تعاظمت ظاهرة الباعة الجائلين التي لم تنجح المواجهة الأمنية والقرارات الاستعجالية في علاج هاته المعضلة التي تختفي لأيام ثم تعود أكثر انتشارا وأكثر قوة، ويعود انتشار ظاهرة الباعة الجائلين، لندرة فرص العمل، الأمر الذي يضطر بعض العاطلين عن العمل إلى مزاولة هذه الوظيفة، بحكم أنها لا تحتاج إلى أموال كثيرة للقيام بها. وباتت هاته الفئة تشكل القطاع الاقتصادي غير المنظم حيث يعمل غالبيتها دون الحصول على تراخيص، وفي نفس الوقت لا تتمتع بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، ناهيك عن عدم التزامها بشروط البيع الخاصة أو المتعلقة بالإجراءات الصحية، أبسطها عدم توفير غطاءات واقية لحماية المنتجات من الحرارة و المطر والغبار وما إلى ذلك. وما بين مطرقة الوضع الاقتصادي، وسندان الوضع السياسي، أصبح الرصيف هو الملاذ لعرباتهم ومصدر رزقهم في ظل ما يواجهه الباعة المتجولون بالمغرب من معاناة يومية قامت جريدة بيان اليوم بتحقيق يرمي، بعد رصد مآسي ومطالب هاته الفئة، بلوغ سؤال الحل من أجل اجتثاث الظاهرة. بيع عشوائي يقول يوسف قبي، أب لطفلة، بائع متجول يمارس هذه المهنة منذ ما يقارب 22 سنة، إن من الصعوبات التي يواجهها أن السلطات تصادر عربته عدة مرات مما يضطره لشراء أخرى. وأضاف يوسف أنه رغم قيام السلطات بعملها وبواجبها إلا أنه ليس لديه بديل بحكم أنه يكتري منزلا ب 2000 درهم ناهيك عن مصاريف أسرية أخرى. وهذا المبلغ لا يجنيه من التجوال خصوصا في ظل ما سببته جائحة كورونا، مما يضطره للسلف من جهات أخرى لإكمال ما تبقى وإلا سيتعرض للتشرد من مسكنه. وأردف أن سبب عدم ذهابه للسوق النموذجي ليكون من المحضوضين للحصول على أحد المحلات التجارية كتعويض عن إجلائه من المكان الذي يعرض فيه بضاعته، هو فشل محاولاته، حيث ذهب وحاول عدة مرات للحصول على محل لكن عملية توزيع المحلات تشوبها الشكوك وانعدام النزاهة في ظل طغيان الزبونية و المحسوبية في توزيع المحلات التجارية. ولفت في هذا الصدد خديلي بوشعيب الذي يبدو في الأربعينيات ويزاول مهنة بائع متجول بعربة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حاصل عليها من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتي من خلالها يعتقد أنه بإمكانه البيع أينما يحلو له مادام حصل عليها من السلطات. ومن المشاكل التي يواجهها غلاء أسعار السلع التي يقتنيها وبالتالي تفوق القدرة الشرائية للزبائن. وزاد المصدر ذاته موضحا أن سبب عدم ذهابه للسوق النموذجي يعزو إلى عدم قدرته على البيع فيه بحكم غياب الرواج، وكذلك غلاء سومة كراء المحل التي تصل إلى 50 درهما في اليوم، الشيء الذي لا يستطيع منحه بحكم أنه لا يحصل عليها في مبيعاته. بدا هذا البائع متأثرا كثيرا وهو يواصل كلامه متمنيا أن يستمر في عملية البيع في عربة المبادرة الوطنية حتى يحين أجله لأنه ليس لديه بديل بحكم أنه يعول أسرة متكونة من 10 أشخاص. وأما سعيد الرباع، فصرح بدوره أن سبب عدم ذهابه للسوق النموذجي هو البعد عن الرواج لذلك يفضل البيع بالتجوال وعند تدخل السلطات يجر عربته لمكان آخر لحين ذهابها ثم يعود للبيع، وبالنسبة