اللعب بالزمن واللغة والأمكنة في «رواية عصا البلياردو» أقيم يوم دراسي حول رواية «عصا البلياردو» لعبد الرحيم جيران مؤخرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وقد نظمت هذا اللقاء الثقافي فرقة البحث في البلاغة وتحليل الخطاب، وترأس أشغاله محمد مشبال الذي تناول الكلمة في البداية ليشير إلى أهمية نص الرواية موضوع اللقاء، والتي تؤشر على الجانب الإبداعي من شخصية الناقد عبد الرحيم جيران، ولم يفته أن يلمح إلى جمالية هذا النص، وتضمنّه ما يفيد طريقة قراءته التي تُسطَّر بنودها في الرسالة التي يُستهل بها، بما في ذلك دعوته إلى التعامل معه من خلال خاصية النقد التي يجعلها مكونا داخليا له. بعد كلمة الافتتاح استهل عبد اللطيف محفوظ مداخلته التي عنونها ب «بناء المعنى في رواية عصا البلياردو» بالقول: «فوجئت برواية عصا البلياردو وبعبد الرحيم جيران، وكأننا بصدد كاتب له سلسلة من الإبداعات الروائية العريقة، إنه عمل روائي كبير». وانتقل المحاضر مباشرة إلى تشخيص أنماط الوعي من خلال اللغة، حيث عدّ هذه الأخيرة وكأنها تبدو لغة وحيدة مركزية تعبر عن كل الموضوعات وأشكال الوعي، فجل الشخصيات تمارس لغة راقية في تعبيرها عن العالم، كما أن اللغة تنفتح على الشعر والبعد الدرامي والنقد الفني (الفنون التشكيلية)، وتمتاز إلى جانب ذلك بالشفافية؛ إذ تنقل موضوعاتها عارية من كل تسييج، فهي تستعمل مجازات واضحة لا تستدعي من القارئ اللجوء إلى الكدّ لفهمها، ومن ثمة فهي تتشرب لغة الضوء والعتمة. وفضل أن يدعو ما عبّر عنه مشبال بخاصية الوضوح، بالمقروئية التي رأى بأنها تمتد من اللغة إلى الشكل والدلالة. انتقل عبد اللطيف محفوظ بعد ذلك إلى الحديث عن الشكل الذي عدّه بسيطا، لكنه معقد في عمقه، ويعلن عن نفسه مباشرة من خلال الميتا- السرد الذي تضطلع الرسالة بالتعبير عنه مشكّلة أفق انتظار بالنسبة للقارئ. . لكن ذلك يتضمن لعبا بالزمن واللغة والأمكنة، من دون أن يتضخم فعل الخرق الذي يميز هذا اللعب. ويقول المحاضر بأن شكل الرواية يستوحي تقليدا سرديا تميزت به التراجيديا؛ حيث مفهوم المصير مركزي ودال. ويعدّ أهم المصائر في رواية «عصا البلياردو» هو مصير الشخصية المحورية، وباقي الشخصيات لا تملك القدرة على تغيير هذا المصير. ويستنتج محفوظ بأن المكر الذي تمارسه هذه الرواية ماثل في إخفاء هذا البعد التراجيدي. وهذا الإخفاء الذي يعد بعدا من أبعاد استراتيجية الرواية، هو ما يمكن أن يكون مدخلا لقراءتها. وفي خطوة أخرى مارس عبد اللطيف محفوظ عدته السيميائية في قراءة الرواية فطبق التحليل الأيقوني عليها مبتدئا بالعنوان. فرأى بأن العصا لها أكثر من دلالة في الثقافة العربية وبخاصة في مستوى استعمالها في مجال الخطابة وبلاغتها. لكنه استخلص من استعمالها روائيا هدفا أساسا يتمثل في ترميز العالم أو شكل الحياة. أُعطيت الكلمة، بعد مداخلة محفوظ، للناقد رشيد الإدريسي الذي عنون مداخلته ب «خميرة الفهم أو الرواية بين الحدث الداخلي والحدث الخارجي». قام بتحديد الزاوية التي سيعالج من خلالها المعنى؛ حيث حددها في السياق لا بمعناه البلاغي ولكن بمعناه الحياتي. وذلك انطلاقا من قناعة مؤداها أن هدف التخييل أو الحكي هو إيصال فكرة ما. كما حدّد خاصية الفهم التي تسعى إلى ضبط معنى النص في لمّ الشظايا المتفرقة بغاية الخروج بكلّ مفسر. وكانت الغاية التي تحرك الباحث ماثلة في الأبعاد التأويلية التي تتخفى وراء النص. ومن ثمة أقام محور تحليله على كون رواية «عصا البلياردو» لا تحكي أحداثا، بل لغة محددة. فالرواية تقبل أن تُحلل من زاوية ما هو سياسي حيث يمكن الحديث عن الصراعات التي عاشها جيل الستينيات والسبعينيات. لكن الرواية تقبل أيضا تحليلها من خلال بعد أخلاقي ماثل في الصراع بين الشر والخير؛ إذ يكون ممكنا طرح سؤال ما إذا كان هذا الصراع طبيعيا أم ثقافيا؛ وذلك أخذا بعين الاعتبار الرواية