار المحاولة. من الصعب إذن على كل فرد أن يخرج بمفرده من القصور الذي كاد أن يصبح له طبعا. فهو قابع فيه بارتياح، وهو عاجز الآن فعلا عن استعمال عقله هو، لأنهم لم يدعوه أبدا يحاول ذلك. فالمؤسسات والصيغ الجاهزة، أدوات استعمال العقل الميكانكية هذه، أو بالأحرى أدوات سوء استعمال المواهب الطبيعية، تلك هي القيود التي كبَّلوا بها قصورا مازال مستمرا. حتى أن من يتخلص منها لن يستطيع القيام إلا بقفزة غير مأمونة فوق أضيق الحفر، لأنه لم يعتد تحريك ساقيه بحرية. وهكذا فإن الذين توصلوا بالجهد الخاص لذهنهم إلى التحرر من القصور والمشي بخطى ثابتة هم قلة. لكن، أن يستنير الجمهور من تلقاء نفسه أمر يدخل في باب الممكن، بل بالأحرى في باب الحتمي فيم لو تركت له الحرية في ذلك، لأنه سيوجد دائما بين أوصياء الجمهور المشهود لهم بعض الناس الذين يفكرون بأنفسهم، والذين بعد أن تحرروا من نير القصور، سينشرون روح التقدير العقلي للقيمة الخاصة بكل إنسان ولتطلعه إلى التفكير بنفسه. ونشير بخاصة إلى أن الجمهور الذي سبق لهم أن وضعوه تحت ذلك النير، سيُجبِرُهم هو نفسه فيما بعد على الرضوخ له، ما أن يحرضه على العصيان بعض أوصيائه العاجزين هم أنفسهم عن فهم أي أنوار: ذلك أنه من بالغ الضرر تلقين تحكيمات، لأن الجمهور سيثأر لنفسه في النهاية من أولئك الذين ألفوها أو ممن سبقوهم. فالجمهور لا يمكن أن يصل إلى الأنوار إلا ببطء. ويمكن لثورة أن تؤدي إلى سقوط الاستبداد الشخصي والاضطهاد المغرض أو الطماع، لكنها لن تؤدي البتة إلى إصلاح حقيقي لطريقة التفكير، وعلى العكس تماما، فإن تحكيمات جديدة ستظهر وستكون، شأنها شأن التحكيمات القديمة، بمثابة تقييد للجمهور العريض المحروم من التفكير. والحال لا شيء يلزم لتلك الأنوار سوى الحرية، وبالحق الحرية الأكثر مسالمة من بين كل ما يمكن أن يحمل هذا الاسم، أعني حرية أن يستعمل المرء عقله علانية في جميع المجالات. لكنني أسمع الآن صراخا من جميع الجهات: "لا تفكر" ! فالضابط يقول: لا تفكر بل نفِّذ ! ورجل المال يقول: لا تفكر بل ادفع ! والكاهن يقول: لا تفكر، بل آمن!، ولا يوجد في العالم سوى سيد واحد يقول: "فكر قدر ما تشاء وحول كل ما تشاء، إنما أطع" في كل مكان حد للحرية. لكن أي الحدود هو مضاد للأنوار؟ وأيها غير مضاد بل على العكس مفيد؟ ..... فإذا سئلنا الآن إذن: "هل نعيش حاليا في عصر مستنير؟ فإليكم الجواب: "كلا بل في عصر يسير نحو الأنوار"(15). - إن هذه الشذرات التنويرية من النص الكانطي الطويل تُشكِّلُ مرافعة قوية حول: ماذا تمنح الفلسفة للإنسان؟ ويجيب كانط، أن الفلسفة تمنح الإنسان الجرأة على استعمال عقله، وولوج عالم الأنوار، ومغادرة القصور بما فيه من أوهام وظلام، والخاصية الملازمة للأنوار هي حرية استخدام العقل علانية، وهي الحرية الأكثر سلمية. - يعترف كانط أنه " من السهل جدا أن يكون المرء قاصرا!" وهو قصور له عدة تمظهرات: قصور في احترام الإنسان لنفسه، قصور في احترام الإنسان لإعمال عقله، قصور في احترام الإنسان لرأيه، قصور في احترام الإنسان لكرامته، قصور في احترام الإنسان للآخر..، وقبول بالوصاية وسلطة العادة. - يميز كانط بين نوعين من القصور، القصور الفردي والقصور الجمعي، وإذا كان القصور الفردي، يرتبط بالفرد بسبب كسله أوخوفه من الخسارة أو طمعه في الربح، وهو قصور قصدي، ينطوي على حرية اختيار فعل ضار، مثلا غش المتعلم "القاصر" في الامتحان بغية النجاح، ودفاعه عن فعله بتحميل المسؤولية للغير، فيُعمِّقُ قصوره الذاتي، ويُشرِّع الغِشَّ لنفسه ولغيره، ليُصبح الغِشُّ أسلوب عيشه مستقبلا في كل أعماله وسلوكاته، ويتحوَّلُ إلى نمط حياة مجتمعه، وكانط يُجيزُ لهذا القاصر أن يؤجل تحصيل معرفة عليه أن يمتلكها، أما أن يمتنع عن تحصيلها، فإن ذلك يسمى خرقا لحقوق الإنسانية المقدسة ودوسا لها، سواء بالنسبة إلى شخصه، أو بالنسبة إلى الخَلَف أيضا، لكن لا يُجيز له الغِش، الذي يُنتِج القصور الجمعي، وتحويل المجتمع إلى قطيع سجين في حظيرة أشكال متنوعة من الوصايات، وصاية الحاكم، وصاية الكاهن، وصاية المربي، وصاية الأسرة..