له فإن بضاعته وسلعته رغم أنها معرضة لأشعة الشمس و الغبار إلا أنها في اعتقاده تتوفر على شروط السلامة الصحية فهو يشتري يوميا سلعة جديدة لأنه ليس باستطاعته كراء محل الذي يقارب ثمنه 3500 درهما وهذا المبلغ ليس بمقدوره دفعه. وعن رأيه في الباعة الذين يضرمون النار في أجسادهم، قال إن ذلك ليس إلا تعبيرا عن الاضطهاد والمعاناة (الحكرة) التي تعيشها هاته الفئة وما يتبعها من مصاريف ونفقات أسرية. وقال المتحدث نفسه إنه يتمنى أن تتحقق مطالبه التي تتجلى في تحسن الأوضاع وأن تقوم الدولة بتسليم الباعة الجائلين محلات تجارية وأن تعم هذه المبادرة على الكل وليس على فئة معينة. وهو يرى أن لامانع لديه في الالتحاق بالسوق النموذجي إذا طبق القانون على الكل وليس على فئة معينة وترك الأخرى تتجول بحرية وتكسب رزقها أينما يحلو لها. إقبال رغم المعاناة ورغم كل هذه التصريحات التي استقتها بيان اليوم، نلاحظ أن الإقبال يكون كبيرا على تجارة الباعة الجائلين لما توفره للمستهلك من سلع منخفضة التكاليف، خاصة للفئات الفقيرة والمعوزة، كما يلجأ لهم أيضا الأشخاص منخفضي الدخل كنوع من التكيف الاقتصادي مع الظروف المعيشية، كونها أرخص سعرا ومناسبة لوضعهم الاجتماعي. لكن هناك الفئة الأخرى التي التقتها الجريدة والتي تعبر عن معارضتها وتنديدها ورفضها أن تصبح شوارع المدن المغربية مشوهة جماليتها، لكون الباعة الجائلين يحتلون الملك العمومي بعرض سلعهم وبضائعهم فوق الأرصفة وفي جنبات الطرقات و الشوارع ما يفضي إلى عرقلة السير وأيضا ما تسببه مكبرات الصوت التي يستخدمها الباعة في الترويج لسلعهم من ضجيج و ضوضاء، وهذا ما وضحه لنا حارس سيارات بشارع به باعة جائلين رفض الإدلاء باسمه حيث ذكر أن الباعة الحاصلين على عربات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لا يتسببون في أي مشاكل، يختارون مكانا معينا يظلون يبيعون فيه ولا يسببون أي إزعاج ولا يخلفون وراءهم النفايات، حيث تظل أماكنهم نظيفة وإذا بقي شيء يأتي أصحاب النظافة صباحا للتنظيف، في حين أن الباعة الذين يتوفرون على عربات عادية والذين اعتبرهم دخلاء يعرقلون السير في الطريق العام . وأضاف حارس السيارات أن الساكنة بدورها لا يروقها الوضع، فتعمد إلى رمي الباعة بقنينات ماء من الحجم الكبير من شرفات منازلها تعبيرا عن استنكارها لهذه المعضلة. وأوضح المتحدث نفسه أن الأصوات الصاخبة التي تخلقها مكبرات الصوت التي يستعملها الباعة للرواج لسلعهم،هي ناجمة عن قيامهم في الصباح الباكر للحصول على السلع التي سيبيعونها و بالتالي لا يستطيعون الصراخ، بكثرة ما يسببه العياء الذي يستحوذ عليهم لذلك يستعينون بالمكبرات الصوتية. وزاد قائلا إن الدولة خصصت لهم مكانا يجتمعون فيه إلا أنهم يرفضون لأنهم يعرضون سلعهم بدون فائدة لعدم تواجد الزبائن في المنطقة المخصصة لهم. مما لاشك فيه أن التجارة الجائلة تضطلع بدور اجتماعي واقتصادي مهم باعتبارها منفذا لتصريف الإنتاج الوطني وقطاعا يشغل عددا كبيرا نسبيا من اليد العاملة ضعيفة التأهيل،غير أن انتشار هذه التجارة يفاقم من مظاهر الهشاشة في سوق الشغل، ويشكل مصدر