الحلقة 23 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدةوآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. الرحامنة مشهورون بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش أقسام الرحمانة ينقسم الرحامنة إلى خمسة «أخماس» أو دوائر إدارية. فالبرابيش يشكلون خمساً، وأولاد سلامة خمُسيْن اثنين وأولاد بوبكر خمُسيْن اثنين. وتضم مختلف في هذه القبائل مجموعة من الزوايا. فقد قيل لنا إن عددها يصل إلى ثلاث عشرة زاوية، وهي : زاوية مولاي عبد الله بن ساسي وزاوية أولاد سيدي البهيلي وزاوية أولاد سيدي بن عزوز وزاوية أولاد سيدي عبد الكريم وزاوية أولاد بابا عيسى السلموني وزاوية أولاد سيدي أحمد الركيبي وزاوية أولاد سيدي الناجي وزاوية أولاد مولاي عمر وزاوية أولاد سيدي امحمد بلكرن لدى أولاد بوبكر، وزاوية أولاد سيدي عبد الله بولعوينة وزاوية أولاد سيدي مفتاح لدى أولاد سلامة، وزاوية أولاد الزعرية لدى البرابش. الرحامنة في مراكش لقد اشتهر الرحامنة بأنهم كانوا دائمي الترويع لمدينة مراكش، وما أكثر ما تحدثنا كتب التاريخ عن الاعتداءات التي كانوا ينالون بها سكان هذه المدينة. ولقد أمكن لهم أن يكوِّنوا لهم من سكان المدينة فصيلاً عظيم العدد، وحتى لقد صاروا في هذه الآونة يتبجحون بأن هيمنتهم قد وجدت ما يشبه الاعتراف الرسمي بالتعيين الذي تم لقايدهم عبد الله عبد الحميد في ذلك الوقت نفسه باشا على مراكش. وقد كان للرحامنة نحو مراكش أشبه بالدور الذي كان للبرابر نحو فاس. وحيث إن سلاطين المغرب كانوا كثيراً ما يقيمون في مدينة مراكش خلال أواخر القرن التاسع عشر فلقد تبوأ الرحامنة بفضل هذا القائد مكانة بارزة في تاريخ المغرب. وتبوأوا تلك المكانة خاصة على أثر وفاة مولاي الحسن في سنة 1311ه.، فلقد دبروا عند حدود ترابهم على وادي العبيد لتمرد عرض دولة الفيلاليين لمصاعب جسيمة. تمرد الرحامنة وسنسوق في ما يلي بعض التفاصيل عن ذلك التمرد الذي كان من الأهالي، حسب معلومات استقيناها من بعض الأفواه. ومع أنها معلومات استقيناها من مصدرين مختلفين؛ الأول من مراكش والثاني من الرحامنة، فلا يمكننا أن نتغاضى عن وجود الكثير من الوثائق الداخلة هذا المدخل والتي ينبغي أخذها بالحيطة والحذر. غير أنه لما كان الأمر يتعلق بوقائع لم يجر تدوينها بعدُ، باستثناء ما تناقلت منها المراسلات الصحافية لتلك الفترة، فلربما كان في هذا الأمر ما يوجب إيلاءها بعض الاعتبار، غير أننا نسوقها ههنا مع أخذها بكل التحفظات. لقد تولى سي عبد الحميد القيادة على الرحامنة لما يقرب من 35 سنة، وإن لم تخل تلك الفترة لديه من انقطاعات؛ فقد تعرض خلالها للسجن أربع مرات. وكان قبل وفاة السلطان الأخير [مولاي الحسن]، يتصل بعلاقة طيبة بأخيه مولاي امحمد، الذي من المفترض أن تصير له الشهرة بعد أن انتحل الروكي بوحمارة اسمه وشخصيته، وأودع السجن بأمر من مولاي الحسن. فلم يتورع سي عبد الحميد عن الانحياش إلى جانب مولاي امحمد وطلب له العفو وألح فيه، بما أثار إليه ريبة الجهات العليا، فكان أن أودع السجن هو الآخر. وبينا هو في محبسه خرج الرحامنة إلى التمرد. وقد كان عليهم وقتها «قياد» كثرٌ، وكانوا كمثل سائر القياد المغاربة قد صاروا مبغوضين من السكان بما كانوا ينولونهم من ضروب العسف، فطالب الرحامنة بتنحية معظمهم واستبدالهم بآخرين. فلم يلقوا قبولاً من المخزن في حينه، غير أن القياد خافوا على أرواحهم فلم يجرؤوا على الالتحاق بمراكزهم ولبثوا في مراكش التي جاؤوا إليها بمناسبة أحد الأعياد الدينية الكبرى. وفي تلك الأثناء كانت وفاة مولاي الحسن. وسرعان ما اشتد تهديد الرحامنة، فجاءوا إلى مراكش يطالبون بأن يسلَّم إليهم أولئك القياد. فعقد