وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسياسة أفريقية جديدة خلال الحملة الانتخابية عام 2017. ووفقا لذلك، ستكون باريس الآن "شريكا إستراتيجيا" للقارة السمراء، وستعمل على تطوير علاقات مبنية على أساس المكاسب العادلة والمتبادلة معها، إلا أن تلك الوعود ظلت بالنسبة إلى البلد الأوروبي حبرا على ورق. وعانت إدارة ماكرون في السنوات الأخيرة من إخفاقات كبيرة في أفريقيا، لاسيما في مجال مكافحة الإرهاب، وكذلك السياسة والاقتصاد. ونتيجة لذلك، بدأت المستعمرات الفرنسية السابقة التي سُحقت تحت السياسات الاستعمارية لباريس لسنوات عديدة، في إظهار عدم رضاها عن تلك السياسات من خلال الاحتجاجات الشعبية ومحاولات الانقلاب. وعلى سبيل المثال، جاء الانقلاب الذي حدث في بوركينا فاسو نهاية سبتمبر الماضي ضد الزعيم المخلوع بول هنري سانداوغو داميبا، بمثابة ردّ على فشله في محاربة الإرهاب وجر البلاد إلى الفوضى، وهو ما اعتبر مؤشرا على تراجع مكانة فرنسا في أفريقيا. وبينما بدأ دور الولاياتالمتحدة يتراجع في أفريقيا، خاصة منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بدأت فرنسا تفقد قوتها في القارة يوما بعد يوم، في وقت بدأت كفة النفوذ الأجنبي في المنطقة تميل نحو الروس، الذين وجدوا في أفريقيا متنفسا لهم وملاذا لتخفيف وطأة العزلة التي تعيشها موسكو على الساحة الدولية. روسيا المدفوعة نحو العزلة عن الساحة الدولية، تجد نفسها بحاجة ماسة إلى بناء تحالفات تعاون جديدة من أجل البقاء لاعبا مهما في المعادلة الدولية وفي هذا السياق، يمكننا القول إن أنشطة مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية روسية خاصة، تعتبر عاملا يزيد بشكل كبير من النفوذ الروسي في أفريقيا، رغم عدم اعتراف إدارة موسكو رسميا بأنشطة الشرطة في القارة، لاسيما أن بعض الدول الأفريقية التي تعاني مشاكل أمنية عميقة مثل الإرهاب والصراعات الداخلية والانقلابات ولكن ليست لديها موارد كافية لمواجهة ذلك، تعرب عن استعدادها لتوقيع اتفاقيات لضمان الأمن مع فاغنر مقابل تنازلات اقتصادية. وعلى أي حال، لم يقتصر هذا التعاون على المجال العسكري فحسب، بل امتد أيضا إلى المجال السياسي حيث بدأ الروس تقديم خدمات الاستشارات السياسية، ما دفع القارة السمراء نحو جولة جديدة من صراعات النفوذ عنوانها هذه المرة الصراع الفرنسي والروسي. وبعد عملية إنهاء الاستعمار، أولت فرنسا أهمية كبيرة لإستراتيجياتها العسكرية في سياساتها الاستعمارية الجديدة تجاه أفريقيا، كما وقعت باريس اتفاقيات تعاون عسكري مع أكثر من 40 دولة في القارة. وتشكل هذه الاتفاقيات، التي تتكون من عناصر مثل بناء القدرات لضمان السلام والاستقرار، ومكافحة القرصنة والتهريب، ومنع الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب، الأساس القانوني للوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا. وتمتلك باريس قواعد عسكرية في مواقع إستراتيجية مختلفة في القارة الأفريقية، لعل أبرزها في جيبوتي، وهي أكبر قاعدة فرنسية في الخارج، والقواعد في ساحل العاج، فيما توفر نظيراتها في السنغال والغابون الدعم الأمني للدول المضيفة والدول المجاورة كقواعد إقليمية للعمليات. إدارة ماكرون عانت في السنوات الأخيرة من إخفاقات كبيرة في أفريقيا، لاسيما في مجال مكافحة الإرهاب، وكذلك السياسة والاقتصاد ومنذ عام 1960 