منافسة غير مشروعة للقطاع المنظم، ويلحق الضرر بالاقتصاد الوطني، إذ يضيع على الدولة مداخيل ضريبية مهمة. فالباعة الجائلون يشتكون مما آل إليه الوضع وما أصابهم جراء زمن كورونا وكذا تفاقم البطالة والفقر والأزمات الاقتصادية وأنه ليس لديهم بديل غير العربات المجرورة والتجول في الشوارع والطرقات لجلب انتباه المواطن بالأسلعة المعروضة منخفضة الثمن وأنه ثمة عائلات عبر أجيال متعاقبة تعمل في هذه المهنة لتطعم أسرا بأكملها، في حين يشتكي أصحاب المحلات التجارية مما يعانونه من منافسة غير شريفة للباعة الجائلين، تؤثر بشكل كبير عليهم على اعتبار أن عربات الباعة تقدم المنتجات نفسها التي يعرضونها بأثمان مختلفة ومنخفضة نظرا لكون أصحابها لا يكترون محلا ويؤدون الضرائب. هذا ما أكده أناس الشرادي، 25 سنة بائع بمحل، والذي يشتكي بدوره من الباعة الجائلين الذين يضعون عرباتهم ويعرضون سلعهم أمام المحلات التجارية التي تحجب رؤية الزبائن للمنتوجات المعروضة في المحلات، بحيث أن الزبائن يصادفونهم في الواجهة ويشترون من عندهم قبل الوصول إليهم، وخصوصا أمام المساجد، بحيث ستجد أن أصحاب المحلات لا يشتغلون بتاتا بوجود أصحاب العربات المجرورة. ومن الأشياء التي تحوز في نفس أصحاب المحلات أن الباعة الجائلين غير ملزمين بدفع الضرائب، وواجبات كراء محل وما يتبعه من أداء فاتورة الكهرباء، ولا حتى دفع واجبات و مستحقات المساعدين الذين يعملون في المحل، أي أنه لا تتبعهم مصاريف تثقل كاهلهم،هذا ما يجعل أصحاب المحلات يضيفون نسبة فوق ثمن تلك المبيعات وذلك الربح الزائد يغطون به مصاريف المحل. من خلال آراء هذا الطرف وذاك، يبدو أن الكل يشتكي، لكن بطريقته وانطلاقا من ظروفه ومعاناته الخاصة. فالباعة المتجولون ليسوا من نوازل اليوم أو الأمس القريب فهم فئة صار لها كيان في المجتمع الذي يشجعهم بالإقبال عليهم لأسباب عديدة، منها الثمن و السهولة في التفاوض. فهذه الظاهرة تتنامى يوما بعد يوم، وفي كل مرة ينضاف بائع متجول إلى زملائه في مهنة غير قانونية، فهناك عوامل عدة ساهمت في تفاقم ظاهرة التجارة الجائلة، من أبرزها البطالة والهجرة القروية والنمو الديمغرافي، واختلالات منظومة التربية و التكوين، والتوسع العمراني غير المنظم، وضعف تنظيم القطاعات الاقتصادية والمهن، ووجود أنشطة تهريب البضائع فضلا عن استفحال الهدر المدرسي، إذ تخلى في 2020 أكثر من 300 ألف تلميذ عن مسارهم الدراسي دون الظفر بتكوين ومؤهلات تساعدهم على الاندماج الاجتماعي والاقتصادي، حتى الأرقام تتوارد بخصوص ظاهرة الباعة الجائلين والتحاليل تجتهد في باب إيجاد مخرج لهذا المشكل حيث أن الأرقام تعكس تضخم الظاهرة بالمغرب وتدق ناقوس الخطر. وبما أنه لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد الباعة الجائلين، بحكم انتقالها للقرى والأرياف كذلك، إلا أن تقدير الخبراء حدد عددهم في المغرب في 680 ألف شخص أي ما يعادل حوالي 15 في المئة من القوة العاملة في المغرب، وهم يتشكلون في الأغلب من المراهقين أو الأطفال الذين تسربوا من المدارس وفقدوا الحصول على فرصة التعليم، أو من الشباب الذين لم