، وكل زعم أحمق لهذه الوصايات "يؤدي إلى الاستمرار الأبدي في الحماقات". -إن كانط بعدما وضَّح خطورة القصور الفردي ودعا الأفراد إلى المغادرة الطوعية للقصور الذي يُحولهم إلى آلات ووسائل يستخدمها الغير، يَكشِفُ مُغالطات القصور الجمعي وتبِعاتِه المتمثلة في تثبيت الأجيال اللاحقة في القصور، والحكم بالوصاية المؤبدة على الشعب؟ -يرفض كانط بالمطلق ممارسة الوصاية على الشعب، وحجب الأنوار الجديدة عن الإنسانية، ويعتبر هذا العمل فاقد للشرعية والمشروعية، مهما تعددت مرجعياته التشريعية والدستورية، إذ لا يمكن لعصر من العصور أن يمنح نفسه سلطة منع العصور المستقبلية من توسيع معارفها، والتخلص من الأخطاء والأوهام، وهكذا قام كانط بإقناع كل من الفرد والدولة بضرورة بلوغ مرحلة الرشد الفكري والسير في دروب الأنوار. يمتلك هذ النص الكانطي راهنية مُلِحَّة للمجتمع المغربي، وخُطَّة عمل إجرائية لمغادرة القصور والسير نحو الأنوار، وكانط يُفصِّلُ القول في مسؤولية الفرد، مسؤولية المفكِّرين، مسؤولية المؤسسة التربوية، مسؤولية المؤسسة التشريعية، مسؤولية المؤسسة الدينية، مسؤولية المؤسسة الملكية..، خاصة وأن هذا النص يدخل ضمن النصوص التي أحدثت تغييرا، في التاريخ البشري، نظرا لاحترام كانط الإمكانات العقلية الإنسانية، وتفاؤله، بإمكانية استنارة الشعب من تلقاء نفسه، وهي مسألة تدخل في باب الممكن، بل يعتبرها سيرورة حتمية لو تركت له الحرية في ذلك، سيما وأن الذين تحرروا من نير القصور، سينشرون روح التقدير العقلي للقيمة الخاصة بكل إنسان ولتطلعه إلى التفكير بنفسه، بمعنى أن كل شخص استطاع مغادرة كهف القصور، سيعمل على نشر النور، دلالة على قابلية تعليم الفلسفة، وقابلية ممارسة التفكير، واستكمال مسار المشروع الفلسفي الرامي إلى تكريس قيم الاحترام. (يتبع) *المراجع والإحالات: 1-فتاوي ابن الصلاح لأبي عمرو بن الصلاح، دار الحديث، القاهرة2007، الصفحة:96 2-سورة النحل، الآية:125. 3-سورة النمل، الآية:64. 4-Paul Ricoeur , Lectures 1. Autour du politique seuil 1991.p 132 5-سورة المائدة، الآية:101 6-اسبنوزا رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971، الصفحة:446/447 7-الدوغمائية Dogmatisme كلمة مشتقة من اللاتينية Dogma وتعني الوثوقية أي المذهب أو الاعتقاد الذي ينظر إليه باعتباره يمثل الحقيقة التي لا تقبل النقاش(في مجال الدين كما في مجال الفلسفة والعلم) معجم لالاند، عن كتاب منار الفلسفة السنة الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، TOP EDITION، الطبعة الأولى2007، الصفحة:194. 8-حكيمة أغريس وسعيد الراشدي، محنة الفلسفة الفلسفة ومكانة حضورها في النظام التربوي المغربي، العدد السابع،2014، الصفحة:10. 9-ابن رشد، فصل المقال في تقرير مابين الشريعة والحكمة من الاتصال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة، 2002، الصفحة: 119\118 10-نفسه، الصفحة:122 11-نفسه، الصفحة:125 12-محمد عبد الجواد، أشهر المحاكمات في التاريخ، الدار العالمية للكتب والنشر، البطبعة الأولى:2012، الصفحة46. 13-نفس المرجع، الصفحة:48. 14-عن نص الفيلسوف كييركجار kierkegard مقتطف من كتاب منار الفلسفة، السنة الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، TOP EDITION، الطبعة الأولى2007، الصفحة:113. 15-دفاتر فلسفية،العدد6، الحداثة، إعداد، محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي، ما هي الأنوار؟ ترجمة حسين حرب، الطبعة الثانية:2004، الصفحة:44/45/46/47.