أقيم يوم دراسي حول رواية "عصا البلياردو" لعبد الرحيم جيران يوم الخميس 12/5/1011 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وقد نظمت هذا اللقاء الثقافي فرقة البحث في البلاغة وتحليل الخطاب، وترأس أشغاله د. محمد مشبال الذي تناول الكلمة في البداية ليشير إلى أهمية نص الرواية موضوع اللقاء، والتي تؤشر على الجانب الإبداعي من شخصية الناقد عبد الرحيم جيران، ولم يفته أن يلمح إلى جمالية هذا النص، وتضمنّه ما يفيد طريقة قراءته التي تُسطَّر بنودها في الرسالة التي يُستهل بها، بما في ذلك دعوته إلى التعامل معه من خلال خاصية النقد التي يجعلها مكونا داخليا له. بعد كلمة الافتتاح استهل د. عبد اللطيف محفوظ مداخلته التي عنونها ب "بناء المعنى في رواية عصا البلياردو" بالقول:"فوجئت برواية عصا البلياردو وبعبد الرحيم جيران، وكأننا بصدد كاتب له سلسلة من الإبداعات الروائية العريقة، إنه عمل روائي كبير". وانتقل المحاضر مباشرة إلى تشخيص أنماط الوعي من خلال اللغة، حيث عدّ هذه الأخيرة وكأنها تبدو لغة وحيدة مركزية تعبر عن كل الموضوعات وأشكال الوعي، فجل الشخصيات تمارس لغة راقية في تعبيرها عن العالم، كما أن اللغة تنفتح على الشعر والبعد الدرامي والنقد الفني (الفنون التشكيلية)، وتمتاز إلى جانب ذلك بالشفافية؛ إذ تنقل موضوعاتها عارية من كل تسييج، فهي تستعمل مجازات واضحة لا تستدعي من القارئ اللجوء إلى الكدّ لفهمها، ومن ثمة فهي تتشرب لغة الضوء والعتمة. وفضل أن يدعو ما عبّر عنه د. مشبال بخاصية الوضوح بالمقروئية التي رأى بأنها تمتد من اللغة إلى الشكل والدلالة. انتقل د. عبد اللطيف محفوظ بعد ذلك إلى الحديث عن الشكل الذي عدّه بسيطا، لكنه معقد في عمقه، ويعلن عن نفسه مباشرة من خلال الميتا- السرد الذي تضطلع الرسالة بالتعبير عنه مشكّلة أفق انتظار بالنسبة للقارئ. وتصنع الرواية شكلها المميز من خلال مساوقة واقع الكتابة لواقع الحكاية، كل ذلك وفق خطة تتوخى الانسجام مع تطلبات المقروئية. لكن ذلك يتضمن لعبا بالزمن واللغة والأمكنة، من دون أن يتضخم فعل الخرق الذي يميز هذا اللعب. ويقول المحاضر بأن شكل الرواية يستوحي تقليدا سرديا تميزت به التراجيديا؛ حيث مفهوم المصير مركزي ودال. ويعدّ أهم المصائر في رواية "عصا البلياردو" هو مصير الشخصية المحورية، وباقي الشخصيات لا تملك القدرة على تغيير هذا المصير. ويستنتج محفوظ بأن المكر الذي تمارسه هذه الرواية ماثل في إخفاء هذا البعد التراجيدي. وهذا الإخفاء الذي يعد بعدا من أبعاد استراتيجية الرواية هو ما يمكن ان يكون مدخلا لقراءتها. يرى الباحث بأن من الصعب تحديد بنية دلالية ما تتحكم في مشروع النص. فهي تبدو وكأنها من دون موضوع، أو موضوعها غائب، أو هي مجرد سرد لحكايات، لكنها تترك لنا نحن مهمة تركيبه وفق خلفياتنا، وهذا جزء من بلاغة هذه الرواية. وقد نلامس الموضوع من خلال الضربات غير المتوقعة التي تنزل بالذات والآخر. فأغلب المحكيات مرتبطة بالذات سواء في البداية أو النهاية، وهي علاقات حب أو جوار، كانت متحققة في زمن ما ثم عادت إلى الظهور حاملة في صلبها آثار الانفصال، وهذا الانفصال حدث بفعل القدر (الموت)، أو بفعل ضربات المؤسسات، أو ضربات تعود إلى الذوات نفسها التي لم تسعفها الظروف في تحقيق رغباتها. فالرواية وهي تتخذ لها الحب مادة لإبراز موضوعها، تخالف التيار الذي يغزو عالم الرواية في عالمنا العربي اليوم مستهدفا خلق الإثارة بالتركيز على الموضوعات الجنسية