في موضوع "الدماغ كمدخل لفهم السلوك الإنساني" نظمت جمعية منتدى الحكمة للفكر والثقافة بمكناس عبر صفحة المنتدى بالفيسبوك محاضرة "رقمية" عن بعد، يوم الجمعة 5 يونيو الجاري على الساعة التاسعة ليلا، من تأطير الدكتور إسماعيل علوي، وهو أستاذ علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، ومنسق ماستر علم النفس الإكلينيكي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز بفاس، وأستاذ باحث في المقاربات العلاجية المعرفية وعلوم الأعصاب. وتأتي هذه المبادرة العلمية التي نشّط فقراتها الدكتور عبد الإله الهلالي(أستاذ علم النفس بجامعة المولى إسماعيل بمكناس) من قبل جمعية منتدى الحكمة للفكر والثقافة في إطار الدينامية الثقافية، التي تشهدها مجموعة من المواقع والمؤسسات والجمعيات ذات التوجهات التنويرية والتوعوية الهادفة، التي انبرت في زمن الحجر الصحي إلى وضع برامج ثقافية وتنزيلها "عن بعد" بفاعلية وحضور كبيرين، وتفاعل لا يختلف عما يحدث في الوقع من حيث الأهداف والنتائج، ولا يحدّ منه الوضع العصيب الذي تمرّ منه البلاد جرّاء تداعيات جائحة فيروس كورونا. المبادرة أيضا تتغيّا، في سياق الاستمرارية الثقافية والعلمية، إبراز أهمية السيكولوجيا بتوجهاتها الحديثة في الانخراط داخل الشأن المجتمعي بكلّ أبعاده، من خلال تسليط الضوء على مختلف التدخلات التي يسعى علم النفس اليوم إلى توفيرها وجعلها في متناول الإنسان المغربي (علاجيا، تربويا، اقتصاديا، فرديا، اجتماعيا…). استهل الأستاذ المحاضر الدكتور إسماعيل علوي ورقته بتمهيد عام وضع من خلاله أرضية، أو ما أسماه مخطّطا تقريبيا لكل القضايا التي يمكن أن تناقش في إطار علاقة الدماغ بالسلوك، فموضوع من هذا القبيل يطرح قضية متشعّبة جدا من حيث مداخل المناولة والتقديم قد لا يسعف الزمن في الإحاطة بها جميعها، إلاّ أنّ هذا الأمر (حسب الأستاذ المحاضر) لا يعني أنّ الورقة ستكتفي بتقديم معطيات عامة، وإنّما سوف ستتعمّق في بعض القضايا المهمّة ذات الصلة بالموضوع. وعن دواعي اختيار هذا الموضوع بالذات، يرى الدكتور علوي أن الحديث اليوم عن العلوم العصبية بصيغة الجمع، لن يتم إلا من خلال استحضار الثورة النورولوجية التي حدثت في هذه الحقول ومنحت علم النفس بالأساس تلك القدرة على أن يرقى إلى علم أكثر دقة، وأكثر علميّة، ذلك أن النموذج التفسيري الذي تمنحه علوم الأعصاب، أضحى يمكن من شرح وتفسير كل الألغاز والأشياء الغامضة بوسائل وأدوات وتقنيات لم تكن متاحة من قبل لفهم السلوك الإنساني. هكذا وفرت هذه الثورة النورولوجية إمكانيات تفسيرية علمية مختلفة لجملة من القضايا التي كانت حكرا على تفسيرات غير مكتملة علميا وتجريبيا، لاسيما ما يتعلق منها بالدماغ ( الاكتئاب والزهايمر مثلا). حسب ذات المتحدث، وعطفا على ما سبق، فالعلاقة بين علم النفس والعلوم العصبية أصبحت اليوم علاقة حتمية وتلازمية، حتى أنّ الكثير من التخصصات الفرعية في السيكولوجيا استفادت من هذا "التلاقح" و"التكامل" بين السيكولوجيا والعلوم العصبية (علم نفس النمو، التطوري، المرضي، الإكلينيكي…)، ومن ثم أصبحت المركزية اليوم للدماغ من منظور