باشا مراكش مجلساً، وقرر على سبيل استرضاء المتمردين أن يضع أولئك القياد في السجن بصورة مؤقتة، في انتظار القرار النهائي الذي سيكون من السلطان المقبل. وقد كان القياد يعلمون أنهم إن كانوا سيدخلون سجون المخزن بتلك السهولة فسيكون من العسير عليهم أن يخرجوا منها. وفكروا في وسيلة تكفل لهم السلامة والأمان، فكان أن فر أربعة من جملة ثمانية منهم والتجأوا إلى بعض الزوايا. وأما الخامس، واسمه عباس الزبيري، وكان صديقاً حميماً لمولاي امحمَّد، فقد تحصن في منزله ووزع الأسلحة على عبيده ليدافع بهم عن نفسه. وقد حاولت قوات المخزن عبثاً أن تنتزعه من بين أسوار منزله فكان يرد جميع الهجومات عليه ويكبد تلك القوات الخسائر الثقيلة. وقيل إن الأمر انتهى بأن صعد أحد «قياد الميا» إلى صومعة سيدي بلعباس القريبة من ذلك الموضع، ومن هناك سدد إلى المتمرد رصاصة في فناء منزله فأرداه قتيلاً، وكذلك قُتل معه أخوه، واقتيد الثلاثة الآخرون إلى السجن. غير أن تلك الاعتقالات لم تجد في تهدئة ثائرة الرحامنة، فظلوا يمعنون في التمرد، محتجين بأنهم يريدون عليهم قايداً آخر بدلاً عن عباس الزبيري، ويتعلق الأمر يرجل لم يكن يحظى بثقة المخزن، وقد كان من قبل قايداً على الرحامنة، ثم كان له ضلوع في بعض الفتن والاضطرابات التي نراها اليوم، وهو رحماني ويدعى الطاهر بن سليمان. لكن مطلبهم قوبل بالرفض من الباشا، فجاءوا بأعداد كبيرة حتى أسوار مراكش، فلزم إغلاق أبواب المدينة. لكن اشتد ضغط المتمردين، فلم يعد بد من تسليمهم الطاهر بن سليمان وسمح له بالالتحاق بأبناء قبيلته، مع التنبيه له بالعمل على تهدئتهم. وعلى العكس من ذلك فقد جعل منه الرحامنة قائداً لتمردهم. وكان أن طال ذلك التمرد سنة. وقد ظل المتمردون خمسة أشهر يمعنون في النهب والتخريب في نواحي مراكش، اجتمع للطاهر بن سليمان خلالها سوقات من سائر نواحي الحوز، فتقدم بهم حتى جاء المدينة، وفعل كما يفعل الروكي اليوم؛ فقد طالب بتسليمه مولاي امحمَّد مقابل كفه العدوان عن المدينة. وعقد باشا مراكش مجلساً للتشاور، قرر على أثره أن يرد بالمقاومة، وأعلم المخزن في فاس بالأمر. فلما خرجت قوات السلطان من فاس وشرعت في زحفها على مراكش تقدم الرحامنة ليمنعوها من عبور وادي أم الربيع، لكنهم عجزوا عن ذلك الأمر، وأمكن للمحلة أن تجتاح الحوز. وتوحد المتمردون كما لم يكونوا من قبلُ. ودُفع قائدهم برجاله الذين من حوله، فانجرف بالأحداث أكثر مما كان هو الموجه لها، ولم يكن ليتكهن بنهايته الوخيمة. فقد تفاحشت الانقسامات في صفوف المتمردين بتدبير محكم من المخزن بما كان يُعمل فيهم من الرشاوى ويدبر بينهم من المكائد. فإذا الطاهر بن سليمان قد صار لا يستطيع أن يفرض شيئاً من قراراته. ثم وقعت عليه الهزيمة، لكنه أفلح في الفرار والالتجاء إلى زاوية سيدي الزوين في بلاد احمر. فأخطر المخزن الأولياء بوجوب تسليمه، وكان الطاهر بن سليمان يتشبث بكل قواه باللواء الذي يغطي قبر الولي، فحذر الأولياء من مغبة المس بذلك الغطاء، إلى أن استقر الرأي على أن يخرجوه هو والغطاء ويسحبوه إلى خارج الزاوية. فإذا صار خارجها أمسك به المخازنية وحملوه إلى مراكش. وهنالك وضعوه في قفص حمَّلوه فوق ظهر بعير وجعلوا يطوفون به في أرجاء المدينة، وهي إهانة كثيراً ما كانت تُنزَل بالمهزومين من أمثاله. ثم أُلقيَ به في السجن في مراكش؛ حيث سيلقى حتفه وقتاً يسيراً من بعدُ قتيلاً بالسم، وقيل بأمر من باحماد الذي خشي فراره فارتأى أن يتخلص منه بصفة نهائية قبل أن يخرج في حركته على الشاوية. ثروة سي عبد الحميد ما أن تحقق للسلطان دخول مراكش بعد أن كسر شوكة المتمردين، حتى انبرى يعيِّن القياد على الرحامنة. لقد كان في التنافسات المستعرة