الصاخبة. إن العلاقات بين الشخصيات الموسومة بالانفصال تعود إلى الاتصال داخل أمكنة حميمية أو عابرة، والمحرك الأساس في الالتقاء ماثل في المصادفة. والزمن هو الحاسم في تشكيل عالم الرواية القائم على جدلية الانفصال والاتصال، فالزمن الذي فكك العلاقات بفعل قرار ما، هو الذي جمعها ثانية وفق المصادفة. ومن ثمة يمكن عدّه فاعلا في الرواية وبطلا أساسا. وفي خطوة أخرى مارس د. عبد اللطيف محفوظ عدته السيميائية في قراءة الرواية فطبق التحليل الأيقوني عليها مبتدئا بالعنوان. فرأى بأن العصا لها أكثر من دلالة في الثقافة العربية وبخاصة في مستوى استعمالها في مجال الخطابة وبلاغتها. لكنه استخلص من استعمالها روائيا هدفا أساسا يتمثل في ترميز العالم أو شكل الحياة. فالذوات موضوع لضربات القدر الذي قد يكون هو العصا، أو السلطة. ومن ثمة لا يمكن للعنوان أن يحلل إلا من خلال العلاقات الأيقونية الواردة في النص: الذوات وعلاقاتها بالقدر والمؤسسات. وينتقل الناقد إلى المستوى الثاني من تحليله الأيقوني، فيرى بأن الرواية تسعى إلى التعبير عن جيل ما بعد الاستقلال وما حاق به من إخفاقات. إن الكريات في لعبة البلياردو التي يوازي عددها عدد الشخصيات- وهذا مصدر إدهاش- ترميز لهذا الجيل. هناك كرتان حاسمتان في مصير الكريات الأخرى: الكرة السوداء والكرة البيضاء. فالأولى ترمز إلى الموت والظلام والمجهول، والثانية إلى القدر بكل تفاصيله ومعانيه. ومن ثمة يمكن القول إن الرواية تعرض لحكاية جيل وتوصيف لحياته، جيل يدحرج مثل الكريات، وهو في مهب الريح، ومصيره بيد غيره. ويتمثل البعد الأيقوني الثالث في التناص الذي تضطلع به في أحد مظاهره اللوحات الفنية. فلوحة غرنيكا مثلا هي ترميز لمضمون الحرب الأهلية الذي يتحول إلى دال ثان يرمز إلى التطاحن داخل المجتمع برمته، بما يفيده ذلك أيضا من حروب بين الأهل، وتصادم في المواقف، وصراعات، كما أن لوحة الطائرين التي تذكر بإحدى حكايات ألف ليلة وليلة لا تخرج عن هذا التوصيف، فهي تعبر عن التشنج في العلاقات والصراع. وتبقى الأيقونة الأكثر دلالة ماثلة في الكتابة نفسها، بوصفها الإمكان المتبقي للمقاومة، فكأن الرواية تثأر بواسطة الكتابة من حيوات غير مرغوب فيها. أُعطيت الكلمة، بعد مداخلة د. محفوظ، للناقد د. رشيد الإدريسي الذي عنون مداخلته ب "خميرة الفهم أو الرواية بين الحدث الداخلي والحدث الخارجي". قبل الشروع في تحليله الرواية أشاد الباحث بنص رواية "عصا البلياردو"، وعده إضافة نوعية إلى الرواية العربية، بل نصا روائيا ولد مكتملا. ثم انتقل د. رشيد الإدريسي إلى تحديد الزاوية التي سيعالج من خلالها المعنى؛ حيث حددها في السياق لا بمعناه البلاغي ولكن بمعناه الحياتي. وذلك انطلاقا من قناعة مؤداها أن هدف التخييل أو الحكي هو إيصال فكرة ما. كما حدّد خاصية الفهم التي تسعى إلى ضبط معنى النص في لمّ الشظايا المتفرقة بغاية الخروج بكلّ مفسر. وكانت الغاية التي تحرك الباحث ماثلة في الأبعاد التأويلية التي تتخفى وراء النص. ومن ثمة أقام محور تحليله على كون رواية "عصا البلياردو" لا تحكي أحداثا، بل لغة محددة. فالرواية تقبل أن تُحلل من زاوية ما هو سياسي حيث يمكن الحديث عن الصراعات التي عاشها جيل الستينيات والسبعينيات. لكن الرواية تقبل أيضا تحليلها من خلال بعد أخلاقي ماثل في الصراع بين الشر والخير؛ إذ يكون ممكنا طرح سؤال ما إذا كان هذا الصراع طبيعيا أم ثقافيا؛ وذلك أخذا بعين الاعتبار الرواية الطبيعية كما