يتوزع منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء (=السلطة القضائية) في الأنظمة الدستورية المقارنة –غالبا- بين نظامين اثنين: أولهما لاتيني، ويجعل من رئيس الدولة هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وينوب عنه في ذلك، بقوة القانون، إما وزير العدل أو رئيس محكمة النقض. وثانيهما أنكلوسكسوني، لا يأخذ بفكرة النيابة عن رئيس الدولة، وإنما ينص على تعيين رئيس المجلس الأعلى للقضاء بالأصالة، مع اختلاف في جهة التعيين، فهناك من أسندها إلى رئيس الدولة نفسه، وهناك من اختص بها البرلمان. ومهما تكن طبيعة النظام الدستوري المعتمد في هذا الخصوص، فإن القاسم المشترك بين كل الأنظمة المقارنة على اختلاف مشاربها وروافدها، هو إيلاؤها أهمية بالغة لمنصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء في هرم الدولة، بغض النظر إن كان بالنيابة أو بالأصالة. ولعل مرد هذا الاهتمام، هو ما يضطلع به القائم على هذا المنصب من مهام واختصاصات دستورية وقانونية بالغة الخطورة، سواء على مستوى تثبيت مبدأ استقلالية السلطة القضائية، والسهر على تفعيل ضماناته المختلفة واقعا ومعاشا، أو على صعيد تخليق منظومة القضاء وتجويد خدماته، وكل ذلك عن طريق التسيير الأمثل للمجلس الأعلى للقضاء. ولا يخفى على كل مهتم حصيف، أن من أهم آليات التسيير الأمثل للمجالس العليا للقضاء في العالم، هو إنشاء وخلق دواوين مُهيكَلة لرؤساء هذه المجالس، تنتظمها وحدات استشارية تساعد هؤلاء الأخيرين في اتخاذ القرارات الصحيحة، ويراعَى في توزيعها عنصر التخصص في مختلف المجالات القضائية أو تلك التي لها صلة بالقضاء، من قبيل: حقوق الإنسان، الصحافة والإعلام، التشريع والتحديث، الدراسات والأبحاث القضائية، التكوين .. إلخ. وليس هناك من شك في أن تنظيم دواوين رؤساء المجالس العليا للقضاء في العالم على هذا النحو، سيُفيد في تتبع مؤسسة الرئيس لأداء أقسام ومصالح المجلس الذي يسيره من جهة، وسيجنبها، من جهة أخرى، الوقوع المحتمل في بعض الهفوات التي قد تسيء إلى مؤسسة القضاء برمتها، ومن هذه الهفوات المحتملة ما يلي: الخلط بين بعض المفاهيم التي تشكل قطب رحى استقلالية السلطة القضائية، والتي يحتاج ضبطها إلى نوع من التخصص في مجال الشؤون القضائية وفق ما يقتضيه المنطق الدستوري، ومختلف المواثيق والأوفاق الدولية والإقليمية ذات الصلة. الخلط بين الفعل الإداري والعمل القضائي، وهذا ما يستدعي الحذر في إصدار اللوائح والمناشير والدوريات بما يضمن عدم التدخل فيما هو قضائي مطبوع بالاستقلالية التامة حتى عن المجالس العليا نفسها، ويؤمن عدم النيل منه أو الافتئات عليه، وهو ما يستلزم تفاديه تكوينا خاصا في مجال القوانين المنظمة للسلطة القضائية، فضلا عن شرط الممارسة الفعلية للعمل القضائي والتقلب في المهام القضائية بمختلف مستوياتها. الخطأ في تفسير وتنزيل بعض الضمانات القانونية المكرسة لاستقلالية القضاة، والتي يرجع الاختصاص فيها إلى مؤسسة الرئيس، وهو ما يستوجب تجنُّبَه التخصصَ في مجال حقوق الإنسان ذات الصلة باستقلالية السلطة القضائية، كونيا ووطنيا. الأخطاء اللغوية والمنهجية المحتمل تسربها إلى الوثائق الصادرة عن رؤساء المجالس العليا للقضاء، وهو ما يتطلب تخصصا غير هاوٍ في المادة الإعلامية والتواصلية، مع ما ينطوي عليه ذلك من حذق في كتابة الإعلانات والمداخلات والخطب وبعض الوثائق المرجعية. وترتيبا على ما سلف، يمكن القول بأن إحداث وتنظيم دواوين رؤساء المجالس العليا للقضاء في العالم، لا يقل أهمية عن هيكلة تلك المجالس ذاتها، فهو السبيل الأنجع لتجاوز الكثير من الهفوات التي قد تنسب إلى الرؤساء المذكورين، ومن ثم الانتقال من مرحلة الهواية في التسيير إلى مرحلة الاحترافية فيه. بقلم: عبد الرزاق الجباري