الهدوء الذي يسكن هذه الغرفة من المستشفى لم يكن هدوءا عاديا أو بريئا، كان نتيجة حتمية لحالة التعاسة التي تسكن في نفس من يضطجع خائر القوة على السرير المتهالك، تماما كبيته الطيني الذي تهاوى في تلك الليلة المطيرة الصمت انعكاس لخرس وجودي للسان تراجع إلى أعمق نقطة في نفسه. حتى أنه لم يعد يغريه أن يند عنه أي صوت، وحين يفد ممرض أو طبيب ليتفقد حاله لم يكن يجيب عن أي شيء، مستسلما لإغراء مكتوم في الموت. قرر الطبيب أن ينفخ أملا في جسد الغرفة الصامتة الباردة فقال: إن الحالة ليست سيئة تماما، وخلال يومين يمكنك مغادرة المستشفى. العينان اللتان لم تتحولا عن الجدار، تنظران إليه بغضب كبير، ذلك النوع من النظر الذي لا يحتاج للمواجهة. سحب الطبيب إلى أعماقه وسلط بعينيه الداخليتين صورته على الجدار. هاهو الرجل الذي يرتدي وزرة بيضاء وتتدلى فوق صدره سماعة طبية يقول له صار بوسعك أن تخرج للعراء. على نفس الجدار الأبيض المقشر صورة أخرى قديمة تنبثق تفاصيلها الباهتة اللون من عينيه المتعبتين، صورة الليلة المطيرة، الليلة الباردة جدا، وينبغي أن تكون باردة كي تتفنن الحياة في عدائها الدائم له. هو يعرف أن كل ما يحدث له يجري بإتقان تام. فقبل عام كانت بنته الوحيدة قد فارقت الحياة، تلك الزهرة الوحيدة في خلاء حياته البائسة ينبغي أن تكون وحيدة كي يكتمل معنى الخراب بعدها وكي يواجهه سريرها الفارغ كل يوم ويدفعه للجدار ليتهاوى باكيا. لم تمت بسبب مرض يعرفه، بل بسبب داء نادر كلما سأله أحدهم عنه كان يدس يده في جيبه كي يريه اسم المرض الذي دونه الطبيب على ورقة تسكن جيب سترته الماحلة. هو يحظى بهذا من زمن بعيد، يحظى بكرم كبير في قدر الألم المتقن الذي يتعرف عليه كل يوم. في الليلة المطيرة ذاتها ولأنه صار يمتلك يقينا بتلك العناية الخاصة التي يحظى بها، كان يقول لنفسه سيتهاوى هذا البيت لا محالة، فهو بيت طيني صغير من حجرتين مفتوحتين على بعضهما وفي زاوية إحداهما، قرب الباب، اقتطع ركنا صغيرا لينعم مثل جميع الناس بزاوية يطرح فيها فضلاته. وفي عمق هذا الركن ثبت الصنبور الوحيد الذي كلما ضاقت زوجته ذرعا وقالت كيف نطبخ بماء يخرج من مرحاض، كان يصحح لها دائما: الماء يخرج من الحنفية التي في المرحاض. الزوجة التي ماتت حزنا على ابنتها غسلها بنفس الماء، الماء الذي يخرج من الحنفية التي في المرحاض. تحت شلال المطر كان البيت يتهاوى أمام عينيه، في البداية سقطت الخشبة الكبيرة التي كانت تحمل الأخشاب المتقاطعة التي تسند السقف وخيل إليه أنه رأى زوجته تخرج عارية من قبرها وتركض نحو الخشبة لعلها تسندها قبل أن تهرع إليه وتقف بجانبه في العراء. مرت لحظات وإذا بالجزء الثاني من البيت يسقط حينها خرجت الصغيرة بعيون زائغة ووقفت بجانبهما في العراء. قبل أن ينتهي كل شيء، كانت الأم قد عادت لقبرها وهي تشد على كف ابنتها، شيعهما بعينيه وهما يغيبان في الظلام. في العراء خارجه تماما، خارج زوجته وخارج ابنته، كان خيط وعي رفيع مايزال ينبض في أعماقه، وعي حمله خارج نفسه، وقرر ألا يصرخ، استرخى هناك أمام شاشة بيضاء يصنعها جدار مقشر، تتوالى عليه صور عراء صنعه انسحابه من نفسه ومن كل شيء. لقد قرر أن يموت بشكل متقن.