منذ أسابيع، اشتعلت نار السجال واشتد أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي بين الأخصائي في التغذية المثير للجدل محمد الفايد وبين عدد من فقهاء الشريعة ببلادنا، بل تخطت هاته «الفتنة» الحدود عندما دخل عدد من علماء وأساتذة الفقه في عالمنا العربي والإسلامي ليدلوا بدلوهم في الموضوع، فالأمر جلل عندما يتعلق بالحديث عن مسائل ترتبط بالمعتقد الديني من قبيل رحلة الإسراء والمعراج ويوم الحساب الأكبر ومصير المسلمين والكفار بين الجنة والنار.. تلك هي المحاور التي تجرأ الفايد على الخوض فيها، خلال مونولاجات تحظى بمتابعة واسعة على قناته على موقع «يوتيوب»، قناة اكتسبت شعبيتها في زمن كورونا بفضل نصائح الفايد الوقائية والعلاجية من الوباء عن طريق نظام يمزج بين التغذية الصحية وأنواع من مغلي الأعشاب. ولم يشفع للفايد الذي يقول عن نفسه إنه «دكتور دولة ودارس للشريعة وحافظ لكتاب الله ويتحدث سبع لغات»، تاريخه المدافع عن التراث الإسلامي خاصة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن وفي الأحاديث النبوية فيما يرتبط بالتغذية الصحية، حيث وجد نفسه في قلب الإعصار جراء سيل من الانتقادات والهجومات وصل حد السب والشتم والوصم بالزندقة والتكفير.. وزاد من حدة السجال انبراء جيش متابعي ومعجبي الدكتور الفايد للدفاع عنه والرد بنفس أسلوب «المقابلة» على منتقديه. ولم تهدإ العاصفة على الرغم من إصدار الفايد لاحقا لبيان «توضيحي» يؤكد فيه عدم إنكاره للثابت من الدين بالضرورة واحترامه للعلوم الشرعية مع طموحه إلى أن يجمع علماء المسلمين بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية.. استدراك الفايد لم يسلم بدوره من الانتقاد والتمحيص والتدقيق، في إطار فصل المقال فيما يتردد ويقال حول ماهية العلوم الكونية وموقع العلوم الشرعية، وعن أهلية المتحدثين والعلماء المُحدَثين للخوض في مسائل الدنيا والدين… «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. وفتنة الخلاف في الرأي والتشدد له ليست وليدة واقعة الفايد مع علماء الشريعة ببلادنا، بل تكاد تكون رديفة لتاريخ الإسلام والمسلمين منذ وفاة الرسول الأكرم عندما اندلع الخلاف حول من يخلفه في إمامة المصلين وقيادة الأمة الإسلامية آنذاك. ويشهد النص القرآني نفسه على عدد من الوقائع حتى في حياة الرسول حيث احتدم الخلاف بين أصحابه وكان الوحي وحده هو القادر على كبح جماح صراعهم والحافز لإعادتهم إلى وحدة الصف خلف قائدهم رغم ما يفرقهم من عدم اصطفاف في الرأي ووجهات النظر. كما تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان ما تحفل به صفحات التاريخ الإسلامي من حكايات عن الحروب بين «العلماء والفقهاء» المسلمين، كما يصنفهم البعض، على الرغم من أن أغلب علماء المسلمين في الرياضيات والفيزياء والطب يشهد لهم التاريخ أيضا بأنهم كانوا على جانب كبير من التفقه في الدين، وعلما أن عددا من فطاحلة الفقه في تراثنا الإسلامي بدورهم لم يسلموا من تهم التكفير والزندقة. ويسجل التاريخ كذلك أن السجالات التي كانت سببا في «الاضطهاد» والقتل الحقيقي والمعنوي اللذين تعرضت لهما تلك الشخصيات الإسلامية، كانت في نفس الوقت، وهي مفارقة أبدية، عنوانا لحرية التعبير والصراع بين الأفكار في ظل ثورة فكرية وإنسانية عجيبة عرفها المجتمع الإسلامي على امتداد قرون بعد وفاة الرسول، لم يتردد روادها في الخوض حتى في الإلاهيات وفي تحليل النص القرآني من منظور فلسفي.. ولازالت آثار تلك الجرأة الفكرية مستمرة إلى يومنا في تعدد المذاهب الناتج عن تعدد الفرق الكلامية والأقوال الفقهية للسلف.. في هذه السلسلة، نحاول أن نعيد تسليط الضوء على هذا الجانب المثير من التاريخ الفكري للمسلمين، نذكر فيها بشخصيات كانت مثار جدل وصراع اختلط وتأثر فيه التفكير الديني بالمؤثرات السياسية والإنسانية للمجتمع. ثم نعرج لاحقا على بعض ما أنتجه المفكرون المسلمون أيضا من أدبيات ترمي إلى تأطير الاختلاف والحد من أثاره المدمرة على الأشخاص وعلى المجتمع، وذلك في سياق ما أسموه ب»فقه الاختلاف» الذي أفردوا له جانبا مهما من جهودهم في البحث والتأمل والتأصيل. ابن رشد.. نكبة بين الفلسفة والسياسة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد هو من مواليد القرن السادس الهجري (حوالي 520 هجريا/1126 ميلاديا) بمدينة قرطبة الأندلسية. اشتهر في التراث الإسلامي بلقب "ابن رشد الحفيد" تمييزا عن جده "قاضي القضاة ابن رشد" الذي كان من أكبر فقهاء المالكية في