بين مرافقي الطاهر بن سليمان، وربما كان في خيانتهم، ما قضى على التمرد بالفشل، فكافأهم المخزن بما بذلوا لأجله من خداع ومن خيانه، وعيّن بعضهم في مناصب القياد. وأما عبد الحميد فقد كان لا يزال قابعاً في السجن. ثم طالبت له قبيلته عرب سلاَّم بالعفو وأن يُجعل قايداً عليها، فاستجاب لها المخزن من غير تأخير؛ وإذا عبد الحميد قد انتقل مباشرة من دهاليز السجن إلى الأضواء والتشريفات الرسمية، وهو تبدل للأحوال مألوف حدوثه في المغرب. ولقد انحاش على الفور، وفاء بما تقضي الشروط التي وضعت للإفراج عنه وتوليته القيادة، إلى جانب باحماد واعتنق سياسته والتزم مخططاته. وكان هو من أوعز إلى المخزن بمصادرة أملاك الرحمانة في مراكش؛ إذ كان لهم فيها بيوت كثيرة، وكانت بها أحياء، بينها حي سيدي بلعباس، يكادود يملكونها بما فيها. وتولى عبد الحميد بنفسه تنفيذ تلك المصادرات، وضخ بها في بيت مال المخزن مبالغ طائلة، لا يبعد أن يكون عاد عليه نصيب منها. فأصبح أقرب المقربين إلى باحمد، وحتى إن الصدر الأعظم ما عاد يقطع في شيء قبل أن يشاوره فيه. ثم انبرى عبد الحميد يزيح كبار قياد الرحامنة واحداً بعد آخر، ليحل محلهم ويصير له الحكم على سائر بلاد الرحامنة. فكان خلال هذه السنوات الأخيرة أقوى شخصية في الحوز. لقد بدا المخزن، بعد الحركة التي كانت له في صخرة الدجاجة (في ورديغة) وقد أعاد بها الهدوء إلى إقليمي الشاوية وتادلة، وبلغ من القوة فوق ما كان من قبل، فإذا القياد قد جعلوا يرسلون بالهدايا النفسية. وكتب عبد الحميد، الذي كان يومها في قيادته، إلى ابنه الذي كان في مراكش أن يدفع إلى المخزن بمبلغ كبير من المال، قيل إنه جعله ثلاثين ألف دورو، لكنه بطبيعة الحال رقم لا نملك أن نجزم بصحته. فما الذي حدث في تلك اللحظة؟ وهل صحيح أنه قد دار في خلد الابن الحاج العربي أن يدبر لذلك المخطط الجهنمي فيزيح أباه ويحل محله، أم يكون المخزن دبَّر لحيلة ماكيافيلية؛ وأنه قد سعى في إيهام الأب بأن ابنه قدم للمخزن رشوة بغرض أن يزيحه ويحل محله، ومراد المخزن أن يدفع الرجلين إلى التنافس بالهدايا يقدمانها إليه وأن يقبض من الغريمين معاً؟ تصعب الإحاطة بهذا الأمر، لكن لا يبدو أن الابن قد كان خالياً من اقتراف أخطاء شنيعة. وقيل إن المخزن أعلم عبد الحميد بأن ابنه قدم إليه هدية بمبلغ ثلاثين ألف دورو بغرض الحلول محله في القيادة، وإن عبد الحميد بادر من فوره إلى إرسال مبلغ أعظم إلى المخزن وطلب أن يوضع ابنه في السجن. ومهما يكن من أمر فالمؤكد أن الحاج العربي قد وُضع برضى وقبول من أبيه في السجن في جزيرة الصويرة ولبث فيه سنين عديدة. وتوالى بعد ذلك إيداع قياد آخرين السجونَ. وفي ذلك الوقت صار لعبد الحميد مطلق السيادة على الرحمانة. ثم عن له أن يقتل فيهم كل ميل قد يراودهم إلى التمرد في المستقبل، فكانت سيرته فيهم قوامها البطش والتنكيل، قد تركت في النفوس ذكريات لا تمحي وفي الصدور ضغائن لا تزول. فلقد بلغ بقهره في الناس كل مبلغ، وحتى قيل إنه فرض ضريبة من نصف بسيطة على كل شخص يؤديها في كل أسبوع؛ ولم يستثن منها رجلاً أو امرأة أو طفلاً. ويُحكى عنه كذلك أنه كان يأتي من الأفعال أشدها شراسة ووحشية، غير أننا يصعب علينا أن نميز في هذه الروايات بين الحقيقة والتهويل الشعبي. إلا أن المؤكد أن الضرائب المجحفة والتعسف في مصادرات الممتلكات والاعتقالات المتكررة تقع على الأشخاص من غير وجه حق قد ظلت ترهب القبيلة وتضعفها لوقت طويل. وختاماً فعندما أُلقي بباشا مراكش وعاملها بن داود في السجن بأمر من المنبهي خلفه عبد الحميد في منصبه، لكن من غير أن يُخلى من قيادة الرحامنة. اغتيال المهدي كان عبد الحميد في أوج سلطانه وقت أن وقعت أزمة «الترتيب»، ولربما