تظل المواقف الدينية للإسلاميين في المغرب ملتبسة بشأن علاقة السياسي بالديني، فرغم محاولات الإسلاميين العمل على الفصل والتمييز بين الإثنين، وإبداء وعي متقدم بضرورة جعل الدين مكونا جامعا ومشتركا لجميع المغاربة لا يجوز احتكاره، لا زال واقع الإسلام السياسي في المغرب يرفض توقير المجال الديني وجعله فوق الجميع، وعدم إقحامه في المنافسة السياسية الظرفية والمتغيرة. أميز هنا بين مفهومي التأطير الديني والدعوة؛ فالتأطير الديني وظيفة تضطلع بها الأجهزة الدينية التابعة للدولة، والتي تسهر على ضمان الأمن الروحي للمغاربة، وهي وظيفة منضبطة بغايات روحية صرفة لا تضع أية حسابات تنظيمية في اعتبارها. أما الدعوة فهو مصطلح حركي صرف، ظهر مع النشأة الأولى للحركة الإسلامية، وهي إن كان ظاهرها دعوة الناس إلى الالتزام بالشعائر الإسلامية، فإنها في حقيقة الأمر دعوة إلى الانخراط في صفوف الجماعة أو التنظيم، من المناسب أن أنبه هنا إلى أن شيوع مفهوم "الدعوة" أمر خاطئ من أصوله، إذ الدعوة في حقيقتها لا تكون موجهة إلا إلى غير المسلمين، أما المسلمون فلهم التذكير فقط "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمين". صحيح أن حركة التوحيد والإصلاح – بصفتها حركة دعوية – أعلنت مرارا عن عدة إجراءات تنظيمية للتمييز بين الدعوي والسياسي، إلا أنها ظلت – مع ذلك – الرافد الأدبي والخطابي لحزب العدالة والتنمية، ورغم توالي تصريحات قيادة حزب العدالة والتنمية عن كون الحزب فاعلا مدنيا لا يستغل الحس الديني في شيء، سوى في كونه مصدر قيم مؤطر لأخلاق مناضليه، فإن واقع السلوك يقول إنه يستثمر سمعة الفاعلين الدينيين وأئمة المساجد بترشيحهم لمنافسة أشخاص أقل تدينا في الظاهر، وكتحصيل حاصل، فالحزب يستفيد من انتساب الكثير من الأئمة وأطر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لحركة التوحيد والإصلاح، دون أن نغفل عن توظيف تعاطف تيار من السلفيين خلال مناسبات انتخابية، واستغلال حضورهم الدعوي في المجتمع. ومن زاوية أخرى يبدو استغلال جماعة العدل والإحسان للحقل الديني أكثر وضوحا، فقد تابعت الحوارات التي تنظمها الجماعة للنقاش مع الفرقاء السياسيين بمناسبة ذكرى وفاة مرشدها عبد السلام ياسين، ووقفت على مفارقة شديدة الغرابة في خطاب الجماعة، فهي تعبر عن استعدادها للحوار وقبول الآخر والالتزام بجميع القواعد الديمقراطية، ودعوة الجميع إلى تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، لكنها تضع كل ذلك في سبيل تحقيق حلم دولة التقرب إلى الله، التي لا يمكن أن يصوت الشعب المسلم على غير الجماعة لتحقيقها. ليس من مصلحة الدين أن ترتبط أسهمه صعودا وهبوطا بحال الأحزاب الدينية وشعبيتها الانتخابية، ستضيع أجزاء كبيرة من القداسة الروحية التي من المفترض أن يمنحها للآخرين! إنني أزعم أن أحد أسباب تراجع أثر التأطير الديني في المجتمع عائد إلى انحراف اهتمامات الفاعلين الدينيين عن وظائفهم الأصلية، وانشغالهم بالقضايا السياسية اليومية والخلافية بين أطياف المجتمع، كما أن انخراط عدد من المؤطرين الدينيين التابعين لوزارة الأوقاف في عدد من التنظيمات الحركية، واستخدام المنابر من أجل الحسابات السياسية، ساهم هو الآخر في اشتداد أزمة الحقل الديني المعاصر. حين أصبح الفاعل السياسي والنقابي في نزاع مع "الداعية" على كرسي السلطة في البلدية أو البرلمان أو الحكومة، وحين تجند للهجوم في الانترنت على الخصوم السياسيين، وانشغل عن اهتماماته الأخلاقية والتوجيهية، انحدرت جودة التأطير الأخلاقي والديني، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل الاحترام الذي يكنه الناس للدين وللفاعلين الدينيين أيضا كنتيجة منطقية، بل وظهرت عدد من الممارسات المتمثلة في الانتقاص من