الحلقة 9 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية شيء يكاد يكون مجهولاً عند دكالة المجتمع المغربي تمثل السوق عنصراً بالغ الأهمية في الحياة العربية، وحتى ليمكن القول إن تاريخ القبيلة يكاد يجري برمته في سوقها. فهو يعتبر المكان الوحيد الذي يجتمع فيه الأهالي، فهم لا يقصدونها لمجرد أن يبيعوا فيها منتجاتهم ويتزودوا منها بأقواتهم اليويمة، بل إن السوق كذلك فضاء يتبادلون فيه الآراء والأفكار، ويتزودون فيها من الأخبار السياسية، ويتلقون فيها البلاغات من السلطة ويتداولون في المواقف التي ستكون منهم نحوها، ويقررون في أمور السلم وفي أمور الحرب. وفي السوق مجال تحاك فيه جميع الدسائس وتُطرح جميع القضايا، وتُتخذ جميع قرارات الصلح ويُدبَّر لجميع الجرائم. والسوق تعتبر أكبر التسليات عند الأهالي وربما كانت هي تسليتهم الوحيدة. فهم يترقبون موعده الأسبوعي بشوق عارم، فإذا كان يوم السوق لم يبق في الدوار أحياناً غير النساء والأطفال؛ فهو يوم اليمن على الساعين وراء المغامرات النسائية. وحسبنا أن نقرأ تاريخ الجزائر لنتبين أن معظم التمردات التي شهدها هذا البلد قد اندلعت شراراتها في الأسواق، ولذلك فالمراقبة الشديدة لها قد كانت على الدوام من الشروط الأساسية لضمان الأمن والسلامة لنا في بالجزائر. ويمكن القول إن المراقبة الجيدة والذكية للأسواق وسيلة أكثر فعالية من كافة التدابير والإجراءات الأخرى من لحفظ الهدوء والحد من الإجرام في أي بلد عربي. مراقبة الأسواق لقد وعت جميع الحكومات التي تعاقبت على هذا البلد بضرورة أن توطد لنفسها في الأسواق. والسلطة تلمس لها حضوراً في الأسواق المغربية على وجهين؛ أولهما في الرسوم أو «المكوس» التي تتم جبايتها لفائدة الحكومة، والثاني في حضور مندوب عن القوة العمومية. فأما الرسوم فيقوم بتحصيلها أحد المزارعين، وأما القوة العمومية فيمثلها أحد الشيوخ، وبعض أعضاء الجماعة، وإذا أريد لهذا الأمر أن يكون أكثر فعالية زيد إليهم بعض المخازنية يرسل بهم قايد القبيلة، وقد يحضر القايد بشخصه في بعض الأحيان. وأما في المناطق غير الخاضعة للمخزن في المغرب فإن القبائل التي تنعقد السوق داخل ترابها تتكفل بضمان الأمن فيها. وأما المناطق من الصحراء المغربية التي ينعدم فيها الأمن وتصعب فيها المعاملات التجارية بكثرة قطاع الطرق، فتنعقد فيها ثلاثة أسواق كبرى، بل هي مواسم حقيقية تدوم وقتاً غير يسير، فهي تنعقد عند آيت تيوسا ومغيميما وتازروالت. فيسود النظام ويصير بمقدور القوافل أن تقصد تلك الأسواق لا تخشى على نفسها شيئاً، فإذا تعرضت الواحدة منها للنهب تم القبض في السوق على أفراد القبيلة التي وقع منها النهب وغرِّموا مبلغ الخسائر التي نزلت بتلك القافلة. ولم تكن شرطة السوق توكَل قديماً في منطقة القبايل الكبرى إلى السلطة المحلية، بل إلى بعض كبار الشخصيات، الذين إليهم وحدهم تعود السلطة العليا ويُعرفون