كانت تلك الأزمة ستكون إيذاناً ببداية عهد المتاعب عليه لو لم ينتزعه الموت من معترك السياسة. فقد عاد من فاس في شتنبر 1902 وهو في حالة من الاعتلال الشديد، ثم كانت وفاته في مراكش بداية شهر أكتوبر وقد قامت في أواخر أيامه صراعات طاحنة على خلافته، وكان التنافس عليها بين مرشحين اثنين هما : ابنه الحاج العربي وخليفته (مساعده). وقيل إن عبد الحميد أوصى إذ هو على فراش الموت على ابنه ليخلفه من بعده. لكن خليفته، المدعو المهدي، ظل متشبثاً بطموحه إلى الظفر بتلك الخلافة. وقيل إن في يوم وفاة عبد الحميد تبادل المتنافسان عبارات المودة، ومع اعترافهما بالتنافس القائم بينهما إلا أنهما توجها إلى ضريح سيدي بلعباس ليحلفا لبعضهما هناك على ألا يستعملا في دعم ترشحهما لذلك المنصب من وسائل غير مشروعة. لكن لما أن كانا في الضريح استغل المهدي ثقة غريمه الحاج العربي فرماه برصاصة من مسدسه ثم أجهز عليه بطعنة من خنجره في داخل ذلك الضريح. ولا يبعد أن يكون اطمأن إلى تواطؤ رجال الضريح وإياه، إذ أمكن له الخروج من ذلك المكان في غير مشقة أو اعتراض. ثم انبرى يبذل المساعي ويجزل العطايا من الذهب حتى لا يتعرض للاعتقال. وكذلك كان؛ فقد أفسِح له ليتوجه وابنه إلى فاس، ليُتم فيها جريمته ويشتري القيادة. أزمة الترتيب لقد سبق لنا أن أشرنا إلى الأزمة التي وقعت بسبب «الترتيب»، وسيتسع لنا المجال في ما بعد لنتوسع في تبيان تلك الأزمة والإحاطة بتفاصيلها. وحسبنا ههنا أن نقول إن النتيجة الواضحة الجلية، وربما كانت النتيجة الوحيدة القابلة للفهم، التي كانت لإعمال الترتيب على البوادي هي المتمثلة في توقف أهلها عن دفع الضرائب. وفي ما خلا بعض القبائل المتفرقة على المناطق والجهات، خاصة منها القبائل الداخلة تحت نفوذ سي عيسى بن عمر في نواحي آسفي، وهي التي لا تزال تؤدي الضرائب، فإن [قبائل] الحوز لم تدفع ضرائب منذ أربع سنين، ولا عاد القياد يتجاسرون على الوصول إلى قياداتهم، وأما إذا كانوا فيها يقيمون فإنهم قد أضحوا يتحصنون في القصبات والحصون. وكانت النتيجة أن السكان سرعان ما بدأوا يتذوقون رغد العيش، ثم إنهم قد تخلصوا من الاستغلال الرهيب الذي كان يقع عليهم، فاستعادوا الثقة في أنفسهم؛ فإذا الفلاحات قد بدأت تعرف التوسع، والأبنية تطلع في أكثر من جهة وأكثر من ناحية. بيد أنها مظاهر لم يضرب منها الرحامنة بنصيب؛ هم الذين معظم عيشهم على الرعي. ومع ذلك فقد باتت المطامير لديهم ممتلئة والأسواق رائجة مزدهرة. ثم إذا أثمنة الخيول والسروج والأسلحة قد صارت إلى ارتفاع في وقت وجيز بسبب من الإقبال الكبير الذي أصبح يقع على هذه الأشياء المعدودة عند الأهالي من الترف. وعلى العكس من ذلك انقطعت حركة التصدير؛ ذلك بأن الفلاح ما عاد يشكو من الجوع ولا عاد يجدُّ ويجتهد في كل الأوقات في البحث عن الوسائل للحصول على المال يلاقي به الجشع الذي لا يتوقف من القايد عليه، فإذا هو قد شرع يكنز ويدخر. وتأثرت التجارة الأوروبية بشدة من النتائج العكسية لهذا الأسلوب الجديد. ورأى التجار الأوروبيون كيف صارت الصادرات إلى تناقص، فأخذوا يشتكون من هذا الأمر. لكن المغاربة من أهل الحوز مغتبطون لهذا الوضع، فأنت تسمع الكثيرين منهم اليوم يدعون للسلطان الذي كانوا يلعنونه بضع سنين قبلُ. وإن معظمهم قد وطنوا أنفسهم بحسن نية على أنهم سوف لا يدفعون بعد ضرائب. والواقع أن المخزن بات في وضع لا يبشر بخير. فقد أمكن سد احتياجات بيت المال لبعض الوقت من دخول الجمارك، ثم القرض الذي كان بعدها، بيد أن الضرائب التي كانت تُستخلص من القبائل هي ضرائب كبيرة بما لا يُستطاع الاستغناء عنها. ذلك بأن السكان المدينيين في المغرب لا يؤدون من الضرائب إلا الشيء