أسس مبادئها الجمالية إميل زولا. كما يمكن أن تحلل الرواية من زاوية التوسط كما هو وارد عند روني جيرار، وذلك من خلال الرغبة المحاكاتية. كل ذلك يرتهن تأويليا أيضا بمراعاة العلاقة المزدوجة في مستوى الشخصيات: العلاقة بين الذات والغير (مغربي- مغربي)، وبينها والآخر (مغربي- أجنبي). ولا شك أن تأويلا في هذا المستوى لا بد أن يأخذ بالحسبان الاختلاف الثقافي أو الحضاري. ويرى د. رشيد الإدريسي بأن التاويل الأقوى هو الذي يهبه الراوي. ينتقل بعد ذلك الباحث إلى تقرير خاصية مميزة لرواية "عصا البلياردو" ويرى أنها تتمثل في كونها رواية معرفة. فهي تقدم في الدرجة الأولى معرفة يأتي السرد بعدها ليخدمها. وانطلاقا من هذا الفهم يرى المحاضر بأن الرواية تطرح مجموعة من الأسئلة التي أرقت الإنسان، حول الحياة، والزمن، والتاريخ، والموت، والمصير. هل الإنسان صانع لمصيره، أم هو منفعل فحسب، وخاضع لقوى أخرى تتجاوزه؟ كما أن سؤال الزمن يطرح بقوة على مستوى أثره في الإنسان، مع ما يقتضيه ذلك من تساؤل عن طبيعته، أهو التاريخ؟ يرى الباحث بأن التاريخ- وهو يصير الزمن نفسه- موضوع فلسفي وديني وروائي، لكننا نعيشه يوميا. فما الذي يمكن الخروج به من استخلاصات في صدد الزمن في رواية "عصا البلياردو". إن لفظ "مكر الزمن" مؤشر أساس في نص الرواية، ومن متعلقات المكر التدبير، صرف الغير عما نريد تحقيقه. ويوازي المكر كل ما هو خفي. ويتمثل ذلك في الخديعة والحيلة. ومن ثمة يمكن القول بأن في الرواية تصور وجودي للزمن يتمثل في عبثية الواقع بالمغرب في مرحلة من مراحله. وأن المرء لا يصنع حياته ولا مصيره، بل هو أسير لمكر الزمن الخادع وقواه الخفية. ولذلك تبحث الرواية في مجموعها عن نقطة ارتكاز لمصير الإنسان. يظهر أن الطريقة التي اُستعمل بها العنوان في الرواية قد أثارت تنبه العديد من قرائها، ولذلك نجد الباحث د. رشيد الإدريسي يعمل بدوره على تفكيك دلالته. فهو يتفق مع الدلالات التي قررها عبد اللطيف محفوظ في هذا الصدد، لكنه يرى بأن النص في المستوى الشكلي يتقاطع مع أحداث النص. فإذا كان العنوان يتسم بالوضوح لأننا نعرف لعبة البلياردو، فهو يتساوق مع لفظ "مكر الزمن" الذي يصلح لأن يكون بدوره عنوانا للرواية. فالحياة هي أشبه بلعبة البلياردو والشخصيات تكاد تكون هي الكريات. لكن إلى أي حد يكون تسيير الأشخاص داخل الرواية خاضعا للعصا؟ ما هي هذه العصا؟ أهي الزمن ومكره؟ فالمكر ترجمة لمكر التاريخ، كما تحدث عنه هيغل والذي يرى بأن قواه تتحرك بفعل عقل مطلق من حيث هو ترجمة للرعاية الإلهية. ومن ثمة فالشخصيات منفعلة بفعل وجود العصا المحركة، ومن ثمة فهي لا تفعل وفق إرادتها هي، مما يسمح بالقول إن الإنسان أسير الزمن. مفهوم المصير أساس في فهم الرواية وهو يوازي مسار الكريات في اللعبة. فالضربة الأولى تحدث زوبعة في لعبة البلياردو. ومن ثمة يكون التفكير في الزمن في الرواية على المستوى الإنساني مأساويا بالضرورة. ويُعبر روائيا عن هذه الزوبعة من حيث هي تعبير رمزي عن المأساوي بالمصادفة التي تتحكم في بناء المصائر في الرواية وتنسج الأحداث. ولعل الحقيقة التي تسعى الرواية إلى بلورتها تتمثل في أن الحياة مليئة بالمصادفات. ويربط د. رشيد الإدريسي مسألة المأساوي في علاقته بالمصادفة بمجتمع فقدت فيه القيم أهميتها، وبخاصة في مجتمع المدينة الذي تتبدى فيه قسوة الحياة جلية، بيد أن الباحث يرى بأن هذه القسوة ضرورية ليتجلّى الجانب المضيء في الحياة. ومن ثمة فإن هذه