يتمكنوا من الحصول على عمل أو وظيفة في المؤسسات الحكومية في المغرب، لتظل أنشطتهم على الهامش وتعتبر حسب القانون أنشطة اقتصادية غير منظمة. وجهة نظر رسمية هناك اجتهادات مؤسساتية تسير في اتجاه إيجاد حل لهذه الظاهرة، حل يمكن هؤلاء من الاحتفاظ بمورد رزقهم ويصون حرمة القانون أيضا. فالسلطات العمومية أطلقت العديد من البرامج الرامية إلى الإدماج المباشر للقطاع غير المنظم غير أن المبادرات المتخذة لم تمكن من معالجة إشكالية الاقتصاد غير المنظم هذا البرنامج الوطني الذي امتد من 2015 إلى 2018، لم يساهم في إعادة تأهيل سوى 124.000 من الباعة المتجولين من أصل 430.000 بائع مُستهدف. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن الخطب الملكية قد أولت أهمية بالغة لقضية تأهيل القطاع غير المنظم، حيث دعا الخطاب الملكي السامي، بمناسبة الذكرى الخامسة والستين لثورة الملك والشعب في 20 غشت 2018 إلى "وضع آليات جديدة تمكن من إدماج جزء من القطاع غير المهيكل في القطاع المنظم، عبر تمكين ما يتوفر عليه من طاقات، من تكوين ملائم ومحفز وتغطية اجتماعية ودعمها في التشغيل الذاتي أو خلق المقاولة" كما أن إطلاق مشروع تعميم الحماية الاجتماعية بمبادرة ملكية سامية، يعتبر عنصرا حاسما يمكن أن يشكل لبنة أساسية في إستراتيجية وطنية متكاملة ترمي إلى تحقيق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي للباعة المتجولين. في هذا الصدد، وفي حديث خاص لبيان اليوم، أوضح أحمد بريجة رئيس لجنة المرافق العمومية والخدمات في مجلس جماعة الدارالبيضاء لبيان اليوم، أن ظاهرة الباعة الجائلين هي ظاهرة عالمية ولا تقتصر فقط على المغرب أو الدارالبيضاء، ومعالجتها تستلزم مجموعة من المقاربات، منها المقاربة الاجتماعية، الإقتصادية، ومقاربة موارد الجماعة، وهذا اختصاص مشترك مابين السلطة المحلية وما بين المنتخبين، وهذا اختصاص مشترك على حسب القانون التنظيمي الذي ينص على أن رجال السلطة هم المسؤولون. كما ذكر أحمد بريجة أن مسؤولي المدينة هم أيضا أطراف معنية كمدينة وكمنتخبين، وزاد موضحا أن تجربة الأسواق النموذجية التي عملت في شكلها الحديث المتطور جيدة، وخير مثال تجربة البرنوصي التي كانت ناجحة وحضيت باستحسان جلالة الملك. وأضاف قائلا إنه يتمنى أن تعمم وأن تشمل على الأقل بعض النقط السوداء بمدينة الدارالبيضاء، وزاد قائلا "إننا لا نستطيع القضاء على الباعة الجائلين، هذا أمر لا يمكن"، مشيرا إلى الأسباب التي تجعل تجربة الأسواق النموذجية لا تعمم لظروف كرمضان، وعيد الأضحى وحتى بسبب جائحة كورونا، وهذا كله يدخل في إطار الاقتصاد غير المهيكل. وزاد قائلا" نحن نريد من الحكومة تطبيق ما جاء في برنامجها الذي يرمي إلى تحويل القطاع غير المهيكل إلى قطاع مهيكل، وجميع الفاعلين والمتدخلين يريدون الانخراط في هذا المشروع الطموح". وأشار بريجة إلى أن الدولة قامت بمجموعة من الإجراءات بخصوص الباعة الجائلين الذين أصبح لهم الحق في الحماية الاجتماعية، وأصبح لديهم الحق في الاندماج داخل المؤسسات الاجتماعية، أي أنه أعطيت فرصة لهاته الفئة كي تتمتع ولو بالقليل من