رجال الدين بسبب أفعالهم، وكذا من المُثل الدينية التي يحملونها. المؤسف أن الخطاب الديني كان ضحية مباشرة لهذا الخلط والتحريض الداخلي الخطير، لقد أصبحت الدولة مضطرة لمواجهة حالة الاستقطاب السياسي المغلف برداء الدين، فاضطرت إلى تشديد مراقبة الأئمة والخطباء وتوجيههم، كما أصبحت مسؤولة عن تعيين الممارسين لوظيفة الوعظ في المساجد، وسنت القوانين الزاجرة عن كل خلط بين الدين والسياسة، إلى غير ذلك من الممارسات التي تروم ضبط الحقل الديني ومنعه من التسيب واستغلاله في النزاعات السياسية والفكرية. التأطير الديني برأيي يجب أن ينضبط وفقا لثلاث مستويات: المستوى الأول: يعالج إشكال علاقة الفاعل الديني غير المنخرط في مؤسسات الدولة مع الإعلام والمجتمع، إذ يجب على هؤلاء الفاعلين والدولة أيضا أن يكرسا معا تقليدا وطنيا يمنع الفاعل الديني من إصدار المواقف السياسية، والآراء المضيقة على اختيارات المواطنين، علاوة على عدم السماح لأحد مهما علا شأنه الفقهي بإصدار أحكام الإقصاء والتكفير الصريحة أو الضمنية، وفي المقابل ينبغي أن يساهم الخطاب الديني في نشر الفكر الناصح لجميع التيارات والأحزاب على مستوى واحد، وعدم السماح تماما باستخدام الدعاة لتشكيل مواقف الناس وتوجيهها ضد أي حزب سياسي أو فكري. بهذه الصرامة التي تحفظ الأمن الروحي المجتمعي يمكن أن نضمن عدم تكرار صدور فتاوى أو دعوات تستهدف مواقف السياسيين ورواد الفكر بالمغرب، ونضمن بذلك قدرة المجتمع المغربي على إنتاج حلول مبدعة للإشكالات العمومية العالقة في بيئة حرة لا تهددها فتاوى التكفير، ولا الخطابات المحرضة لبعض الخطباء. المستوى الثاني: يهم تدبير الدولة لشؤون فاعليها الدينين، فلا يعقل أن يقدم الملك خطابات تنويرية واضحة تدعو لدعم الفهم الرحيم والمتنور للإسلام، ولا زالت خطابات متشددة وإقصائية تنتشر هنا وهناك، وتستغل المنابر من أجل بث أفكار متشددة، إن التنوير الديني اختيار يمس مناهج تدريس العلوم الشرعية، وتجديد المناهج البيداغوجية والتربوية في المدارس الدينية. لا أشك في أن الدولة قد اختارت سبيل التنوير الديني، لكن المخرجات الواقعية في المساجد والإعلام وباقي مجالات التلقي الديني لازالت موبوءة بالتشدد والتفسيرات القاسية والضيقة للدين الإسلامي الحنيف، أتابع أحيانا بعض البرامج الدينية بالإذاعات العمومية والخصوصية، كما سبق لي الاشتغال لما يقارب سنتين بإحدى الإذاعات الخاصة، وكم وقفت على جرعات من التشدد والخرافة في كثير من هذه البرامج وفتاوى بعض المنشطين لها. إن حفاظنا على هويتنا الدينية المغربية هو حفاظ على كينونتنا بالأساس، ولا يحافظ على هذا الكيان اليوم في سياق تصاعد التيارات الدينية العنيفة سوى تحصين هذه الهوية من التطرف، بتنقيح التراث الذي يدرسه دعاة وفقهاء المستقبل، وبأن تكون المناهج التي تؤطر تكوينهم تؤصل لإسلام تنويري غير متصادم مع الواقع والمجتمع. المستوى الثالث: دعوة حركات الإسلام السياسي في المغرب لأن تبادر إلى إعلان مدنيتها بشكل عميق وواضح، وأن تقطع بشكل صريح مع استغلال الدين في المنافسة السياسية، هذا القطع سيعيد للشأن الديني مكانته الرفيعة التي لا يمكن أن يسترجعها وهي موظفة لصالح طرف سياسي دون آخر، إن استهلاك الزمن في تثبيت الأمر الواقع بهذا الشأن، يعطي لأي طرف متطرف إثني أو ديني الحق في استغلال نزعات تهدد بفوضى استغلال المقومات المشتركة للمغاربة جميعا. إن النموذج الإسلامي الذي يحفظ مستقبل هذا البلد من الاقتتال والكراهية، هو الذي يحفظ قيم التنوع في المجتمع، وفي طليعتها قيمة التعددية السياسية والثقافية كضامن لتعدد الخيارات السياسية أمام الناخب المغربي من جهة، وكمجال لاحتضان الطاقات الشابة الراغبة في الإصلاح من جهة أخرى، من أجل مغرب آمن ومستقر ومتعدد.