من منا لا يملك ذكريات من الماضي ما تزال مختزنة في ذاكرته يقدم صورها للغير عند الطلب أو عند المشورة لتقريب صورة أحداث ووقائع وطرائف سجلها الماضي القريب أو البعيد .. وتبقى ذكريات الشخصيات التي تطبع مسار التاريخ في كل المجالات الأكثر شدا للانتباه، ومنها ذكريات أبطالنا الرياضيين الذين غيبهم الاعتزال عن الميادين. لاعبون مروا بالملاعب وأثثوا المشهد الرياضي ببلادنا، لكن أخبارهم توارت إلى الخلف عن الجماهير .. جماهير لا تعرف عنهم الكثير فيما يتعلق بالجانب الشخصي وتتشوق إلى معرفة كل كبيرة وصغيرة .. فكيف إذا تعلق الأمر بأطرف المواقف التي مر بها هؤلاء اللاعبون في مسيرتهم مع أسود الأطلس، نعلم كل شيء عن مسيرتهم، ألقابهم الشخصية، أهدافهم، الأندية التي جاوروها .. لكننا لا نعلم ما هو أطرف، مواقف تعرضوا لها بقميص المنتخب وخارج الحياة الاعتيادية. في سبرها لأغوار صور الماضي، اختارت «بيان اليوم»، طيلة هذا الشهر الفضيل، التقرب من لاعبين سابقين بالمنتخب الوطني داعبوا كرة القدم بسحر ومهارة. لن نقف عند صولاتهم وجولاتهم في المستطيل الأخضر، أو بالقرب من دكة الاحتياط، أو داخل غرفة تبديل الملابس .. بل سنركز أيضا على ما جرى أيضا بالمستودعات وخلال الرحلات بل وخارج الإطار العام للممارسة كرة القدم. إنها سلسلة حلقات رمضانية نجول من خلالها وعبرها لتقطف من بساتين لاعبي كرة القدم المعتزلين نوادر وطرائف تزيل غبار النسيان عن ماضي جميل لأسماء كبيرة لمن تغادر الذاكرة الجماعية للمغاربة. لعبت كأس إفريقيا وأنا مصاب بالتيفويد.. و حكاية الطائرة التي جانبت الانفجار نصل اليوم إلى الحلقة الخامسة والأخيرة من ذكريات النجم السابق لكرة القدم المغربية أحمد فرس، ويتحدث فيها عن إصابته بالتيفويد، وحادث الطائرة التي اندلع حريق بمحركاتها، مع الإشارة إلى أن إعداد هذه الذكريات اعتمد في جزء كبير منها على كتاب الزميل عبد العزيز بالبودالي، الذي خصصه لرصد السيرة الذاتية لأحمد فرس: « كان كل شيء يسير على ما يرام عندما التحق الفريق الوطني بالديار الإثيوبية للمشاركة في كأس إفريقيا سنة 1976 والتي ستكون من نصيبنا. في أحد تلك الأيام الجميلة كانت العناصر الوطنية مجتمعة حول مائدة العشاء عندما انتابتني رعشة باردة أحسست معها بدوخة وبصداع أليم يلف كل جسمي.. قمت مسرعا في اتجاه غرفتي لأبحث عن قسط من الراحة على آمل أن يزول ذلك التعب.. تمددت على السرير لفترة طويلة دون أن يعرف النوم طريقه لجفوني. ازداد الألم وتحول إلى مغص شديد. في صباح اليوم الموالي بدت حالتي جد مقلقة لأكتشف بعد خضوعي لفحص من طرف طبيب المنتخب الدكتور الصريري أنني مصاب بمرض التيفويد.. مدني الطبيب بوصفة للعلاج وأمرني بأخذ قسط من الراحة وعدم إجراء أية حصة تدريبية.. مرت بضعة أيام لم أبارح فيها غرفتي وكنت أتناول فقط الوجبات السائلة. وكان الدكتور الصريري يلازمني في غرفتي وظل ساهرا على متابعة حالتي باهتمام كبير. وحل موعد المباراة الأولى ضن منافسات كأس إفريقيا وكانت ضد المنتخب السوداني بمدينة ديرداوا الإثيوبية. كنت أبكي قدري وأتألم في صمت كنت غارقا في التفكير في حظي العاثر عندما فوجئت بدخول الكولونيل بلمجدوب رحمه الله لغرفتي رفقة المدرب ماردريسكو. سألنني الكولونيل عن صحتي وطلب مني النهوض لمرافقة لاعبي المنتخب إلى الملعب والمشاركة في اللقاء. ذهلت من حديثه وأجبت بعد تفكير بأنه ليس في استطاعتي خوض تلك المقابلة لأنني لن أقدم خلالها أية إفادة .