الوفاء لروح الفكاهة والانشغال بالقضية الوطنية الأولى وظفت مسرحية «القضية فالبرقية» لفرقة مسرح الحي،الأنغام الصحراوية للإحالة على المحتجزين في مخيمات العار بجنوب تندوف، حيث سيعود أحدهم من هناك إلى الوطن بعد خمس وعشرين سنة من الغياب القسري، وبعد أن كان قد أشيع خبر وفاته، وسيجد أن زوجته قد قامت بتنمية ثروته بمساعدة زوجها الثاني، ويطرح الإشكال حول ما ينبغي فعله إزاء هذه الحالة الاجتماعية الشائكة، سيما وأن كل طرف من هؤلاء، سيتشبث بقرار عدم الطلاق، لتبقى الكلمة الأخيرة لصوت القانون، الذي ينص على أن الزوجة ستعود إلى زوجها الأول. هذا بصفة إجمالية محتوى المسرحية التي قدم عرضها الأول يوم الجمعة الماضي، ابتداء من الساعة التاسعة وأربعين دقيقة ليلا، بقاعة ميغاراما الأنيقة بمدينة الدارالبيضاء، والتي قام بتأليفها محمد الزناكي وأخرجها عبدالإله عاجل،وأنجز سينوغرافيتها عائشة الدكالي وصمم ملابسها سهام فلان، وقام بتشخيص أدوارها الأساسية: حسن فلان وعبدالإله عاجل ونورالدين بكر والسعدية أزكون ونجاة الوافي وجواد السايح وإبراهيم خاي وسعيد لهليل... تم تقديم العرض المسرحي الجديد لفرقة مسرح الحي، بعد غيابها عن الساحة الفنية، الذي دام عدة سنوات، مع العلم أن هذه الفرقة كانت قد حققت نجاحا، نكاد نقول، غير مسبوق، على مستوى نسبة الإقبال على عروضها، إلى حد أن التذاكر كانت تباع في السوق السوداء. ويعود السر في ذلك النجاح، إلى كون الفرقة تضم نخبة من الفنانين الفكاهيين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة، غير أن العرض المسرحي الجديد، لوحظ به غياب بعض هؤلاء الفنانين، نذكر من بينهم على وجه الخصوص: محمد الخياري وعبد الخالق فهيد ونجوم الزوهرة.. ومن ثم يبقى من المشروع التساؤل حول ما إذا كان هذا الغياب، قد أثر بشكل سلبي على العمل المسرحي الجديد. إدارة الفرقة تؤكد أن الفنانين المذكورين، لم ينفصلوا عن الفرقة، وأن عدم حضورهم في مسرحية القضية في البرقية، يرجع بصفة أساسية إلى كون «الأدوار المناسبة لهم غير موجودة في النص المسرحي، وبالتالي من الممكن أن يظهروا في عروض أخرى للفرقة..». لكن المتتبع لهذه المسرحية، يستطيع ملامسة أن بعض الأدوار كان من الممكن أن يشخصها هؤلاء الفنانون الغائبون، وينجحوا في مهمتهم؛ لأن تلك الأدوار بدت أنها وضعت على مقاسهم، وكانوا يبدون شاخصين أمام أعيننا، على الخشبة، وهو يؤدون تلك الأدوار، حتى وإن كانوا غائبين، وهذا ليس مصادفة، لكونهم يشكلون عصب فرقة مسرح الحي، وراكموا عدة أعمال ضمن هذه الفرقة نفسها، دون أن يعني ذلك التنقيص ممن أخذوا أماكنهم؛ فدور زوجة العائد من تندوف، كان من المفروض أن تؤديه نجوم الزوهرة، سيما وأن من شخصت الدور بدلها، كانت تحاول محاكاتها في أغلب المشاهد: محاكاة صلابة شخصيتها وحدة نبرات صوتها وثقتها الكبيرة في النفس. كما أن الخياري كان من الممكن أن يؤدي دور المحامي، على اعتبار أنه تتوفر فيه المزايا المرسومة لهذه الشخصية، حيث جرى تقديمها باعتبارها مخذولة إلى حد ما. في حين أن فهيد، كان من المفروض أن يؤدي دور الحمال ذا البنية القوية، تلك الشخصية التي ما فتئت تزعج عمال المخبزة، بسبب نزقها وبلادتها، وهي أوصاف، لا يعدمها فهيد، غير أن هذا الدور أسند –للمفارقة- لجواد السايح، ذي البنية الجسمانية الضعيفة،في حين كان من المفروض أن يؤدي السايح دور ابن العائد من تندوف،الذي لم يكن يعلم أن الرجل الذي قام بتربيته ليس أباه البيولوجي، وسيصاب بأزمة نفسية عندما يكتشف الحقيقة. غير أن الممثل الواعد المهدي فلان، قد توفق إلى حد بعيد في تشخيص هذا الدور، الذي يفرض إتقان الحركات القلقة والمتوترة، وإبداء الشعور بالحزن، وما ساعده أكثر على التوفق في أداء دوره، هو لجوؤه إلى تكرار حركة بعينها لإيصال إحساسه المأساوي، وتتمثل هذه الحركة في ضغط فمه بإحدى كفيه، وهذا ينم عن الوعي بالتشخيص الفني للدور المسند إليه. تحضر الأنغام الصحراوية في مسرحية «القضية في البرقية»،باعتبار بعدها الفني والجمالي من جهة، والرسالة الوطنية التي تحملها من جهة أخرى، وقد تم استهلال العرض بأغنية حسانية مؤداة على آلة الأورغ الذي كان يصدر أنغام القيتارة الكهربائية، بأنامل الفنان فتاح النكادي، كما تخللت هذه الأنغام، مجموعة من المشاهد، وتقرر الاختتام بها، يقول مطلع الأغنية: «شوقي لك يا صحراء..