اليسير، وتكاد البوادي تتحمل لوحدها الأعباء الضريبية كلها. ولذلك فستُضطر الحكومة المغربية إن عاجلاً أو آجلاً إلى أن تعيد فرض الضريبة، وحيث إن السكان قد وطنوا أنفسهم على عدم أداء الضرائب، فلا يبعد أن يلاقي المخزن بعض المصاعب في رد الضريبة عليهم. وقد علمنا في وقت كنا نسود هذه السطور بأن فيلقاً قد شرع في المسير ليجوب مناطق الحوز لهذا الغرض. وسيتعين أن تُعاد إلى القياد سلطاتهم، وليس ببعيد عن الاحتمال أن نرى هؤلاء القياد يطمعون في التعويض عن الفترة الطويلة التي عرفوا فيها انحسار النفوذ ونراهم يطمعون في استرداد ثرواتهم التي نالها النقصان (فإذا كان الملزمون بالضرائب لا يدفعونها فإن المخزن لم يكن ينقطع عن قياده بطلباته واحتياجاته)، فلا يبعد أن يعودوا إلى سيرتهم السابقة في السكان من النهب والغصب. حياة القياد العظام لقد رأى بعض المؤلفين الذين كتبوا عن المغرب في الحياة التي يحياها القياد العظام في قصباتهم، ومعظم تلك القصبات تقوم بقرب الزوايا، أشبه بحياة السادة الإقطاعيين. فهذا سي عيسى بن عمر يعيش في قصبته في عبدة، فكأنها مدينة صغيرة ومن حوله يقوم بلاط حقيقي، والرجل يستمتع بالصيد بالسلاقي والصقور. وقد يتغيب عن قصبته بين الفينة والأخرى ليلتحق بالمخزن. فهذا الرجل قد رآه بعض الكاتبين عنه أشبه بالإقطاعي القروسطي. وهذه أطروحة يُسار بها إلى التعمُّم، ومن المُتوقع لها أن تعرف الانتشار كذلك إلى البلاد غير الخاضعة من المغرب. فنحن نلاحظ أن في الجنوب من هذه الإمبراطورية بعض الممالك [الإمارات] الصغيرة المستقلة وبعض الزعماء الكبار من ذوي النفوذ الديني وبعض مجموعات السكان التي تؤدي الإتاوات المنتظمة إلى مجموعات أخرى، وهي كلها عناصر تزين للبعض الاعتقاد بأن المغرب ذو طابع إقطاعي، لا يكاد يفصله عنه غير فارق هين يسير. لكننا نعتقد أن المرء يخطئ إذ يتخطى ذلك الفاصل الهين اليسير ولا يقف عنده. ويجدر بنا منذ الآن أن نبرز الاختلافات التي نراها تفرق بين الإقطاع والحالة الاجتماعية في المغرب ولا تجعل لهما ببعضهما من صلة أو وشيجة. لا إقطاع في المغرب فالحالة الإقطاعية نراها في صورة عجيبة كأنها فسيفساء بما حوت من مناطق النفوذ ذات القوة والشأن وخليط متعذر عن الفهم من الحقوق والواجبات، وشتان ما بين هذه البلاد التي هذا شأنها وبين المغرب؛ حتى مناطقه غير الخاضعة. وإذا كنا نجد بعض التجمعات الكبيرة نسبياً في درعة ترتبط بأخرى بما يشبه رابطة التبعية أو الإقطاع، فإننا نرى هذه الحالات القليلة بعيدة عن التعقيدات القانونية التي تسم العلاقات الإقطاعية، كما أننا لا نرى فيها وجوداً للتراتبية الاجتماعية الصارمة وما فيها من درجات ومستويات كثيرة. كما وأننا لا نقف في المغرب على عنصر آخر يدخل في تكوين الحالة الاجتماعية لدينا في العصور الوسطى؛ نريد به أن يكون الشخص يتحكم في إقطاعة يتناقل ملكيتها بالوراثة، لكن من غير أن تتحقق له الملكية الكاملة لها على الإطلاق. فهذا شريف تازروالت سيد مطلق على المجال الداخل تحت نفوذه، وحتى ليسوغ لنا أن نذهب إلى تشبيهه بالكونت [الغربي] في القرن الحادي عشر، وهو يقرُّ لملكه بحقوق لا تزيد عن أن تكون نظرية على منطقة نفوذه، ثم لا يتعدى الأمر ما ذكرنا. فأما التنظيم الذي تسير عليه تازروالت فما هو بالإقطاعي، ولا سيدها بالمرتبط بسلسلة من العلاقات التي تقوم بين التابع والسيد، كما هو الشأن عند السيد الإقطاعي. فهذا السيد وحده لا يصنع الإقطاع، بل الإقطاع مجموع [متكامل]، وليس لهذا المجموع وجود في المغرب. وأما من جهة أخرى فإن التابع والإقطاعي في العصور الوسطى كانا يرتبطان بمجموعة من الفروض والالتزامات المحددة، وأما في المغرب فالقياد خاضعون قلباً وقالباً للسلطان، فيما القادة المستقلون بأنفسهم لا يرون من اعتبار يجب عليهم نحو السلطان إلا أنه إمام لجماعة المسلمين، ولا هو يقر لهم بأي حقوق على الناس، كما يدلنا تعيينه عليهم، متى شاء، قياداً من غير وظائف. فهل اتفق لكم أن سمعتم بسيد على تازناخت أو سيدي هشام يخضع للحكم يصدره فيه أقرانه [القياد]، إن كان يعترف بهم مجرد اعتراف؟ ومع ذلك فإن هذه تعتبر من الخصائص للإقطاع. وأما الإقطاع الديني فلا تجد له شيئاً يشبهه في المغرب. فهذا وليُّ تادلة له السيادة على بلاده بصفة الولي، وأما الأسقف الإقطاعي فهو يميز بين ما هو ديني وما هو دنيوي، ودليلنا على ما نقول أنه قد كانت توجد لديه محكمتان مختلفتان. وكذلك الإقطاع الديني عندنا في العصور الوسطى إنما عرف الازدهار خاصة في المدن، وأما المغرب فإن معظم المدن فيه تخضع بصورة مباشرة أو غير مباشرة للسلطان. ولنشر في الأخير إلى السمة العامة المميزة للإقطاع، وهي أن السلطة تكون فيه من الناحية القانونية متفرقة إلى كثير من الأقسام، وأما في المغرب فإن السلطة تكون من الناحية المبدئية مجتمعة كلها بين يدي السلطان؛ فليس يفلت منها شيئاً إلا بما ينوبه من العجز فلا يعود يقوى معه على الاضطلاع بتلك السلطة كاملة غير منقوصة. وهذه الاختلافات متأتية كلها من أن الإقطاع نظام اجتماعي بالغ التعقيد قد نشأ على أنقاض حضارات كثيرة سابقة عليه، وربما كانت حضارات قليلة أشباه ونظائر في تاريخ الإنسانية، وأما المغرب فأمر الحكم فيه أبسط من ذلك بكثير، وإن هو إلا يتحدر من مؤسسات أشد بدائية من المؤسسات الجرمانية أو الغالية الرومانية. زد على ذلك أن الهمجيات تشبه بعضها بالضرورة، وأن ما يمايز الهمجية عن الحضارة لا يزيد عن فارق بسيط. فليس علينا أن نستغرب إذ تطالعنا بعض أوجه الشبه، التي لا تعدو أن تكون سطحية، بين المجتمع الإقطاعي والمجتمع المغربي. وصفوة القول إنه لا يكفي وجود سيد يقيم في قصبة ويكون له غلمانٌ يخدمونه وتكون له هواية الصيد بالصقور، لنقول إنه سيد إقطاعي. مزاج الرحمانة لنعد بالحديث إلى الرحامنة. فلقد أمكن لهم أن يصلحوا في السنوات الأخيرة صنوف التخريب التي نجمت عن الفتن. وكانوا كمثل سائر قبائل الحوز على اقتناع بأنهم لن تؤدوا بعدُ من ضرائب. غير أن النبهاء من أهل القبيلة كانوا يدركون أن هذه الحالة من الإعفاء لن تدوم طويلاً، فكان يروق لهم أن يقولوا إن الحوز لن يدفع من ضرائب ما دام الغرب هو الآخر لا يدفعها، ثم إنهم لا يخفون متمنياتهم بأن يظل الغرب، الذي يشهد من الاضطرابات أكثر مما يشهد الحوز، ممتنعاً على الدوام من دفع ضرائب. وهؤلاء يعتقدون أن المغرب يعيش على دخول الجمرك، ويتصورون، من جهلهم بالنتائج المترتبة عن الضرائب، وهو وهم شائع عند الإنسان المسلم، أن التجار الأوروبيين سيصيرون في المستقبل يكفون الدولة احتياجاتها. ونحن نلمس هذا الشعور في المراسي من خلال التعصب المتزايد من أهلها تجاه الأوروبيين والعداء الشديد لهم. والمحميون الذين لم يطلبوا الدخول تحت الحماية [القنصلية] يوماً إلا للتحلل من الضرائب قد قطعوا كل علاقات كانت تربطهم بالأوروبيين، هم الذين ما أكثر ما اختصوهم من الشواهد والرخص، وحتى إن منهم الكثيرين قد باتوا متغافلين عن الديون التي قبضوها منهم. وقد بدا لنا بكل وضوح حتى في المناطق الداخلية، كما هو الشأن عند الرحامنة على سبيل التمثيل، وقت أن مررنا ببلادهم في سنة 1902، أنهم يقابلون المسيحيين بتحفظ لا ينم نحوهم عن كبير ود. غير أنهم يكفلون السلامة والأمن للأوروبي حيثما نزل من بلادهم. ثم إن السلامة والأمن شيئان يكادان يكونان مكفولين للأوروبي في سائر البلاد الخاضعة من غير استثناء، لا تبدل منهما ما يأتي عليها من أوقات الاضطرابات. فقد