باسم «قادة السوق». وعليه فإن إزالة إحدى هذه الأسواق أو مجرد نقلها إلى غير موضعها الأصلي سيبدو، بعد كل ما ذكرنا، إجراء أمنياً بالغاً، وربما كان إجراء ناجعاً في الأوقات الضطربة، فقد يتسنى به إذا أُعمل في أوانه أن يحول دون قيام بعض التمردات. وما كان القياد المغاربة يمنعون من إعمال هذا الإجراء، بل وتراهم يبالغون ويشتطون فيه؛ فليس هنالك إجراءٌ أبلغ منه إضراراً بالتجارة وبازدهار منطقة من المناطق. وإن طبيعة المعاملات التجارية التي تجري داخل السوق من هذه الأسواق تفرض هي نفسها أن تكون السوق في موضع لا تتبدل عنه لأجل أن يتحقق لها الازدهار والإشعاع. وربما أمكن للسوق بفضل موقعها المواتي وما تتهيأ لها من الظروف السياسية المواتية أن أن تغدو نواة لتجمع حضري. المدينة والسوق كتب بعض المؤرخين من العصور الوسطى الأوروبية أن «المدينة سوق دائم». ولا نملك أن ندلي برأي في هذه الأطروحة حتى في ما يختص بالمغرب، غير أنه ليس ببعيد أن تكون على نصيب كبير من الصحة، وربما كان فيها بعض تفسير لمنشإ كثير من الحواضر المغربية، وأولها مراكش. ولا تزال تجد بعض المدن التي باتت اليوم خرائب وأطلالاً، كالمدينة، تنعقد فيها بعض الأسواق. ثم إن القانون التجاري عندنا يكاد يكون برمته مستمداً من قانون الأسواق في العصور الوسطى. غير أننا لا يمكننا أن نتمادى في هذه المقارنة بين [البلاد الأوروبية من جهة] والمغرب والبلاد الإسلامية [من جهة ثانية]؛ فالقانون التجاري في صورته عندنا يكاد ينعدم لدى المسلمين، وبتعبير آخر إن القانون الإسلامي ينعدم فيه تشريع يختص بالتجار. وإنما هم يخضعون للقانون العام، ثم أنه يطبق عليهم بصورة فورية من لدن قاض أو عدل يكون يتجول في السوق. ولذلك فالمسلمون لا قبل لهم بالنزاعات التشريعية العنيفة التي كانت تعيق التجارة في العصر الوسيط، كانت دافعاً للأوروبيين إلى وضع قانون تجاري وسبباً في التطور الذي تحقق لمؤسساتنا القضائية والإدارية الخاصة. وما نشب مثل هذا النزاع في غير المناطق الساحلية بين المسلمين والأوروبيين، وكان سبباً في سن مجموعة من الاتفاقيات وسن القانون القنصلي الخاص بما كان يسمى من قبل بلادَ البرابرة. فزع في الأسواق سوف لا أجشم نفسي أن أجيء برسم للسوق العربية بعد التصاوير الرائعة الكثيرة التي وضعها لها آخرون. ولو أردت أن أجيء لهذه السوق بوصف علمي فيلزمي أن أتناولها بالدراسة المتأنية، وهو شيء لم يسعني أن أقوم به في هذا الكتاب. لكن يمكن لهذه الدراسة أن تقدم عرضاً ضافياً بالأطاريح الأخاذة التي نوقشت في الآونة الأخيرة في موضوع علم نفس الجماعات والجذب الجماعي. والفرصة مواتية لنا في هذا المقام لدراسة حشد ذي طابع بدائي، ولا يبعد أن نجده لا يختلف كثيراً عن تجمع من المتحضرين. لكن يبدو لنا أن حركيته وانفعاليته واستعداده لقبول الاقتراحات يفوقان بكثير ما نجد منها عند حشودنا من الأوربيين. فمن المألوف في الأسواق