وضعها بإحكام في قبضته، وخرج كالهارب من حيث يقبع الشيخ الرهيب، وانطلق كالريح بأنفاس لاهثة في تسارع؛ إلى أن دخلها من فتحة صغيرة يخطو بين اللحود... خفف الوطأ عند صفصافة أعلى الربوة. ارتمى على جذعها الأشهب، وصعد متمسكا باليدين والرجلين معا كقرد نزق. لا يكفي هذا الفنن المتدلي، فاتكأ على غصين أخير متشعب، ومد يده لآخر وريقة فيه، وربطها بتميمة الشيخ العجيبة. لف حولها خيطا عشر لفات، وعقده سبع عقد، ثم نزل باطمئنان وقد قضى الحاجة. رفع عينين ضارعتين، رآها تترنح في أرجوحة الريح، وعاد طروبا يترنم بأنغام لا يدري من أين أتت، ونسيم الهوى يطري أنفه. يمشي بين قبور حواشيها زهرية قاتمة الخضرة بسيقان في صلابة العظام، وقد خصبتها تربة ذات ذبال بشري، وهو يتمتم تماما كما أوصاه. غريب!. لقد كان شفيق يخشى مثلنا مجرد النظر إليه؛ فعيناه بدون معنى تغرسان الرعب في من يتلفت إليهما. يلزم حانوته منذ تهليلة الفجر، ولا يفارقه إلا عصرا، ينزل إليه كمن يلج دهليزا، ولا يراه بعد ذلك أحد إلا من قصده لحاجة خاصة جدا. لم يعرف له أحد اسما ولا قريبا ... كان قد حفظ هذا الصنهاجي الستين حزبا في صباه بسيدي أحمد زروق، ومنه حج للبيت الحرام مشيا على الأقدام. ولما عاد لم يمتهن خياطة أو تجارة، بل أقام بدهليزه يعبر إليه من هندسة فسيحة، بأسوار وأقواس ومخارج ذات أبواب خشبية لونها أمغر. واحد يؤدي لباب الشريعة، وآخر ينفتح على درب الطبيب بمخرجين، وثالثها مدخل لقبة السوق؛ حيث عشابون وخبازون وخياطون وجزارون ولصوص، وأمواج لا تهدأ من مجلببين وملثمات. وهو في ركنه يظهر باب على مرمى من عينيه؛ دائم الإغلاق ب(زكروم) طويل أغرقه في الإبهام. إذا أذن للعصر انتهى تماما من عمله، وصعد من دهليزه بعصاه، وجلس مسندا رأسه للباب. ولأنه يرفض العمل بعد العصر؛ يترك طابورا من النساء في انتظاره. يتغاضى عنهن، ويتابع بتيه وقلق بحثنا في جيوب أسوار المشور، حيث تغيب السمائم في جوفها. تلاحقنا همهماته إذا ما رآنا ناشبين بالثقب. عزمنا كان أن نتوزع عبر المخارج الثلاثة؛ إذا ما هم بأية حركة للملاحقة. لكن لم يفعل ولو مرة، فقط يراقب. السمائم تغيب في بطن الجيوب العلوية، فكيف تجد ما يشبعها؟. ربما ضلوع تلك الأبنية كانت مليئة بحشرات سمينة تتغذى على مواد بشرية؛ تعود لهياكل نخرة جعلت في البدء - كما سمعنا - أذرعا مسلحة لهاته الأسوار!... وهي أمور متروكة لبحاثتنا العجيب. لما تغيب السمائم؛ نتوزع فرقا للبحث عنها. نصعد الحيطان من الحفر، نطل وندفع أيدينا فيها علها تعثر على فراخ لها. الثقب كانت تمتد إلى حيث لا ندري. نبحث ولا نتغافل لثانية عينيه الرماديتين، حتى نتدبر أمرنا، إذا ما ساورته فعلا لعنة المطاردة. ونطمئن حين نتبين أنه لم يزح أيا من جلابيبه؛ التي لم تعرف خلعا قط. ويستمر البحث جديا، وقد نرمي بخيوط معدنية في عمق الجيوب، فنعديها بروائح نتنة؛ نتيقن معها أكثر بالذرع العظمي لبنة لهاته الأبنية. بمحاذاة هذه الأسوار تمر النساء يخببن في أرديتهن، ليلجن في رمشة عين دهليزه. أغلبهن كن بدينات وملثمات بعيون كحل. دخلت واحدة عليه، ونحن نطل من الشباك. لم ينظر إليها الشيخ الحاج