كان يجب أن أنتهي، فعالمي الصغير قد توقف ولم يعد يتحرك. الحياة أمست جثة هامدة تقبع أمامي. كنت أراقبها وهي تتفسخ وتتحول إلى لعنة تحمل سوء الطالع وتحمل البؤس أيضا. ابتلعت بعض الحبوب فصار العالم ثقيلا. وعاهدت نفسي ألا استيقظ هذا الصباح. سأبقى في السرير حتى تكتشفني صديقتي العجوز التي تتردد علي من يوم إلى آخر. ليلة البارحة قالت إنني أبدو مرهقا وعلائم الاختلاط في عيني. راحت تقترح أن تبقى جانبي كي تعدل مزاجي وتؤمن قوة روحية تعيد لي البهجة والامتلاء. فرفعت سماعة الهاتف ونقلت إلى ابنها أنها سوف تتأخر وعليه ألا ينتظرها. جلست بقربي تتلو بعض النصوص من الكتاب المقدس وتذكرني بالروح القدس. فخطر في بالي فيلم «آلام السيد المسيح» الذي رأيته في بيتها ورحنا نبكي على الوحشية التي يمتلكها الانسان ضد أخيه الانسان. كان ابنها يردد بين فينة وأخرى، وحوش.. ها.. ليسوا سوى وحوش.. ها. فكرت قليلا بالموت، بعض الاحيان يعبر الانسان الى الأرض الفاصلة بين الموت والحياة فيتجول فيها لبعض الوقت حتى يعتصره الشوق فيتراجع عن الموت. إن ما يجعله يعود إلى الحياة هو حب الامتلاك. فحسبت ما أمتلكه، ماذا أملك؟ لا شيء كما يقال لدي، فالفقر الروحي قد عم ولن توهمني كينونة التملك كي اتمسك بالحياة أكثر مما تمسكت بها. قبل أن يموت زوج صديقتي العجوز في Herman Hospital كانت تقف عند رأسه وتربت على يده تطمئنه قائلة «حسنا ..حسنا فلتذهب» ذلك كي تساعده على العبور. فصراعه من أجل البقاء قد طال وقد أرهق روحه وجسده وهي مرتاحة لحياتها الطويلة معه وسعيدة وما تحمله من ذكريات معه ستبقى في قلبها. قالت له «إذهب ياجيم لمقابلة اللورد، آن لك الذهاب فاذهب بسلام». قرأت لي «دورا بيل» بعض كلمات من الكتاب المقدس وغيبها النعاس فاستلقت الى جانبي. كانت بحكم سنها مريضة إلا أن إيمانها بالحياة وطاقتها الروحية جعلاها بديمومة لا تقف. استلقت جانبي واكتشفت مدى مرضها، فالربو اللعين لا يدعها تنعم بنومة مريحة. كان نومها متقطعا، نوم يقظ. ظلت بين اليقظة والنوم حتى ضاق صدرها فاستيقظت وهي تبتسم بحزن. التفتت نحوي تقول، يجب أن أذهب الى رعاية ابني المريض. ابنها معتوه نوعا ما، وأشبهه بإنجي وليم فولكنر. فخلا لي الجو، خلا بالمعنى الشيطاني الذي يحمل قوة العذاب ..لا ..لم يكن هناك عذاب بل خواء وانعدام ضوء. لقد ذهبت. أطبقت الباب وراءها وطلبت مني أن اتصل معها إن كان هناك طارئ أو حاجة. فابتسمتُ من طلبها كما لو أنني تعرّفت إلى الابتسامة الأولى. المسألة التي رحت افكر بها حين خرجت هي ظرف حياتي غير الموائم. لو أن حياتي تتوقف لعشر سنين أو عشرين سنة أخرى ثم تعود، تعود في مكان آخر.. لكن هذا التفكير هو محاولة أخرى للتمسك بالحياة، هو تفكير مخاتل يريدني أن ابقى، يريد تعذيبي مرة أخرى بشكل أشد، فرفضت هذه الفكرة. يقال قبل أن يترك المرء الحياة بقليل ستأتيه سيرة حياته كشريط مصور ويمر بسرعة أمامه. فانتظرت ان تأتي السيرة ويمر الشريط، لكن رأسي خالية وفيها أبعاد فارغة لا حدود لها. عالم ظلمات يغمره محيط أمواجه ترتطم من دون ضوء. حين أفكر في هذا الخلاء الروحي يصيبني خوف وهلع، كيف لي أن اتغلغل إلى أعماقه وأفتش عن احلامي في هذا العماء؟ لكن قراءة دورا للنصوص المقدسة بعثت في داخلي قوة غريبة دفعتني بارتياح نحو الأعماق التي ما أن وطأت قدماي أرضها حتى ألفتها ورحت اتندر على الخوف الذي كان يعتريني منها. هي أرض بور، عماء نعم ماذا في الأمر ولماذا الخوف من الذهاب إلى الموت؟ تركت الحياة إذن، ورحت أمشي نحو أرض الموت. كان هناك صوت بعيد، سمعت صوت رجل يبكي. في الطريق وأنقل خطاي على مهل أشعر ببعض الشجن الذي لم أفهمه.. دمعت عيناي قليلا وأنا أتقدم..وهذه الدموع لها مقام آخر لم آلفها أثناء حياتي..رأيت على حين غرة «دورا» في طريقها أيضا إلي، كانت تحمل ضوءا صغيرا كي تنير دربي وابتسمت لي قائلة: هل قررت الذهاب مثلما قررته أنا؟ فلم أفهم ماتعنيه واستطردت، إنها لا تندم سوى على ابنها الذي تتركه وحيدا كيف سيعيش حياته من دونها. كنا نسمع صوته على مايبدو يناديها أن تستيقظ، أوه ماما استيقظي لا أحد لي في هذه الدنيا سواك..لكننا لم تكن تعرف من أين يأتي الصوت. هناك جبل بعيد ... ربما يأتي الصوت من خلفه، صوت بعيد مثل دمدمة ومرة يقوى ثم يضعف. هل ستمطر السماء، تقول، ..آه.. فتخبئ الضوء كي لا ينطفئ. في الأعالي بعض الرعد ربما ستمطر. رأسي الآن في حالة حسنة، هادئ وساكن مثل لا شيء، الجو فيه سديم ثقيل لكن لاحاجة لاستنشاق الهواء، الهواء في هذه الأراضي لا قيمة له يا «دورا- بندلي!». كانت سعيدة أنها تخلصت من عاهتها ومن مرض الربو. فبين طرفة عين وأخرى عادت صحيحة البدن قوية الشكيمة إلا أن- أن- أن هناك ترددا في خطواتنا ولا نعرف أين الطريق هل ستنقلنا خطواتنا إلى مابعد الجبل... جججج... عائم وفيه طبيعة غير مألوفة. آه ما أعظم أن يكتشف المرء أن هناك حياة أخرى في الطرف الآخر. لقد فكرت، على حين غرة فكرت بأمر حياتي وبأمر حبي الماضي الماضي الذي تركته في بلد بعيد، فأردت أن أعود بخطواتي قليلا إلى الخلف كي ألقي نظرة أخيرة على من أحبها. كانت مستلقية على السرير والستائر البلدي ترف قليلا عليها مفتوحة، نوافذها نائمة، وياليتها ليست نائمة كيف سأوقظها؟ كانت تتنتفس بصعوبة فمرضها أيضا جعل من نومها متقطعا، لم يترك لها فرصة أن تستمر أكثر من دقائق. سأنتظر عند رأسها إذن وأدنو من عينيها وإن فتحتهما فستراني كبيرا وستتذكر أنني يوما ما قد ملأت حياتها كلها. فاستيقظت كما توقعت، ولسبب ما أمسكت يدي، ابتسمت ابتسامة أولى فحين يولد المرء يبتسم- من قال إنه يبكي. ومددت يداها كي تلاقيني، وتمسكني مرة أخرى. أريد أن أذهب، وكانت تبتسم كأنها تقول، لا تذهب لا تذهب ما أعذب الحياة حين تكون فيها حبيبة لا تدعك ترحل...