تاريخ الأندلس وسمي الحفيد على اسم جده لأنه ولد بعد شهر من وفاته. نشأ ابن رشد في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس. درس في صغره العلوم النقلية، كعادة عصره، وخصوصا الفقه المالكي وأصول العقيدة على المذهب الأشعري، وعلوم اللغة وعلوم التفسير والحديث. حفظ موطأ الإمام مالك، وديوان المتنبي. كما درس الطب والرياضيات والفلسفة. دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. وأصبح معروفا كواحد من أهم فلاسفة الإسلام بعد أن نقل كتب أرسطو إلى العربية وبرع في علم الخلاف. ومارس ابن رشد الطب وتولى قضاء قرطبة وفي عام 578ه/ 1182م. عرفه الأوروبيون معرفة واسعة تحت اسم (Averroes). وقد ساهمت شروحه في ازدياد تأثير أرسطو في الغرب القروسطي. أثرت مدرسة ابن رشد المعروفة بالرشدية في الفلسفة تأثيرا قويا على الفلاسفة المسيحيين في أوروبا القروسطية أمثال توما الأكويني، واليهود أمثال موسى بن ميمون وجرسونيدوس. وعلى الرغم من ردود الفعل السلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين إلا أن كتابات ابن رشد كانت تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى. وظلت المدرسة الرشدية الفكر المهيمن في أوروبا الغربية حتى القرن السادس عشر الميلادي. وقد قدم في كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" مسوغا للتحرر من العلم والفلسفة من اللاهوت الأشعري، وبالتالي أعتبر بعضهم الرشدية تمهيدا للعلمانية الحديثة. أحصى الباحثون مؤلفات ابن رشد في 108 مؤلفا، وصلنا منها 58 مؤلفا بنصها العربي. كما يصنف محمد عابد الجابري مؤلفات ابن رشد في سبعة أصناف: منها العلمي والنقدي والفلسفي.. وفيما اعتبره الكثير من المؤرخين رائدا للفلسفة، يرى آخرون أنه كان في الحقيقة "ناقلا" للفلسفة وليس بفيلسوف، رغم آنه حاول أن يوفق بين الفلسفة الأرسطية وبين العقيدة والفقه الإسلاميين. وهناك من ينكر على ابن رشد حتى محاولته تلك في قراءة الفلسفة بمنظار الشريعة، معتبرا أنه سلك سبل من سبقه من الفلاسفة في الكفر والضلال، وخاصة في كتابه الشهير "تهافت التهافت"، وكتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، حيث أكد ابن رشد على التفكير التحليلي كشرط لتفسير القرآن، خلافا لما كان متداولا. كما اعتقد ابن رشد بقدم العالم وأزليته. فاعتبره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" وابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل"، فيلسوفا "ضالا ملحدا يقول بأن الأنبياء يخيلون للناس خلاف الواقع". وقالا إنه إن حاول التوفيق بين الشريعة وفلسفة أرسطو، فهو في موافقته هذه وتعظيمه لأرسطو وشيعته "أعظم من موافقة ابن سينا"، وأضافا أنه "انتصر للفلاسفة الملاحدة في "تهافت التهافت"، ويعتبر من باطنية الفلاسفة، وإلحادياته مشهورة". ويذكر الباحثون أن نقل ابن رشد لفلسفة أرسطو وقراءاته فيها كانت سببا وجيها لفقهاء زمانه ليحكموا عليه بالكفر والزندقة، وبالتالي حدوث "النكبة" التي يوصف بها مصيره من العز والثراء والأثرة عند الحكام إلى النبذ والإقصاء والأمر بحرق كتبه. لكن يمكن القول مع ذلك إن الروايات اختلفت حول أسباب نكبة ابن رشد، حيث لفتها عدة عوامل منها الديني والشخصي والسياسي، ويبقى هذا الأخير مرجحا. ويذكر المفكر والباحث محمد عابد الجابري في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية" نكبة ابن رشد في قوله: "عندما قرر يعقوب المنصور الموحدي إلحاق الأذى بابن رشد وجماعة من العلماء وتنفيذ النكبة التي قررها لهم أصدر منشورا يتهمهم فيه تهمة الانحراف عن الدين في كتب لهم وصفها بأنها مسطورة في الظلال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض من الله" لهذا يقول الخليفة المنصور: "فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه … والله تعالى يظهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق". ويخلص الجابري إلى أن ابن رشد: "لم يحاكم ولم تصادر كتبه ولم تحرق بسبب الدين، الذي اتخذه خصومه غطاء، ظلما وعدوانا، كما جرت بذلك عادة المستبدين وسدنتهم، وإنما حوكم بسبب هذا الكتاب الذي أدان فيه الاستبداد". ويقصد كتاب "الضروري من السياسة" الذي ينتقد فيه ابن رشد الوضع السياسي في زمنه بشكل مباشر، قائلا: "وليس الأمر كذلك في مدينة الغلبة؛ إذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضا، وإنما يطلبون أغراض أنفسهم وحسب.. كما هو الحال في الأجزاء الإمامية الموجودة في المدن الحاضرة في أيامنا هذه".