في المغرب، كما الأسواق في الجزائر، أن تشهد تلك الشجارات الغريبة التي تسمى في الجزائر «نفراعة». ومن المعلوم أن هذا الاسم يُطلق على الفزع الذي ينشأ فجأة لأتفه الأسباب، ثم لا يُهتدى بعد ذلك في معظم الأحيان قط إلى معرفة السبب فيه. فقد تنطلق شائعة كأنها نثار من البارود أن السوق يتعرض للنهب، وما أن يسمع بعض التجار بهذه الشائعة حتى يبادروا إلى إغلاق دكاكينهم في جو من الفوضى ويطيحون بالسلع والبضائع. وسرعان ما تعم الضوضاء والجلبة، فأما خيار القوم فيفرون بأنفسهم، وإذا سائر الأشرار الذين لا تخلو منهم الأسواق، يشرعون بالفعل في السرقة والنهب، في خضم من الفوضى العارمة، وإن يكونوا لم يقصدوا السوق بنية السرقة. وتختتم السوق في جو من الهلع والفرار في جميع الأنحاء، لا يفيد منه غير ذوي النوايا السيئة. وبطبيعة الحال فإن بعض هذه «النفراعات» يتم التدبير لها بنية السرقة، غير أن معظمها يحدث بصورة أقرب إلى أن تكون عفوية، ثم إنه يندر أن تفلح السلطة في إنهاء ذلك الجو من الفوضى في الحال. وتُعرف النفراعة في المغرب باسم «الكسرة»، فهم يقولون : «السوق نْكسَرْ»، وعناها أن السوق انفضت؛ أي أنه قد حدث فزع أو نفراعة انفضت لها السوق. الشيخات عند دكالة يمثل سوق سيدي بنور ملتقى أسبوعياً يأتلف فيه المغنيون، وتأتيه خاصة الشيخات من هذه المنطقة. والناس يقصدونهن إلى هذه السوق من الأماكن البعيدة للاتفاق وإياهن على إحياء ما يزمعون من حفلات وزيجات أو ختانات، إلخ. وتوجد هؤلاء الشيخات بأعداد كبيرة في دكالة وحتى في الشياظمة، ولهن وجود كذلك في الشاوية. وهن يعشن وسط أسرهن التي تعيش على ما يكسبن من تعاطي الفن وتعاطي المجون. والشيخة يكون لها في معظم الأحيان إخوة أو أقارب يقومون لها بالحماية والمساندة، فهم يرافقونها في جولاتها ويداومون على مصاحبتها ليقوموا لها بالحماية عند الاقتضاء. ثم إن هؤلاء يعيشون في ود مع أصدقاء الفنانة الكثيرين، ويعرفون أن ينسحبوا فلا يزعجون زائريها. والرأي العام لا يتحرج من القبول بهذه العادات، ولا هو يحط من قدر هؤلاء النساء. ويمكن للشيخة أن ينعمن بعيش رغد على وجه العموم، ما لم يكن يتعرضن للاستغلال أو للتغرمي من القياد، الذين يسلبونهن معظم ما يكسبن. وقد لا يجرؤ عامة الناس في دكالة على التدخل القاسي في الحياة الخاصة للشيخات، بحيث إن الدكاليات هن أبعد من يكن نموذجاً في هذا الإطار. فإن ما تتصف به هؤلاء النساء من غنج ودلال، بله سفة ومجانة، أمور تثير انتباه الرحالة والمسافر الأقل تحاملاً. فهن يكلمن الرجال وسط الحقول، ويخضن وإياهم في الأحاديث الجريئة والفاحشة من حول البئر، ولا يتحرجن من النداء عليهم من بعيد ومراودتهم على أنفسهم. والبغاء شيء شائع داخل الأسر، وما أكثر الأزواج المتساهلين المتغاضين. وقلما يحدث عند الدكاليين الطلاق بسبب الخيانة الزوجية، وأما قتل الزوجة بدعوى الخيانة الزوجية فشيء يكاد يكون عندهم