ظلت سبل الاتصالات حتى في الفترة التي بلغ فيها تمرد الرحامنة الأوج موصولة لم تنقطع بين مراكشوالجديدة، وظل بوسع الأوروبيين أن يتنقلوا بين المدينتين. بيد أن سعاة البريد [الرقاصة] كانوا يلاقون صعوبات في المرور، في ما خلا الحامل منهم للبريد الفرنسي لأنه يكون يحمل معه ظرفاً مكتوباً عليه بالخط العبري قد اشتمل على مراسلات زعيم التمرد. عدا أن الخليفة (الملازم [كذا!]) الطاهر بن سليمان، الملقب ب «بوكدية»، قد كان صديقاً شخصياً لعوننا القنصلي في مدينة الجديدة الأب الفقيد السيد برودو، الذي ظل لوقت طويل هو الممثل لفرنسا بكل تفان في هذه المدينة الساحلية. -4الجبيلات ولنختم، بعد هذه الاستطرادات المسهبة بشأن الرحامنة، المسارَ الذي قادنا من أزمور إلى مراكش، التي تركناها بقرب سيدي أحمد الفضيل وقت أن دخلنا الجبيلات. وكلمة الجبيلات معناها الجبال الصغيرة؛ وإنه لاسم يطابق مسماه. فهي جبال قليلة ارتفاع، بحيث لا يتعدى علوها 300 متر عن مستوى السهل. وحقيقة الأمر أنها مصغَّرات لجبال. وأنت ترى فيها بعض الأودية الصغيرة وبعض الأخناق الصغيرة، لكنها تخلو مع ذلك من المجازات الشاقة والعسيرة. والذي يبدو أن الجبيلات من الناحية العسكرية «يمكن اعتبارها بمثابة حاجز حقيقي لا يستهان به، هي التي لا يبدو من السهل اجتيازها في جميع المواضع. بيد أن الشِّعب الذي تمر خلاله الطريق من الجديدة إلى مراكش ليس بشديد الخطورة، فالمنحدرات والمهابط المتخللة له يسهل اجتيازها في سائر الأنحاء والمواضع». والجبيلات التي تمتد في صورة مسترسلة في النواحي الشرقية والغربية والشمالية من مراكش، تتكون من سلسلة أكمات مخروطية شديدة شبه ببعضها، لا يصل بينها ملتقى واحد كبير، وهي تبدو في صورة جذابة. وإن هذه الأكمات المخروطية المتجاورة التي تلوح من بعيد متماثلة لا تكاد تختلف في شيء قد اتسمت جميعاً بتنوع لافت مثير؛ فهي تكاد تكون جميعاً على علو واحد، وتكاد تتخللها جميعاً شُعفٌ صغيرة قليلة ارتفاع، ولا ترى فيها نتوءاً مستقيماً، كما تخلو من أي قمة مسننة كما في سلاسل الجبال. وتُرى بعض الأكمات تقوم بمعزل عن تلك السلسلة من الأكمات المخروطية في بعض تلك الأنحاء وهي تتقدم متفرقة في السهل، وتُرى أكمات أخرى أقل منها عدداً على هيأة «بردعة» (سرج البغل أو الحمار) أو كقبعة الشرطي. وعلماء الأرض يرون إلى الجبيلات أنها تشكل ما يمكن اعتباره مقدمة لجبال الأطلس؛ لكن إذا صح هذا الأمر من الوجهة التي ينظر بها علماء الأرض، فإن السائح يرى الجبيلات تختلف كثيراً من حيث بنيتها الخارجية عن جبال الأطلس. الطريق التي نسلكها الآن نزِهة ومتنوعة المشاهد، فالناظر يغمره الارتياح لمرأى هذه المنحدرات العجيبة بعد ما كنا نضرب فيه من السهول الشاسعة الرتيبة. لكن من أسف أن الأدغال تندر في هذه الناحية؛ فهي لا تزيد عن غيضات من السنط أو «الطلح» وبضع غيضات من العرعر، زيادة على بعض أنواع الوزال والعنّاب الأزلي. تلك هي كل النباتات الفقيرة التي تطالعنا في الجبيلات، وأما الأشجار فهي فيها شديدة الندرة. تضاريس الجبيلات مماثلة لتضاريس الجبل الأخضر؛ فالكتلة المكونة لها تتألف من النضيد والصلصال القديم، وهي ذات طبقات منتصبة ومتموجة تكسوها الترسبات العمودية من العصرين الجوراسي والفجري وقد تعرضت لتفككات قوية. وكانت الجبيلات تشكل في العصر الميساني، كمثل الجبل الأخضر وهضبة بني مسكين في الشاوية، جزيرة بارزة أمام الكتلة القارية التي يكونها الأطلس الكبير، وقد كانت تتصل وإياها بمضيق يقوم على صعيد مدينة مراكش. ولذلك فلا تعدو الجبيلات من الناحية الجيولوجية أن تكون خاصرة في السلسلة الأطلنتية الكبرى. ومن حولها جميعاً تقوم طبقات ميسانية تحفها من كل جانب وتنفذ إلى وادي تاساوت، وتصل حتى تاملالت؛ أي أنها تنتهي إلى الخط الفاصل بين مياه تانسيفت ومياه أم الربيع. الوصول إلى مراكش الطريق اليوم غاصة بالمارة؛ ففي الغد يكون عيد الأضحى، والناس جميعاً يعودون إلى ذويهم للاحتفال بهذه المناسبة. وقد مررنا بقرب جماعة من الرحمانة، فإذا هم قد جعلوا ينحون على أحد رجالي، وكان دكالياً، بالشتائم لمرافقته لنا ويصيحون به قائلين إن دكالة كل شأنهم أن يجلبوا إلى البلاد الكفرة الكلاب. ثم التقينا بعد ذلك طائفة من «الطلبة» في «نزاهة» [كذا!]