العلوم العصبية، حيث تعتبره مركز التفكير، والمسؤول عن العمليات الذهنية والأنشطة المعرفية والسلوكية والوجدانية، وهو الأمر الذي يسعف في تفسير هذه الأنشطة وفهمها، وتشخيص مختلف الاضطرابات الذهنية. بمعنى آخر، يرى الدكتور علوي أنّ العلوم العصبية تعطي لعلم النفس كل النماذج التفسيرية لكي يصبح عالم النفس أكثر إقناعا وعلميّة اعتمادا على ما يحدث داخل الدماغ (خلل وظيفي مثلا). ولفهم السلوك الإنساني بشكل دقيق من خلال استثمار معطيات علوم الأعصاب فيما يخصّ الدماغ (بنية ووظائف) يرى الأستاذ الباحث في علم النفس أنّه ينبغي علينا أن ننطلق من المنطلق، أي فهم البنية التشريحية للدماغ، واستحضار العلاقة الوطيدة بين الدماغ والنظام الغددي Système Endocrinien (التمثيل في الاختلاف بين دماغ المرأة ودماغ الرجل). فالدماغ هو في الأصل بنية تشريحية عصبية (ميكرو وماكرو) يتكون من خلايا عصبية وفصوص وباحات، وعمل كل هذه المكونات المادية يتجسّد في وظائف ذهنية ومعرفية (انتباه، تذكّر، استدلال، إدراك…)، فالدماغ يصبح ذهنا فقط حين يشتغل من خلال أنشطة معرفية، وهو بهذا الشكل ليس جامدا وإنما ينمو ويتطوّر باستمرار، ومبرمج لاكتساب اللغة وتعلم المعارف، والإصابة بالاضطرابات الذهنية، وأثناء اشتغاله ونموّه وتطوّره (مسار نمائي) يعطينا مفاتيح فهم مجموعة من السلوكات الإنسانية سواء السويّ منها أو ما هو في حالة اضطراب. هذه المعطيات جميعها لم يكن في وسع عالم النفس معرفتها لو ظلّ متقوقعا على تخصّصه الضيق، ولم ينفتح على العلوم العصبية (حسب الدكتور علوي). ولعلّ ما حملته الثورة النورولوجية من جدة يتمثل بالأساس (كما يرى الأستاذ المحاضر) في الحسم مع المقاربات السابقة التي كانت تعطي الأولوية للعامل الاجتماعي والثقافي والمكتسب لتفسير السلوك الإنساني، وأثبتت بشكل علمي دقيق أنّ هذا الأخير ناتج عن عوامل داخلية بالأساس، لكن هذا الأمر لا ينبغي أن ينزلق بنا إلى فخّ الاختزالية، فالإنسان عليه أن يتحمّل مسؤولية أفعاله، فهو حرّ ويمتلك الإرادة في التخطيط والاختيار، كما يمتلك استعدادا فطريا وبيولوجيا للتفاعل مع المحيط والتوافق مع الخبرات والتجارب الخارجية والتعلمات المدرسية(هناك قدرات وكفاءات تولد مع الإنسان ولكن تستجيب لعامل التفاعل مع الخبرات والبيئة طبعا). ولفهم أكبر وأعمق للدماغ من منظور السيكولوجيا في علاقتها بالعلوم العصبية Neurosciences كان لزاما أن ينجب لنا هذا الزواج مجموعة من التخصصات الدقيقة والمهمة من قبيل: علم النفس العصبي Neuropsychologie وعلم الاضطرابات العصبي Neuropathologie والنوروتربية Neuro-education وعلم التسويق العصبي Neuromarketing، هذه الحقول سوف يتناولها الأستاذ علوي في عرضه بشيء من التفصيل والتوضيح عبر نماذج تمثيلية. وقبل أن يبسط المحاضر حديثه عن تلك النماذج التوضيحية ارتأى أن يصدر مدخله بالإشارة إلى الانتقال من نظرية الوعي إلى بيولوجيا الوعي (La conscience)، وكيف شكّل مفهوم الوعي الإنساني موضوعا لأحد أهم القضايا الفكرية وأعقدها (سقراط، أفلاطون، أرسطو، ديكارت، سبينوزا، كانط، هيغل، هوسرل…)، كما أنّ التقليد الطبي اليوناني مع أبوقراط كان يعتبر الخلل داخل الدماغ هو الذي يؤثر على السلوك عبر اعتماد نظرية الأخلاط الأربعة. وتأسيسا على ما سبق فإنّ العلاقة بين الدماغ والسلوك هي في الواقع إشكالية العلاقة بين الفطري والمكتسب، وهي إشكالية فلسفية حاولت الإجابة على أسئلة تحوم حول مصدر السلوك الإنساني والعوامل المتحكّمة في النشاط المعرفي والوجداني، من قبيل: هل نحن أحرار في سلوكاتنا واختياراتنا؟ هل الدماغ هو مركز التفكير؟ من اين يستمدّ الذهن مصادره المعرفية واختياراته السلوكية؟ هل من قدرته الفطرية الداخلية أم من خبراته المكتسبة الخارجية؟ ويرى الدكتور علوي أنّ تطور تقنيات التصوير الدماغي L'imagerie cérébrale مكّنت من فكّ أسرار هذا الدماغ وفهم نشاطه ووظائفه، لاسيما تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي (IRM) Imagerie à résonance magnétique ، وهذه التقنيات بمجملها ساهمت في فهم أشمل وأدق للبنى والوظائف الدماغية سواء على المستوى الميكروي أو المستوى الماكروي، كما مكنت من تحديد بعض الخصائص التي يتميز بها الدماغ ومنها القدرة على التغير والنمو حسب مختلف أنواع المحفزات الناتجة عن التفاعل مع البيئة، فالخلايا العصبية (حسب الأستاذ المحاضر) في حالة انتظار، ولها قدرة كبيرة على المرونة العصبية Plasticité neuronale حتى تستجيب لمختلف أنواع التعلمات، أي أنّ المحفزات الخارجية تعمل على تحقيق أكبر قدر من المرونة العصبية وتكوين خلايا عصبية Neurogenèse. ولم يفت الدكتور علوي أن يعرّج على النظام اللمبي Système limbique بمكوّنيه الأساسيين، "اللوزية" L'amygdale بوصفها خزّانا للصور التي تلتقطها العين لتتحوّل إلى منبع للمشاعر والانفعالات وذاكرة للعواطف، و "الحصين" Hippocampe بما هو مركز للذاكرة الصريحة الواعية، وسجلّ الأحداث والوقائع. من جهة أخرى توقف المتحدث عند دماغ المرأة ودماغ الرجل، وتساءل إن كان هناك اختلاف بين الجنسين أم تكامل، فإذا كان الرجل معروف وظيفيا باستعمال الدماغ الأيمن(التفكير الجزئي، عمليات منطقية، مكانية، رياضية، الإثارة البصرية، التنافسية…) فإنّ المرأة تستعمل الدماغ الأيمن والأيسر أيضا (الاشتغال الكلي، قدرات لغوية، ذاكرة لفظية، نظرة عن قرب، القدرة على إدراك الألوان، والشم، الحاجة إلى الحبّ، والميل إلى التعبير…). أما فيما يتعلق بحقل "النورو- تربية" فيرى الدكتور علوي أن عمليات التعلم تساهم في تغيير بنية الدماغ واقتراناته العصبية، وقد حاولت الدراسات النوروتربوية الإجابة على الأسئلة التالية: متى يملك الدماغ القدرة على التعلم؟ كيف يتعلّم الدماغ؟ وما الطرائق العلمية المناسبة التي تمكننا من تعليم الطفل اللغة، وتعلميه المعارف المدرسية التي تتوافق مع قدراته الذهنية؟ فالدماغ يعمل على تطوير أسلوبه الخاص من خلال إنشاء مدارات عصبية Circuits neuronaux متخصّصة في إنجاز الفعل القرائي وإدراك التطابق الخطي-الصوتي. كما أنّ عمليات الكبح Inhibition تتيح للطفل القدرة على مراقبة الأخطاء وتصحيحها (Houdé 2012)، فعن طريق هذه العملية (الكبح) يتعلم الدماغ كيف يصحّح الأخطاء الاستدلالية، ويمتلك القدرة على تغيير الاستراتيجيات المعرفية (بيداغوجية الخطأ يتلخص دورها في تحفيز المشابك العصبية). إنّ التعلم المدرسي في المحصّلة يساهم في الرفع من مستوى النشاط العصبي في هذه المناطق الدماغية. على مستوى بعض اضطرابات التعلم، يرى الدكتور علوي أنّ العلوم العصبية أسعفت كثيرا في فهم هذه الاضطرابات وتحديد مناطقها، فسواء تعلق الأمر بعسر القراءة (Dyslexie) أو عسر الحساب (Dyscalculie) فإنّ هناك خللا في وظائف الدماغ، بالنسبة لعسر القراءة ثمة عجز أو عسر في التعرف على أشكال الحروف وحجمها وطريقة كتابتها، أما عسر الحساب فالخلل يكون وظيفيا على مستوى الباحات الخاصة بمعالجة المسائل الرياضية في الفصّ الجداري. فيما يتعلق بالاكتئاب ودماغ المكتئب فيشير الأستاذ المحاضر إلى أن هناك خللا وظيفيا على مستوى الناقلات العصبية، إذ أنّ الخلايا العصبية لم تتوصل بالكمية الكافية من "السيروتونين" (هرمون باعث على السعادة) حيث تتوقف اللواقط عن امتصاص كمية السيروتونين، وهذا الأمر يؤثر على "اللوزية" حيث تشتغل بشكل دائك وترسل صفارات الإنذار دون توقف (الأمر الذي يفسر حالة الذعر والخوف والحزن التي تعتري المكتئب وتبدو من عينيه)، كما يؤدي إلى تعطيل نشاط "الحصين" (سجل الأحداث السعيدة والمفرحة)، وتقليص دور ووظيفة القشرة ما قبل الجبهة Cortex préfrontal. أما دماغ مريض الزهايمر فيشهد إصابة بالقشرة العصبية قابلة للانتشار (Les plaques séniles)، يحدث جرّاءها ضمور Astophie في حجم الدماغ، إصابة الفص الصدغي، اضطرابات في الذاكرة الصريحة (الحصين) والواعية، والذاكرة الضمنية غير الواعية (اللوزية)، إصابة الفص الجداري. في آخر عنصر ضمن محاضرته المتميزة، يرى الدكتور إسماعيل علوي أنّ "علم التسويق العصبي"(Neuromarketing) هو تخصّص حديث قائم الذات يدرّس على مستوى العالم (علم الاقتصاد وعلم النفس). ولعل ما يبرّر وجوده في وقتنا الراهن هو استغراق الإنسان في ثقافة استهلاكية مستلِبة الغالب، وغير مفهومة على المستوى العقلاني والمنطقي، لذلك أصبحنا نرى نزوعا كبيرا نحو فهم كيف يشتغل الإشهار وآليات التحكم التي تمرّر عبره، فالمستهلك (حسب الأستاذ المحاضر) محكوم بما يسمى الإدراك غير العقلاني Irrationnalité perspective وأخطاء في الحكم Erreurs de jugement، ولعل السؤال الأساسي الذي يبرز في هذا السياق هو: كيف يمكن فهم وتفسير آليات اشتغال دماغ الإنسان من أجل معرفة وضبط سلوكه الاستهلاكي؟ ومعرفة كيف يتم اتخاذ القرار الشرائي؟ وكيفية تخزين المعلومات البصرية (الإشهار وعلامات المنتوج…)، وأيضا فهم كيف ينشأ الإحساس باللذة كعنصر ناتج عن الشراء والاستهلاك؟ وفي ذات السياق، فهم بعض الاستراتيجيات التسويقية والتأثيرية التي تلجأ لها شركات الإعلان والإشهار وأيضا المتاجر والواجهات الكبرى، من قبيل اختيار الثمن واستراتيجية استعمال الأرقام (التأثير السحري للرقم 9)، بما يجعل من الإشهار يخاطب منطقة اللذة بالأساس عبر الصورة واللون والشكل، ويعطل كل له علاقة بالاختيار العقلاني والمنطقي، ومن ثم فعلم التسويق العصبي يسعف على هذا الأساس في فهم سيكولوجية المستهلك، وفهم سيكولوجية الإنسان عموما.