مجهولاً. الضيافة إن العادة الشائعة في بعض المناطق من الجزائر في دعوة الضيف إلى قضاء ليلة مع إحدى فتيات البيت تجدها كذلك عند كثير من قبائل دكالة، وتكاد تجدها كذلك عند سائر قبائل الشاوية. والناس في هذه القبائل المغربية، تماماً كما هو الشأن عند بعض القبائل في منطقة القبايل، يسألون الرجل الذي يطلب ضيافتهم، هل هو «ضيف الجماعة» أم «ضيف الخيمة»، ففي الحالة الأولى يُذهب به إلى خيمة جماعية تقوم في كل دوار، وإليها يُحمل إليه الأكل فيقضي فيها الليلة من غير أن يُلزَم بشيء نحو أحد [من أفراد القبيلة]. وأما في الحالة الثانية فإن أحد أفراد الدوار يذهب بالضيف إلى خيمته فيقدم إليه الطعام ويحيطه بالرعاية والعناية، ثم يعرض عليه أن يتخير من فتيات الأسرة، ولا يعرض عليهن من المتزوجات، ليقضي معها الليلة. ويكون ملزماً في اليوم الذي بعد بتقديم هدية إلى رب البيت، كأن يدفع إليه بقرش أو اثنين. والقياد العارفون بهذه العادة يفرضون من الغرامات على الخيام التي تضم من حسان الفتيات أكثر بكثير مما يفعلون بالخيام الأخرى التي لا يوجدن فيها. والأرامل من النساء يفعلن كما تفعل الفتيات، ويوحى إلينا أنهن ليسوا دونهن نزقاً وطيشاً. التعليم الإسلامي غادرنا سيدي بنور وضريحها ذا القبة المربعة المكتسية من القرميد الأخضر. وبأخذ يتراءى لنا الجبل الأخضر، غير أننا سوف لا نصل إليه، كما نؤمل، في هذا المساء، ذلك بأننا كنا حتى الساعة الرابعة وعشر دقائق لم نجاوز دار القايد السابق الحاج بن عبد الله، فكنا نرى أن قافلتنا البطيئة لن تبلغنا ذلك الجبل إلا بعد مسير ساعتين ونصف. وها إن منظر البلاد قد تبدل تماماً؛ فنحن نسير الآن في حصى دقيق لا تزال تكسوه أزهار الربيع ويتخلله نبات الحلتيت تحت الأرجل، لكن ما عدنا نرى من حولنا الأراضي العامرة بالزراعات، فالبلاد معظم أراضيها تُتخذ للرعي، بله تُتخذ للرعي الواسع. ومررنا بقرب دشر به مدرسة، فتناهت إلى مسامعنا أصوات التلاميذ المخنخنة الرتيبة وهو يتلون آيات من القرآن. وقد سبق لابن خلدون أن جاء قبل خمسمائة سنة بوصف للطريقة التي كان يجري بها التعليم في بلدان المغرب (وهو يمايز بين بلدان المغرب وإفريقية)، فلاحظ أن التعليم في المغرب كان يقوم أساساً على حفظ القرآن، من غير فهم ولا استيعاب للمعاني. والطالب المغربي الذي يفلح بعد سنين عديدة، والتنكيل الذي يقع عليه من شربات السوط، في أن يخزن في ذاكرته القرآن بآياته الستة آلاف ومائتين يُفرَغ عليه لقب فقيه، الذي له عندهم حظوة ومنزلة، غير أنه لقب قد لا يكون له بستحق، ذلك بأن هذا اللقب يعني في الحقيقة «العالم الشرعي». وأما إذا جمع إلى حفظ القرآن لمعرفة بأصول اللغة وألم بعض إلمام بالمختصر الفقهي لسيدي خليل، وحفظ بعض القصائد التي قيلت في مدح الرسول، من قبيل «البردة» و»الهمزية» للشيخ البوصيري فيحق له أن يكتسب لقب «العالم». وأياً ما يكن فإن المعرفة الحقيقية