الأخيرة لا تخلو من خير يبديه طرف خفي. والمعطي الرابحي يمثل في الرواية الضوء المضاد لظلمة الحياة وقسوتها. وفي الختام تطرق الباحث إلى رمزية الحيوان مقابل النبات في الرواية. واستخدام أسماء الحيوانات أو النبات تام وفق ضرورة مجازية، ووفق تضاد دلالي. فأسماء الحيوانات التي يحفل بها النص تقرن بشراسة الحياة وقسوتها، وبما هو سلبي، بينما يقرن النبات بما هو مشاعر إنسانية راقية أو بما هو إيجابي. تدخل في الأخير عبد الرحيم جيران- بعد أن ثمن الجو العلمي العالي الذي ساد اللقاء- ليضيء بعض الجوانب الجمالية في روايته "عصا البلياردو"، فألح على ضرورة أن تكون الرواية ذات هدف محدد. وأرجع هدف روايته إلى محاولة تجسيم عبر معادل حكائي (الحكاية) سؤالا نظريا طرحه العروي حول أصل النخبة المغربية؛ حيث عدّها منحدرة من أصل واحد، لكن اختلاف المصالح هو الذي جعلها تتمايز. فحكاية المعطي وشبيك تجسيم حكائي لهذا الطرح. وفي ما يخص العنوان ألح عبد الرحيم جيران على كونه يختط له تصورا خاصا في الرواية يقوم على أهمية الشكل في الدلالة، وعلى أنه يستقي هذا الشكل من العنوان، وأشار إلى أن روايته الثانية "كرة الثلج" التي ستصدر قريبا عن "دار الآداب" تتبع المنحى نفسه. ومن المبادئ التي تتخفى وراء كتابته الروائية القطع مع الهذيان والاتكاء على الحياة الشخصية في بناء العالم الروائي، فهو يرى بأن الروائي الحق هو من يكتب ما لم يعشه، ويمتلك القدرة على النفاذ إلى طبائع معقدة ومركبة لم يخبرها. كما انه أوضح الطريقة التي يعمل بها في صياغة عالمه الروائي، وأرجعها إلى تطوير أسلوب ألف ليلة وليلة. فهو يفتح فعل السرد على حكايات متعددة، لكن هذا التعدد يخضعه لصيرورة سردية تستمد تماسكها من وجود حكاية رئيسة تستخدم بمثابة مولد لباقي الحكايات. وأنه لا يظهر هذه الحكاية منذ البداية بل يجعلها تتراجع إلى الخلف وتتنامى تدرجا مع باقي الحكايات. وفي مسألة اللغة قال بأنه لا يوظف اللغة الدارجة إلا وفق الضرورة، لكن في ما يخص تشخيص اللغة لوعي الشخصيات ذكر، بشخصية زوربا لكزانتزاكي اليوناني الذي كان يتكلم لغة بها من الحكم والبعد الفلسفي ما لم تستطعه الشخصية الرئيسة المتعلمة والتي تقرأ لنيتشه وملارميه. وفي ما يخص لغة العم حسان قال إن هذه الشخصية لا تبدي رأيا بواسطة لغة المحاججة، بقدر ما تعبر عن نفسها بواسطة الحكاية. ومن ثمة فالحكاية لغة أيضا ربما تتفوق على لغة الحوار والجدال. أما في ما يتعلق بالزمن فقد ذكر بأن جل الحكايات تبتدئ من النهاية، وهي تحكى انطلاقا من مفهوم الخسارة. وقد فعل ذلك استنادا إلى مبدأين هامين في نظره: مبدأ الزمن في الوجودية حيث العدم حاسم في علاقته بمفهوم المشروع والموت، ومبدأ سؤال الوجود كما عاشته البشرية من دون أن تحله. ومن ثمة فهو يعمل في روايته على الانطلاق مما هو كوني إنساني بوصفه قاعدة، ثم يرتب عليه ما هو محلي وعابر وظرفي. وفي ما يتعلق بعدم إعطاء شبيك الفرصة للظهور والتعبير عن نفسه، أرجع ذلك إلى ضرورة فنية لها صلة بتجسيم الإيديولوجي جماليا. فالطبقة الريعية بالمغرب لم تُولِّد إيديولوجيا خاصة بها شأن اليسار، ولم يكن لها يوم ما مساهمة في الجدال النظري حتى يمكن أن نقول إن لها ملامح لغوية مميزة تستند إلى إيديولوجيا بينة المعالم، ولذلك يعد حرمانه من الظهور تعبيرا عن هذا الإشكال. ولم يسمح له بالتبدي إلا في نهاية الرواية مقرونا بطقس الجنازة، لأن التعبيرات الريعية لم تكن سوى طقسية بالدرجة الأولى، لا تلفظية.