الطبيعية كما أسس مبادئها الجمالية إميل زولا. كما يمكن أن تحلل الرواية من زاوية التوسط كما هو وارد عند روني جيرار، وذلك من خلال الرغبة المحاكاتية. كل ذلك يرتهن تأويليا أيضا بمراعاة العلاقة المزدوجة في مستوى الشخصيات: العلاقة بين الذات والغير (مغربي- مغربي)، وبينها والآخر (مغربي- أجنبي). ولا شك أن تأويلا في هذا المستوى لا بد أن يأخذ بالحسبان الاختلاف الثقافي أو الحضاري. ويرى رشيد الإدريسي بأن التاويل الأقوى هو الذي يهبه الراوي. ينتقل بعد ذلك الباحث إلى تقرير خاصية مميزة لرواية «عصا البلياردو» ويرى أنها تتمثل في كونها رواية معرفة. فهي تقدم في الدرجة الأولى معرفة يأتي السرد بعدها ليخدمها. وانطلاقا من هذا الفهم يرى المحاضر بأن الرواية تطرح مجموعة من الأسئلة التي أرقت الإنسان، حول الحياة، والزمن، والتاريخ، والموت، والمصير. تدخل في الأخير عبد الرحيم جيران- بعد أن ثمن الجو العلمي العالي الذي ساد اللقاء- ليضيء بعض الجوانب الجمالية في روايته «عصا البلياردو»، فألح على ضرورة أن تكون الرواية ذات هدف محدد. وأرجع هدف روايته إلى محاولة تجسيم عبر معادل حكائي (الحكاية) سؤالا نظريا طرحه العروي حول أصل النخبة المغربية؛ حيث عدّها منحدرة من أصل واحد، لكن اختلاف المصالح هو الذي جعلها تتمايز. فحكاية المعطي وشبيك تجسيم حكائي لهذا الطرح. وفي ما يخص العنوان ألح عبد الرحيم جيران على كونه يختط له تصورا خاصا في الرواية يقوم على أهمية الشكل في الدلالة، وعلى أنه يستقي هذا الشكل من العنوان، وأشار إلى أن روايته الثانية «كرة الثلج» التي ستصدر قريبا عن «دار الآداب» تتبع المنحى نفسه. ومن المبادئ التي تتخفى وراء كتابته الروائية القطع مع الهذيان والاتكاء على الحياة الشخصية في بناء العالم الروائي، فهو يرى بأن الروائي الحق هو من يكتب ما لم يعشه، ويمتلك القدرة على النفاذ إلى طبائع معقدة ومركبة لم يخبرها. كما أوضح الطريقة التي يعمل بها في صياغة عالمه الروائي، وأرجعها إلى تطوير أسلوب ألف ليلة وليلة. فهو يفتح فعل السرد على حكايات متعددة، لكن هذا التعدد يخضعه لصيرورة سردية تستمد تماسكها من وجود حكاية رئيسية تستخدم بمثابة مولد لباقي الحكايات. وأنه لا يظهر هذه الحكاية منذ البداية بل يجعلها تتراجع إلى الخلف وتتنامى تدرجا مع باقي الحكايات. وفي مسألة اللغة قال إنه لا يوظف اللغة الدارجة إلا وفق الضرورة، لكن في ما يخص تشخيص اللغة لوعي الشخصيات ذكر، بشخصية زوربا لكزانتزاكي اليوناني، الذي كان يتكلم لغة بها من الحكم والبعد الفلسفي ما لم تستطعه الشخصية الرئيسية المتعلمة والتي تقرأ لنيتشه وملارميه. وفي ما يخص لغة العم حسان قال إن هذه الشخصية لا تبدي رأيا بواسطة لغة المحاججة، بقدر ما تعبر عن نفسها بواسطة الحكاية. ومن ثمة فالحكاية لغة أيضا ربما تتفوق على لغة الحوار والجدال. أما في ما يتعلق بالزمن فقد ذكر بأن جل الحكايات تبتدئ من النهاية، وهي تحكى انطلاقا من مفهوم الخسارة. وقد فعل ذلك استنادا إلى مبدأين هامين في نظره: مبدأ الزمن في الوجودية، حيث العدم حاسم في علاقته بمفهوم المشروع والموت، ومبدأ سؤال الوجود كما عاشته البشرية من دون أن تحله. ومن ثمة فهو يعمل في روايته على الانطلاق مما هو كوني إنساني بوصفه قاعدة، ثم يرتب عليه ما هو محلي وعابر وظرفي. وفي ما يتعلق بعدم إعطاء شبيك الفرصة للظهور والتعبير عن نفسه، أرجع ذلك إلى ضرورة فنية لها صلة بتجسيم الإيديولوجي جماليا. فالطبقة الريعية بالمغرب لم تُولِّد إيديولوجيا خاصة بها شأن اليسار، ولم يكن لها يوم ما مساهمة في الجدال النظري حتى يمكن أن نقول إن لها ملامح لغوية مميزة تستند إلى إيديولوجيا بينة المعالم، ولذلك يعد حرمانه من الظهور تعبيرا عن هذا الإشكال. ولم يسمح له بالتبدي إلا في نهاية الرواية مقرونا بطقس الجنازة، لأن التعبيرات الريعية لم تكن سوى طقسية بالدرجة الأولى، لا تلفظية.