ليس لها دور كبير [في حياة هؤلاء الناس]. وقد أصبح التعليم الإسلامي لا يزيد اليوم عن اجترار وترديد عقيمين. وقد سبق لابن خلدون أن ذكر أن المغاربة كانوا يعتقدون يظنون أن «المعرفة إنما تكون بحشو الأذهان». فلا يزيد العلم عندهم عن الحفظ. ولذلك فالمستشرق الأوربي مهما بلغ من العلم يدخله المغاربة في الجهال لأنه لا يحفظ شيئاً. ولفظ «العاقل» في الدارجة العربية يعني «شديد الحفظ» كما يعني «النبيه». ولذلك فأشهر الأساتذة عندهم من لا يحتاج في الدرس إلى كتاب أو تقاييد. والتلميذ إذا رغب في الحفظ، ولم يكن لديه ملكته، التجأ إلى شتى الوسائل، ولم يقعد عن استعمال المخدرات والطلاسم. ولهذه الغاية تراهم في بعض الجهات يفرطون في تناول نبات الأطرب، المسمى عندهم «البلايدور»، لأن ثمار هذا النبات معروف لديهم بأنه يزيد في ملكة الحفظ. التسول المدرسي وقد كنا بين الفينة والأخرى نلاقي على الطريق بعض التلاميذ في رث الثياب، فهم يأتون ليعرضوا علينا الألواح التي كتبوا عليها بكثير من المشقة بعض الآيات القرآنية باستعمال «بالسمق». وتلك طريقة في طلب الصدقة. ومنهم من يلاحق أحد مرافقينا المسلمين وهو يقول له : «حررنا يحررك الله»، ذلك بأن الفقيه يمنح تلاميذه العطلة أحياناً مقابل نقود يدفعونها إليه. وقد ظل بعض الصبة الصغار يطاردوننا طوال الظهيرة مشهرين ألواحهم الصغيرة لكنهم لم يحصلوا منا على شيء. وكذلك يقومون بهذه الجولات في الدواوير، وهي غير الجولات التي يقومون بها بمناسبة الاحتفال بالختمة، أي الانتهاء من حفظ بعض أجزاء القرآن. ولا ترى الطلبة من كبار السن والمتقدمين في الدراسة يستنكفون من التسول. فإذا مررنا أمام إحدى هذه المدارس خرج إلينا هؤلاء الطلبة ليطلبوا إلينا «التحريرة» دون استحياء. منا بدون استحياء، قائلين : «باش نصبنو». وتلك عبارة راسخة عندهم؛ وحتى إن المخزني العامل لدى أحد كبار الشخصيات الذي حظينا عنده بالضيافة قد جاء في اليوم الذي بعد يرددها على مسامعنا، ليطلب إلينا إكرامية لم يكن لنا منها مفر. فالمغربي مستول في المقام الأول، ولا يستنكف أن يطلب الصدقة حتى من عند أولئك الذين يحمل لهم الاحتقار الدفين، وهذه من أحط الصفات التي يتصف بها، غير أننا لا نريد بحديثنا ههنا غير السواد من العامة المغلوبة على أمرها. وفي الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة حططنا رحالنا في دشر صغير، أي مجموعة من النوايل والخيام الثابتة في مكانها. ويُعرف هذا الدشر باسم دشر الحاج محمد بن رحال. وقد تحدثنا إلى أكبر الملاك في هذا المكان، وهو مخالط فلاحي لأحد كبار التجار اليهود الأنجليز في آسفي، وعلى الرغم من ذلك فقد قابلنا بسورة من التعصب وقابلنا بكثير من الازدراء. ولقد سألته بضعة أسئلة فكان يرد عليها بكلمات مقتضبة. ثم بدا لي كأنما يبغي بدوره أن يطلب مني شيئاً ما، وسرعان ما انفرجت أساريره، وانتحى بي جانباً وهو يتبسم ليطلب