الحقوق، لكن كيفما كان الحال الأمر صعب وليس بالسهل ويجب تظافر الجهود، وحتى الباعة الجائلين بدورهم يجب أن ينخرطوا في مشاريع الدولة وذلك عن طريق التكوين والتأسيس والتأهيل لكي ينخرطوا في مشروع الدولة أو الجماعة. ويرى رئيس لجنة المرافق العمومية والخدمات في مجلس جماعة الدارالبيضاء أن احتلال الملك العمومي هو أيضا ظاهرة منتشرة ولها آثار سلبية، فهناك عدة أنواع من احتلال الملك العمومي، احتلال من أجل التجارة، وإخر تقوم به المقاهي، وايضا احتلال من أجل بعض البنايات الخفيفة واحتلال الملك العمومي الخاص بالدولة لأمد طويل. احتلال الملك العمومي، يعتبر إذن بالنسبة لأحمد بريجة، ملف كبير يجب تقنينه وهذا كله في إطار القانون، لكن الصعوبات نجدها في تنزيله وتفعيله. فمثلا يمكن أن تبعد الباعة الجائلين عن الملك العمومي، وما أن تمضي مدة وجيزة حتى يرجعون إليه، ولذلك يجب حتى على الباعة الجائلين أن يكونوا منخرطين معنا في مشروع التنظيم والتأهيل. ولفت المتحدث، في ختام تصريحه، إلى أن الاقتصاد غير المهيكل لا يساهم في ميزانية الدولة، هناك مداخيل ضائعة لا بالنسبة للجماعة ولا بالنسبة لضرائب الدولة. وكما سبق أن ذكر، من الضروري اعتماد المقاربات الثلاث: الاجتماعية، الاقتصادية،ومقاربة الضرائب والرسوم. من أجل المساهمة في ميزانية الدولة وميزانية الجماعات. ورغم كل الجهود المبذولة من طرف المسؤولين، نلاحظ الاستفحال المتواصل لظاهرة قائمة، إذ هناك عدة عوامل تساهم في استمرار القطاع غير المنظم بالمغرب، منها مستوى التأهيل غير الكافي الذي يُقْصِي العديد من السكان النشيطين من الاشتغال في الاقتصاد المنظم، وقلة فرص الشغل اللائق والدائم بالعالم القروي، وإشكالية تمثيلية الفاعلين المشتغلين في الاقتصاد غير المنظم ووجود مشاكل في تنظيم المهن تعيق تحديثها وإدماجها في القطاع المنظم. كما يسجل ضعف إدماجية منظومة الحماية الاجتماعية واستمرار الحواجز القانونية التي تعيق مسلسل إدماج الاقتصاد غير المنظم، وكذا صعوبة الولوج إلى التمويل وإلى السوق والوعاء العقاري، وكذا إلى آليات مناسبة للدعم والمواكبة غير المالية لتيسير الانتقال إلى القطاع المنظم، وأيضا محدودية فعلية القوانين في هذا المجال لاعتبارات مختلفة مما يفسح المجال لممارسات الفساد. حلول منطقية وللقضاء على هذه الظاهرة وضعت استراتيجية مندمجة وواقعية حسب ما صرح به المجلس الاقتصادي الاجتماعي تهدف مرحليا إلى الحد من حجم الاقتصاد غير المنظم بالمغرب، حيث يجب أن تكون هذه الإستراتيجية معززة بمؤشرات قياس ملموسة حسب نوع العراقيل التي تم تسجيلها وحسب فئة الفاعلين في القطاع غير المنظم. تنزيل هذه الإستراتيجية يجب أن يُمكن من تقليص حصة الشغل غير المنظم تدريجيا إلى 20 في المائة من إجمالي مناصب الشغل، وهي نسبة قريبة من المتوسط المسجل لدى مجموعة من البلدان المتقدمة. هذه النسبة المنشودة ينبغي أن تشمل بالأخص الأنشطة المعيشية، وكذا الوحدات الإنتاجية غير المنظمة ذات القدرات المحدودة، في حين يجب اعتماد توجه أكثر صرامة يروم القضاء على الأنشطة غير المشروعة والمستترة وعلى ممارسات الوحدات