لم يتركني الكولونيل بلمجدوب أكمل جملتي حتى انتفض قائلا:»فرس اسمعني ما كاين لا مرض لا والو ستدخل المباراة وستقود أصدقاءك بدون أن يشعروا أنك مريض». ألح الكولونيل في حديثه وأكد أن المطلوب مني والوقوف في وسط الميدان بدون بدل أي مجهود، إذ يكفي أن يعلم الجميع أن فرس حاضر في المباراة فقط... لم أجب بالرفض ولا بالإيجاب فكرت وطرحت كل الاحتمالات لم أكن أتخيل نفسي حاضرا في مباراة وأنا شبح عاجز عن تقديم يد العون لزملائي اللاعبين. كان القرار صعبا ولكنني اتخذته. سأشارك في المباراة بدون تفكير أو انشغال بالعواقب مهما كانت، شعرت بعد المباراة بتعب شديد بعد أن تلقيت تهاني أصدقائي اللاعبين .وهكذا شاركت في جميع المباريات بل وساهمت في فوز الفريق الوطني بتلك ألكاس الغالية وبقيت دائما أتذكر إلحاح الكولونيل بلمجدوب علي للمشاركة في المباراة الأولى، رغم المرض الذي ترك بصماته على بدني. تذكرت قوله كما يخطر على بالي ما كان يردده مدرب شباب المحمدية المرحوم عبد القادر الخميري عندما أعبر عن نيتي في عدم المشاركة في مباراة ما بسبب المرض حيث كان يشير على مسئولي الفريق بالتوجه إلى منزلي ورمي الكرة أمامه. وكما كان يقول أتركوا الكرة تتدحرج أمام البيت، فالأكيد أن فرس ستثيره وسيلحق بها. بعد تأهيل الفريق الوطني إلى الدور الثاني من منافسات كأس 1976 كان النظام المتبع يخضع المنتخبات المتأهلة لنظام بطولة مصغرة يفوز باللقب منها من حصل على أكبر عدد من النقط، استعد الفريق الوطني جيدا لهذه البطولة خصوصا على المستوى النفسي. وقتها ما زلت أعاني من مخلفات مرض التيفويد، لكن رغبتي كانت قوية للمضي قدما مع زملائي إلى أقصى المنافسة. وكان علينا الانتقال من مدينة ديرداوا حيث خضنا منافسات الدور الأول إلى مدينة أديس أبابا لكن خلال هذه الرحلة وقع حدث كاد أن يزهق أرواحنا ولعل زملائي والوفد المرافق لن تنمحي من ذاكرتهم وقائع ذلك الحدث. فمباشرة بعد إقلاع الطائرة التي كانت تقلنا شعرنا بحركة غريبة مع تمايل لمحركات الطائرة. ذب الخوف فينا جميعا وتعالى الضجيج بعد أن تأكدنا من اندلاع حريق في أحد المحطات. مضت أزيد من ربع ساعة من الزمن إن لم أقل إن الزمن توقف في تلك اللحظات العصيبة فقد بدا لنا الموت قريبا يحوم حولنا ونحن على ارتفاع كبير..لحظات بعد ذلك نجح الربان في الهبوط بالطائرة بسلام لم ينسنا هول ما وقع، رفض اللاعبون صعود تلك الطائرة بعد أن تم إصلاحها وظل التردد قائما إلى حين إقناعنا بذلك. تبددت مخاوفنا خصوصا بعد أن تردد بين صفوف اللاعبين ما مدلوله أن ما وقع ليس سوى إشارة منه سبحانه وتعالى تنبئ بخبر قادم من بعد (إن بعد العسر يسرا ). والجميع يعرف بقية الحكاية إذ عدنا بكأس إفريقيا بعد مباريات شاقة وصعبة ضد منتخبات قوية من مثيل مصر، نيجيريا وغينيا». * عن كتاب «أحمد فرس سيرة حياة» لمؤلفه عبد العزيز بلبودالي. غدا ما حدث للغريسي بمطار أورلاندو