أجرت فرنسا أكثر من 60 تدخلا عسكريا في أفريقيا، وبلغ وجودها العسكري في القارة قرابة 8700 جندي في 2019، بما في ذلك القوات والوحدات الدفاعية والقوات الخاصة. ومع ذلك، وبعد انسحابها من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى عام 2022، انخفض عدد القوات الفرنسية في المنطقة بشكل ملحوظ، إلا أن هذا الانخفاض وعلى عكس تقديرات العديد من الخبراء، لا ينبغي أن يفسّر بأنه انسحاب وتخل عن الوجود العسكري لفرنسا في أفريقيا، ذلك لأن باريس تبحث الآن عن بنية جديدة من شأنها أن تتيح لها وجودا عسكريا أكثر فاعلية في المنطقة وبعدد أقل من الأفراد والعسكريين. وفي هذا السياق، أجرى وزير الخارجية والدفاع الفرنسي في الأشهر الأخيرة جولات وزيارات رفيعة المستوى إلى مختلف البلدان الأفريقية، حاملا معه ما يعتبر "عروضا جديدة"، في وقت تعتزم باريس مشاركة الشركاء الأوروبيين بما في ذلك المملكة المتحدة المزيد من المهام والسلطات في الملفات التي تتعلق بالأمن الأفريقي. ومن الممكن القول إن الصين لديها اليوم تفوق أكبر في التجارة والاقتصاد بأفريقيا. وفي المراحل الأولى أظهرت دول القارة ارتياحها من الوجود الصيني الذي لا يتدخل في قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويوفر تسهيلات مهمة في مجال نقل الموارد المالية. ومع ذلك، وبمرور الوقت، بدأت العلاقات مع الصين تثير تساؤلات بعد أن تحول الجانب أفريقيا إلى جانب مكبّل من خلال "دبلوماسية الديون" واتفاقيات الاستثمار مع بكين، فيما حوّلت إدارة ترامب تركيزها من القارة السمراء إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ في السياسة الخارجية، في وقت فقدت فرنسا قوتها في أفريقيا بعد فشلها في ملفات مختلفة أبرزها السياسة والجيش، فضلا عن الجانب الاجتماعي والثقافي. أنشطة مجموعة فاغنر تعتبر عاملا يزيد بشكل كبير من النفوذ الروسي في أفريقيا ومن جهتها، فإن روسيا المدفوعة نحو العزلة عن الساحة الدولية بسبب "سياساتها العدوانية" في أوكرانيا، تجد نفسها بحاجة ماسة إلى بناء تحالفات تعاون جديدة من أجل البقاء لاعبا مهما في المعادلة الدولية. وهكذا، تمكن الروس من زيادة نشاطهم خلال وقت قصير في القارة السمراء، من خلال مجموعة فاغنر، التي ساهمت في توفير حلول للاحتياجات الملحّة مثل الاستشارات السياسية والعسكرية ودعم التسلح. وتسعى فرنساوأوكرانيا للحد من نفوذ روسيا في القارة، في وقت بدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اتخاذ خطوات من أجل عودة قوية لواشنطن إلى الساحة الأفريقية. وفي هذا الإطار، أعلن بايدن دعمه مطالب الأفارقة بالتمثيل الدائم في مجموعة العشرين ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما وعدت واشنطن بتخصيص 55 مليار دولار مساعدات لأفريقيا في السنوات الثلاث المقبلة والتعاون في العديد من المجالات. وأخيرا، نستطيع القول إن الساحة الأفريقية سوف تكون في الفترة المقبلة مسرحا للمزيد من الجهات الفاعلة وصراعات النفوذ، في وقت يشهد تفوقا من الجانب الصيني على الجهات الفاعلة الأخرى في المجال الاقتصادي بحجم تجارة يصل إلى 255 مليار دولار. كما من غير المتوقع أن تصل أي من الجهات الفاعلة الأخرى إلى هذا الرقم على المدى المنظور رغم سعي روسياوالولاياتالمتحدةوفرنسا والمملكة المتحدة إلى تغيير التوازنات في المجالين السياسي والعسكري في القارة السمراء.