حمراء ونجمة خضراء.. جامعة القبيلة..ياعالم بغيناك تشوف..طولنا في تندوف..وعيات الماكانا..ما بغينا كلاشينكوف والقنبولة إعانة..» ووقع الاختيار على أن يكون الفضاء الذي تجري فيه المسرحية، عبارة عن مخبزة، في الفصلين معا، اللذين استغرقا حوالي مائة وعشرين دقيقة، مع العلم أن فترة الاستراحة بين فصلي المسرحية، عرفت تمطيطا غير محبب،حيث امتدت من الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة إلى الحادية عشرة وعشرين دقيقة، وكان يصل في تلك الأثناء، إلى مسامع المتفرجين، صوت دق المسامير خلف الستار المنسدل، وكان يجري التساؤل حول ما إذا كانوا بصدد صناعة الديكور، وهناك من اقترح أن يتم تغيير السينوغرافيا أمام أعين المتفرجين وليس خلف ستارة سميكة. لم يكن لفضاء المخبزة أي دور أساسي في الخط الدرامي للمسرحية، عدا كونها تشكل قسما من الثروة التي نماها الزوج الثاني، وكان يمكن أن تجري الأحداث في مجرد غرفة كيفما كانت، دون أن يكون لذلك أي تأثير على تطور الأحداث، غير أنه تم اللجوء إلى فضاء المخبزة، لاعتبار جمالي، بصفة أساسية، ذلك أن مشاهدة الخشبة مؤثثة بأنواع من الخبز والحلويات، شيء محبب للنفس، فضلا عن أن هذا الشكل من التأثيث غير سائد في عروضنا المسرحية. وطبعا؛ فإنه بالرغم من أن هذا العرض المسرحي، له طابع إنساني، حيث يسرد حالة مأساوية لعائد إلى وطنه بعد غياب طويل وقسري؛بالموازاة مع عرض الحياة اليومية لعمال المخبزة في أرض الوطن،وانشغالهم بتحسين وضعهم الاجتماعي؛ فإن فرقة مسرح الحي، لم تحد عن نهجها الذي خطته لنفسها منذ خروجها إلى الوجود، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وهذا النهج يتمثل في روح الفكاهة، التي كانت تسري في معظم مشاهد المسرحية، مسرى الدم في العروق، وكان يتم الاستعانة في تحقيق ذلك، أحيانا بتحوير الكلمات، كما هو الحال بالنسبة لكلمة «فتح» التي اعتقد أحدهم أنها تتعلق بعملية جراحية، في حين أن الأمر كان له علاقة بافتتاح مخبزة. وكلمة «الضروة» التي يقصد بها في التعبير الفرنسي «القانون»، والتي كان يخلطها أحدهم بسنم الجمل. وأحيانا كان يتم ترديد تعابير، تعد في حد ذاتها مثيرة للضحك،كما هو الحال بالنسبة لكلمة «ملاوط». أو ذلك المشهد الذي يتعب فيه ابن العائد من تندوف، بسبب تدخله المتكرر لفض الاشتباك بين عمال المخبزة، حيث سيجد نفسه يخاطبهم قائلا، أن يتركوا له نفسا لأجل أن يقوى على إتمام المسرحية. أو ذلك التعليق الساخر الذي يشير إلى أن الديمقراطية لا توجد سوى في مكان واحد، هو المرحاض... إلى غير ذلك من المشاهد الفكاهية التي حفلت بها هذه المسرحية، التي ارتأى أصحابها إهداء عرضها الأول للفنان المسرحي مصطفى سلمات، الذي يجتاز حاليا محنة صحية، شافاه الله. في مقابل ذلك، كان يتم من وقت إلى آخر تسليط الضوء على الظروف المعيشية المأساوية للمغاربة المحتجزين في مخيمات تندوف،حيث تتم المتاجرة في الأعضاء البشرية. ومثلما انطلق العرض في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة ليلا، على أنغام صحراوية، تم الاختتام في الساعة الثانية عشر وخمس دقائق صباحا، بهذه الأنغام نفسها، التي تحمل رسالة مفادها أن مأساة المحتجزين في تندوف قد طالت، وينبغي أن يوضع لها حد.