الإنتاجية غير المنظمة المنافسة للقطاع المنظم. ويرى الخبير الإقتصادي والمالي المهدي فقير أن مسألة الباعة الجائلين هي مسألة معقدة بعض الشيء، يختلط فيها ما هو اجتماعي مجتمعي،بما هو اقتصادي وبالتالي فالأنشطة في حد ذاتها هي أنشطة معاشية. ويعتقد المهدي فقير، في حديث لبيان اليوم أنه، إذا قدر في يوم من الأيام أن تنتظم الأنشطة غير المهيكلة في إطار أنشطة مهيكلة، سوف تذر على خزينة الدولة عوائد جبائية فيما يتعلق بالضريبة على الدخل، لكن يجب الانتباه إلى أن هذه الشريحة ليست بالضرورة شريحة قادرة على كسب قوت يومها بسهولة وبالتالي فهناك إعفاءات تتعلق بالمرجعية للضرائب الذي يضع سعرا أعلى وسعرا أدنى فيما يتعلق بالاستفادة من الإعفاءات، وأكد فقير أن القطاع غير المهيكل يعد قطاعا مذرا للدخل وبالتالي فهو يقع تحت طائلة رزمنة التشريعات الضريبية و الشبه ضريبية، دون أن ننسى أن الذين يعملون في هذا القطاع كذلك هم بطبيعة الحال أشخاص مشمولون بالتغطية الصحية، وبالتالي وجب عليهم المساهمة فيها، فمجمل القول إن هؤلاء المنتظمون في القطاع غير المهيكل ينهكون ميزانية الدولة، لأن التجهيزات العمومية وكذلك استغلال الملك والفضاء العام يتم دون أداء الصوائر، وهذا الاستغلال يؤدي إلى خسائر وإلى اهتلاك الفضاءات العامة مما يجبر الدولة على الاستثمار من أجل إعادة تهيئة هذه الفضاءات والمساحات العمومية، وبالتالي هناك مسؤولية على الدولة في هذا الإطار و خسائر كبيرة تتكبدها إذا لم يؤد هذا القطاع مشمولاته فيما يتعلق بالصوائر الضريبية والشبه ضريبية، وكذلك يتعلق الأمر بالمسائل المتعلقة بالتغطية الصحية. وأوضح الخبير أن انتشار هذا النشاط هي مسألة هيكلية وثقافية لأن البعض يفضل البقاء في القطاع غير المهيكل لأنه لا يشكل من الناحية الإجتماعية ضغطا عاليا فيما يتعلق بصوائر الضرائب، وبالتالي، يعتقد أنه من الخطأ الاعتقاد بان هذه أفضل طريقة من أجل ممارسة أي نشاط اقتصادي، بمعنى أنه لن تكون هناك ضغوط ضريبية إلى غير ذلك . ولكن، في تقديريه أيضا هناك جانب معاشي بحكم أن نسبة كبيرة من هؤلاء الأشخاص الذين يشكلون القطاع غير المهيكل هم أشخاص في وضعية هشاشة، وفي وضعية فقر، وبالتالي وجب الالتفاتة إلى هذه الظاهرة. و كشف فقير أنه هناك قطاع غير مهيكل معاشي، ولكن هناك قطاع غير مهيكل الذي هو مقصود ومرتبط بثقافة استغلالية لدى البعض. فثقافة الجشع التي مع كامل الأسف الهدف منها هو البقاء خارج القوانين والأنظمة لأداء أقل ما يمكن من الضرائب، وكذلك لممارسة نشاط اقتصادي دون أية ضوابط، مضيفا أن الحلول في تقديره يجب أن تكون حلولا ابتكارية في إطار مقاربة تشاركية مع من يمثل هذا القطاع غير المهيكل ، لأن العديد من الجمعيات تمثل هذا القطاع، وكذلك أن تلجأ الحكومة إلى دوي الاختصاص من أجل التفكير في حلول ابتكارية عملية دائمة سوف تمكن من إدماج كامل وتام ودائم ولكن بشكل تدريجي لهذا القطاع غيرالمهيكل. وفي المقابل، يقول الخبير الاقتصادي عمر الكتاني، أن الباعة الجائلين الذين يقدر عددهم بنصف مليون شخص والذين ينتمون إلى القطاع غير المهيكل، يتجهون لهذا القطاع لعدة