؛ وهي جولة يقومون بها لطلب الصدقات؛ فهم يتسولون للمارة في الطريق، وأشهر أحدهم علامة هي عبارة عن قطعة قماش بيضاء فهو يرفعها في رأس عصى طويلة. وقد قابلهم رجالنا بالكثير من التوقير لأن «الطالب» محفوظ القدر حيثما وُجد من البلاد الإسلامية. وقد كان أولئك الطلبة يومها في عطلة بمناسبة العيد الكبير، والعادة جارية عندهم على أن يهتبلوا هذه العطل، وهي كثيرة [طوال السنة]، للخروج في تلك الجولات بغرض التسول. الدخول إلى مراكش وكان لنا توقف لنصف ساعة على مقربة من بئر كان أحد الرعاة يرعى بإزائها قطيعاً من الماعز والأغنام. ثم واصلنا المسير إذ كنا نستعجل الوصول إلى مراكش في الصباح الباكر. وإن هي إلا هنيهة حتى لاح لأعيننا، في الساعة الواحدة وخمسين دقيقة، سهل شاسع مترامي الأطراف تنتصب فيه غابة كثيفة من أشجار النخيل. وأخذ تتراءى لنا خلال تلك الأشجار ملامح مدينة عظيمة قد انتصبت في أرجائها منائر كثيرة، وبرزت بينها واحدة هي أكبرها جميعاً؛ إنها مراكش، مدينة يوسف بن تاشفين، وتلك صومعة الكتبية. لقد بدت لي وسط ديكور بديع من جبال الأطلس الكبير قد اكتست من الثلوج إهاباً فضياً. ثم تزاحمت ذاكرتي بفيض من ذكريات التاريخ، فزادت من سحر ذلك المشهد في ناظري. فها هي ذي أمامي المدينة التي بناها صنهاجة الأشداء الملثمون من بلاد السودان. لقد بدت لي المدينة، وهي تكنفها أشجار النخيل وفي ذلك السهل الذي تشوي الشمس تربته الحمراء كأنها قصر عظيم قد نبت وسط واحة! فها هي ذي القمم المكسوة بالثلوج التي منها نزل المصامدة يذكي حماستهم ابن تومرت، وها هي الأرض التي كانت مسرحاً للكثير من المعارك، ثم كانت في القرن السادس عشر حصن الإسلام في مواجهة التهديد المسيحي، وبين هذا النخيل وعلى هذه الأسوار قد تحطمت محاولات البرتغاليين... إن كل هذه الذكريات التي تهجم علينا والتعب الذي يستبد بنا من طول الركوب والفضول الذي يأخذ بنفوسنا والغبطة التي تستخفنا بقرب الوصول إلى نهاية هذه الرحلة، والخيال الذي يجمح بنا في هذا الخضم الجياش من عناصر الطبيعة وشؤون التاريخ؛ كلها عوامل اجتمعت علينا فكنا بها نجتاز تلك الواحة يتنازعنا خليط من مشاعر عذبة رائقة تتعذر عن الوصف. وها إن قافلتنا قد أخذت تشق طريقها تظللها أشجار النخيل، فكنا نجوز سواقي تجري بماء زلال، وتتخلل تلك الأنحاء حفر سوداء لقنوات الري الباطنية، فيتناهى إلينا منها خرير المياه. وإذا المارة قد صاروا يزدادون كثرة. ثم جئنا إلى القنطرة الحجرية العتيقة التي أقامها [أبو يعقوب] يوسف [بن عبد المؤمن] الموحدي من فوق سرير [وادي] تانسيفت، ومن تحتها يجري خيط ماء دقيق. وها إننا قد اقتربنا من المدينة، ولم نلبث أن رأينا سوقاً لبيع الأغنام تفيض عن جنباتها لأجل أن اليوم الذي بعد هو يوم العيد. ثم دخلنا باب الخميس. وتملكني شعور عارم فياض لمرأى تلك الباب الضخمة المقوسة الخفيضة المظلمة. وسرت في ممر ملتو قد ازدحم بحشد عظيم من المتسولين، فهم يتوسلون المارة بصوت أغن، فخيل إليّ أنني قد ارتددت قروناً إلى الوراء، وأننا قد دخلنا، كما لو بطريق الحلم، عالماً أشد ما يكون اختلافاً عن عالمنا، فليس له به من صلة أو نسب.