الأعزب غير نظرة خاطفة ضاربة في الفراسة. وطفق نبع الدموع في عينيها المنكسرتين يتجمد؛ إذ تجيبه عما يفوه به من استفهام جاف. أما تضاريس وجهه الرهيب؛ فلم تقو على التطلع إليها. تنظر إلى حافريه بوجوم، وتشي له بسريرتها وصوتها خفيض متحشرج. سألها عن اسمه وعمره ولونه وقامته، واسم أبيه وأمه ونسبهما، وهو يغطس قصبته المبراة في حفرة قاتمة وينفض، ثم يكتب، ليجدد الغطس والنفض والكتابة سريعا؛ إلى أن استنفذ البياض، وطوى طيتين، ووضع التميمة في كفها، فاستلم منها ما دسه في صرة من ثوب بعد أن انصرفت تهرول، تسترد ريقها، تسترده، وبيدها فرجة الكرب. والإفراج لن يتم عمليا إلا بعد تسلق الصفصافة التي عينت لها في مقبرة المدينة؛ حيث كل غصن بتميمة، وكل شجرة ببركتها. مذ تطأ قدماه حانوته عند أول الفجر؛ يشرع يخيط الصرة الأولى. وما إن ينبلج النور، يكون قد أعد ما يكفي من الصرر، لتحشى تباعا إلى أن يغلق الأخيرة بحبل، قبل العصر، وليس بعده، فيرمي بجميعها تحت سرير مهترئ، وقد أنهى عمله. جلبابه الفوقي بدون لون، كونه رقعة رقعة. لا يخلعه شتاء ولا صيفا، دائم اللمعان مما مسح به من زيوت ودهون. مرة في كل عام يستأجر من ينظفه بما يزيد عن استبداله بجديد. نعله شهير وسميك؛ تخصص إسكافي واحد بباب (الطرافين) في إصلاحه. وكل إصلاح نال عنه ضعف ثمن نعل آخر. كان قبل خياطة أول صرة؛ يأخذ دوشا ساخنا يصر أن يكون بفضائله، ولا شيء غيرها من السوائل الأخرى. كانت تلك سيرته اليومية. واحد من جيرانه تجرأ وتشكى من تعفينه الحي، وقاضاه، فدفع ما طلبوه من غرامة عن القذارة، لكن لم يغلقوا دكانه. بعدها شب فيه حريق في عز الليل، فأتى يلهث ويده على صدره. ألقى نظرة على اللهيب، ثم أدبر على توه، لا يهمه شيء، وترك الحرائق تطقطق والناس في هلع إلى أن جاء رجال لإسعافه. أخمدوا الحريق، واندفعوا نازلين للدهليز. الكل رآهم يخرجون لا يقوون على المشي. لقد ملؤوا خمستهم جواربهم وأحذيتهم الطويلة، وربما طاقياتهم الفضية بما حوته الصرر، وراحوا بعد أن أخمدوا نيرانهم. في يوم مشهود ظهر رجل قصير القامة، منفتح، أصلع، لحيته كثة، وشفتاه غليظتان، يصيح مولولا ويتوعد: (أين أنت يا حرامي؟... أكلت رزقي، وما فسخت ثقافي....). اجتمع حشد غفير من حوله، بعضهم يقهقه بتهيج. طاف وطاف وهو يصيح. اقترب من الحانوت. دق ودق، فصده الباب حين رآه مغلقا بقفل. بقي الباب كذلك ليومين، وروائح عفونة تزكم أنوف سابلة المشور. الجيران كانوا قد ألفوها، إلا أن العطانة اشتدت أكثر فأكثر، الساعة بعد الأخرى. لما وصل المحققون أكدوا أنه انتحر في محله. وقال المسعفون أنه تعفن، فرشوا المبيدات، وأخرجوا الجثة منتفخة. هذه المرة لا أحد يعلم بم ملئت أحذيتهم الطويلة، وهم يغادرون دهليز الزاهد!. لكن كيف ينتحر بالداخل، والقفل يوصد الباب من الخارج؟!. بمجرد أن استراح الهالك قليلا، ولم تعد له سارحة ولا رائحة، تملكت تركته من دور وغيرها وريثة وحيدة؛ تزوجها رجل من القطط السمان، وضع فوق باب الفقيه: «وكالة عقارية... جميع عمليات البيع والشراء». وكل المدينة، وعن آخرها، تعلم أن الراحل كان معرضا عن الدنيا، وحاجا وشيخا وعازبا لم...