أسباب منها عدم إكمال دراستهم بسبب ظروفهم الاجتماعية التي لم تسمح لهم بذلك وغالبا كانوا ينتمون لسكان البادية والقطاع الفلاحي الذي يقع فيه كل سنة أزمة إنتاج. وبسبب تكرار الجفاف الذي يؤدي إلى فقدان ما بين 60 ألف و 150 ألف شخص عملهم، يضطر 90 % منهم إلى الهجرة للمدن. فالإحصاء الأخير يقول أنه 150 ألف فرصة شغل فقدت بسبب جفاف المغرب هذه السنة، إذن هذه الفئة تتحول إلى باعة متجولين. واستطرد الكتاني أن الخسارة الأولى وجودهم كباعة متجولين تتمثل في عدم إدماجهم داخل النسيج الاقتصادي وهو ما يؤثر على على المداخيل الضريبة، علما أن وضعهم هذا لا ينفي عنهم كونهم منتجين من الناحية التجارية أي يحركون الاقتصاد بشكل أو بآخر. وأوضح المتحدث نفسه أن هناك أراضي للخواص في قلب المدن تكتريها للباعة الجائلين لكي يبيعون فيها السلع وحتى الأكباش في عيد الأضحى، إذن القطاع غير المهيكل يدخل ضرائب غير مباشرة من كراء الأراضي التي يبيعون فيها سلعهم، وبالتالي يدخلون ضريبة غير مباشرة بالنسبة للضريبة على القيمة المضافة، وهذا يوضح أن القطاع غير المهيكل ليس عالة على المجتمع بل هو قطاع يروج للسلع لكن ليس بالشكل المطلوب ولا بمردودية كبيرة . وفسر عمر فاكر استمرار هذا النشاط الذي اعتبره نشاط اضطراري وليس اختياري بسبب ضغوطات أولها الضريبة وتانيها الأماكن التجارية التي يتعذرعليهم كراؤها بسبب غلائها، وبالتالي فهم عوض أن يتحولوا إلى منحرفين يسرقون للمحافظة على قوت عيشهم، يتعاطون للبيع في الشوارع. ومع ذلك، يقول عمر فاكر، يظل الباعة المتجولين في وضع غير طبيعي وغير منطقي وغير أخلاقي وغير إنساني، نتيجة السياسة الرسمية للدولة التي من واجبها السهر على حسن السير الدراسي، تفاديا للعزوف في مراحل مبكرة مما يؤدي إلى تفشي ظاهرة الباعة الجائلين. ويرى الخبير الاقتصادي أن حل مشكلة الباعة الجائلين الذين يصل عددهم إلى نصف مليون شخص يكمن في التشجيع على التمدرس، وخلق فرص الشغل لهؤلاء الأشخاص الذين ينحدر أغلبهم من البادية، لا يتوفرون على شواهد مدرسية، ولا على تغطية صحية، يهاجرون إلى المدن، قد ينحرفون وقد يتحولون إلى باعة متجولين. نستنتج إذن، من كل هذه التصريحات والوقائع التي كانت بيان اليوم مواكبة لها في هذا التحقيق أن الحلول كثيرة والمطلوب هو منطق مختلف لتناول الظاهرة، منطق يدرك أن الدولة القوية هي الدولة القادرة على استيعاب تغيرات المجتمع وتقديم الحلول المبتكرة وحماية حقوق المواطنين الاقتصادية و الاجتماعية ، ودعوة الحكومة لعدم الاستهانة بوضع الباعة الجائلين ولإعطاء الأمر أولوية والتفكير في بدائل مبتكرة وحلول توفيقية بمشاركة هؤلاء الباعة وخبراء من التخطيط العمراني. وتظل معضلة الباعة الجائلين ظاهرة مستعصية في المنظومة الإقتصادية المغربية، ومصدر قلق، لذلك ينبغي في إطار الحكامة الترابية، العمل على تشجيع اضطلاع الجماعات بالمسؤولية في مجال التكفل بالفاعلين في القطاع غير المنظم ومواكبتهم في مسار اندماجهم وتنظيمهم، مع التعامل مع هؤلاء الفاعلين كمقاولين قائمي الذات تنطوي أنشطتهم على مؤهلات حقيقية في خلق القيمة وتوفير فرص الشغل .