مني بكثير من التذلل والخنوع شيئاً من النقود. ولقد لبثت تعقد لساني الدهشة والاستغراب كيف لهذا العجوز الكثير المال أن يطلب إليَّ الصدقة بكثير من الصغار كأنه بائس من البؤساء. فاهتبلت تلك الفرصة لأنتزع منه بعض المعلومات من قبل أن أعطيه أي شيء، فإذا هو يمدني بها في سهولة كبيرة، ثم نفحته قرشاً. فتبسم في حينه دلالة على الارتياح، وسرعان ما نهض من غير أن يشكرني، وابتعد عني وجعل يسير كأنه نبيل من النبلاء، ثم لم يعد يهتم لأمري فكأنني لم أعد موجوداً. ولاشك أنه واحد من أولئك المحميين الذين يقولون عن التاجر الذي كان سبباً في ما حازوا من ثراء : «إن عندي كلباً جيداً من الكفار ليحميني من القايد». فيا له من طبع معقد هذا الذي نراه من هذا المسلم المتعصب الذي يخالط يهودياً ويطلب الصدقة من مسيحي! أشغال البدو تنبهنا من نومنا في الليل، قبل الفجر بكثير، بفعل جلبة غريبة. فقد كانت الأصوات ترتفع في الدواوير بالغناء، يرافقها قرع مصم متواصل. وكانت تلك الجلبة تنتقل من خيمة إلى أخرى، وتتلاقى في ذلك الجو الهادئ وفي صمت لا تكاد يقطعه غير صياح بعض البهائم. فماذا يكون ذلك الغناء الرتيب الذي يخالطه شجى، والذي لولا إيقاعه المتسارع لكان أقرب إلى الشكاة أو النواح؟ فهل هي أدعية؟ أم أغان للحب؟ كلا، بل هي أغاني العمل تتغنى بها النساء وقد شرعن في عملهن اليومي الشاق بطحن القمح في الأرحى يديرونها بالأيدي ليضنعن منه الخبز اليومي. ويا لهن من مخلوقات بائسة تفني زهرة العمر في العمل البيتي الشاق، فهن يشرعن في العمل قبل أن ينبلج نور النهار بتحسس الأشياء، فيما يكون أفراد الأسرة لا يزالون نياماً. فإذا انبلج الفجر بعد قليل، ونهض الرجال وأدوا الصلوات وجدوا «الحسوة»جاهزة، وهي وهي حساء الشعير، التي تكون هي فطورهم الأول. فالمرأة تعجل بإيقاد النار، وفي انتظار أن يغلي الماء في القدر تذهب لحلب الأبقار. وها إنها تدير «الحسوة» على سائر من في الخيمة، وبعد ذلك ستذهب لتقدم الكلأ للماشية، ثم تسارع إلى تهييء الخبز غير المخمر الذي سيحمل منه الرجال الذين سيتغيبون عن البيت طوال اليوم، إما للاشتغال بالأرض أو الاشتغال بالرعي. وبعد ذلك تحلب النعاج أو العنزات حسب الفصول، وتخرج المواشي، ثم يكون لها أن تستريح قليلاً. ثم يكون أفضل أوقات اليوم عندها. فهي تخرج مع رفيقاتها من الخيام المجاورة لجلب الماء من العين القريبة. وقد تكون العين بعيدة جداً، فلا تكثر عليها النساء، ويطول بهن ملأ الجرار كثيراً، فهن يطلقن العنان للثرثرة ويدبرن للمكائد وتحتذ الغيرات وينسجن الصداقات. ثم يمضين مثنى مثنى أو في مجموعات صغيرة إلى الأراضي غير المزروعة لحمع الحطب لأجل المواقد. فالخشب نادر، وأكثر ما يستعملن النباتات الشوكية الفقيرة ومعظمها من الأشواك. فكل واحدة من النساء تتخذ لها منه كومة تجعلها على ظهرها ثم تعود إلى الدوار. ويكون الوقت حينذاك لإعداد الوجبة الثانية، وقوامها «عصيدة» من دقيق الدرة يسقى باللبن، أو «الدشيش»، وهو دقيق الشعير الذي يهيأ على البخار ويزاد إليه البصل والقرع. ثم تعود المرأة الحبوب، ثم يتعين عليها بعد ذلك أن تهيء وجبة المساء (في حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الزوال)، وهي تتألف عادة من «رغايف» تهيأ فوق صحن أو «طاجين». وأما الوجبة الأخيرة فهي تكون في حوالي الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً، وهي تشرع في تهييئه مع مغرب الشمس، وتتألف هذه الوجبة عند الأسرة الميسورة من كسكس باللحم، وإلا فكسكس بالبصل والقرع. وقد تشتغل النساء خلال أشغال البيت بمخض الحليب، فتفصل الزبدة عن اللبن. وقد أو تحوك الصوف لصنع منه ألبسة، أو تنسج الزرابي، أو تصنع الأواني الفخارية وتقوم على تجفيفها. والمرأة تشتغل بكثير من النشاط، حسب الفصول، بالأشغال الفلاحية التي يقع معظمها على النساء، في ما خلا أعمال الحرث التي يتولاها الرجال وأعمال الحصاد التي يتكاتف لها الجميع. فالمرأة هي من تزيل الأعشاب الطفيلية، وهي وحدها التي تلتقط السنبل من الأرض بعد الحصاد. وهي التي في بلاد الأركان تعنى بقطف ثماره واستخراج الزيت منه، وتكتفي به عن سائر الأعمال الفلاحية. تلك صورة للحياة القاسية التي تحياها البدويات. أناشيد الرحى والنساء يروحن على أنفسن في هذه الحياة الشاقة التي يحيينها بأغان من قبيل تلك الأغاني التي كن يتغنين بها في هذه الليلة فيما يطحن القمح بالأرحى. وها هو نموذج لتلك الأغاني : «حمقتني يا الرحى وطول الليالي معذباني. حمقتني يا الرحى ويديا معياني ما نسمح لمي واللي زوجوني وجاوا بالقاضي والشهود!؟ بعصايب بحال اليهود وهذا نموذج ثان : وآفينك آخيرة، غبرت تحت الأرض في الظلام سجنوك في دار ما فيها غير الظلام خليتي أحمد وأختو محجوبة غبرت يالزينة مارجعت يا لغزال مولات الصاك الزين. وهذا كلام لا يفيد كبير شيء، والأغنية التالية أوضح معاني. وهي أغنية تتردد بين الخيام؛ فامرأة تتغنى بالمقاطع المؤلفة لهذه الأغنية وأخرى تردد دون تبديل لازمة أوردها ههنا مرة واحدة دون تكرار : كال الفار عليها نموت (لازمة) آش جرى للفارة؟ ولا يقتلوني زينة ومن دار كبيرة عمرها ما خرجت من الدوار وما حضرت عرسات دزتها كادة للحايك وشايط ليها بش الدير قراب وديناها لطرف الدوار وحسبوها شفارة وكانت بكرة فأول الصيف تضاربوا عليها الكزارة ولاشك أن أغاني العمل تعود إلى عصور قديمة، ولذلك اهتم دارسو الفولكلور في السنوات الأخيرة بجمعها وتدوينها. وإن من شأن هذه الأغاني أن تجلو لنا وجهات النظر الخبيرة التي أطلقت منذ بضع سنوات عن العلاقات بين الإيقاعات والعمل والفن؛ فكلما كان العمل موزوناً إلا وتحقق له الانتظام، والحال أن الانتظام هو الجمال. ثم إنني يساورني اعتقاد أن الغناء يبعث عليه شيء يفوق الإيقاع، حتى وإن لم يكن إلا المجهود الذي يُبذل في الغناء، الذي أفاضت الدراسات التشريحية المعاصرة في تناول أحد تدريباته العذبة المتواترة في الأعضاء، يزيد من يزيد من القدرة على العمل. وكذلك فالغناء محرك نفسي؛ فقد كان الشهداء المسيحيون ينتظرون الحيوانات في السيرك وهم ينشدون، وكذلك كان الرهبان يصعدون منشدين إلى المحارق أو يصعد إلى منصات الإعدام. والذي يبدو لي أن الإنشاد في مثل هذه الحالات المشابهة لا يفعل فعل المخدر أو المبنج فحسب. ونشيد العمل يأتي بوجه عام بروح المنشد. ولا تتأثر هذه الأناشيد أولا تكاد تتأثر بالتنوعات الفردية، وإنما هي تعكس في المقام الأول الحالة الذهنية للجماعة برمتها. وكلمات الأناشيد التي يتغنى بها المغاربة تكون على وجه العموم عذبة وحزينة ومطبوعة بطابع ديني. وها هو ذا نموذج للنشيد الذي يتغنى به دكاك الأسطح : باسم الله ألواحد أياربي آ ربي الحافظ من كلشي وعليك معول أسيدي ربي يا من جعل تو كالوا في الله العلي يسافر في النجا ويروح في النجا. وتشير هذه الكلمات الأخيرة إلى المأساة التي يكابدها العامل يجبر على الرحيل عن بلده سعياً وراء لقمة العيش، فالابتعاد عن البلد يكون عند المسلم دائماً مصدراً للكثير من المعاناة. والنشيد التالي، وهو خاص بالدكاكين وسائر العاملين في البناء، فيه ترجمة للمشاعر نفسها. ويتحدث المنشد عن ولي البلاد التي يعمل فيها : أنا ضيف الله أمولاي بوشعيب أضامن المؤمنين وأهل الله أمولا بوشعيب يا إمام الحجاج أمول العكب أنا طالبك ضيف الله. وادعي معايا أمولاي بوشعيب. فهذا العامل يشتغل في أزمور. والنشيد التالي يتغنى به عامل آخر في الصويرة، فهو يتوجه بالدعاء إلى ولي هذه المدينة. أنا طالب ضيف الله أسيدي مكدول آلركراكي أنا في حماك راني مضيوم وقاصدك يا سيدي تعيني وتعاوني وتراه يتذكر أحياناً مسقط رأسه ويتذكر الولي الذي يؤمن ببركاته. اللي بغا حاجتو تقضا لو يمشي لوزان يزور تفاجى عليه الأحزان وتخفف عظامه وتقضى لو حاجته في نهاره وأحيانا يكون التذكر لا يطلب منه المنشد شيئاً، كما في النشيد التالي : يا جبل العلم يا جبل الورد آمولاي عبد السلام يا غاني الزوار وكذلك العمال الذين يشتغلون بحفر الآيبار الجوفية المعروفة بالخطارات العجيبة، والتي سنعود إليها بالحديث في ما بعد، يتغنون بشبيهة بهذه الأناشيد مشابهة، ولا نرى حاجة إلى إيراد نماذج لهذه الأناشيد غير زيادة صفحات هذا الكتاب. وسأقتصر منها على إيراد نشيدين اثنين ذوي طابع ديني خالص، ومطبوعين بطابع الإسلام «الحقيقي»، ومعناها الحرفي «الاستسلام لله». ومؤشرات إسلامية من قبيلا : باسم الله وبالله وعلى الله عولنا يا ربي سهل علينا ولا تحاشمنا يا من جدنا بيك تعرف يا مولانا حقق رجانا يا مولانا الصلاة والسلام عليك أرسول الله لا إلاه إلا الله محمد رسول الله». وعلى هذا النحو يحصر الإسلام شخصية المنشدين المساكين في دائرة الإرادة الإلهية الصارمة التي لا تلين، مثلما تحكم عليهم ظروف حياتهم البائسة بحياة ملؤها الشقاء.