من ضمن الظواهر المتفردة التي برزت في غضون استفحال انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، انتشار رسم كاريكاتوري معبر وذي دلالات عبر الوسائط الرقمية يقف فيه قطاع الصحة العمومية في عراك مع فيروس كورونا بينما باقي القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنتظر فوق أسرة المستشفى انتهاء المعركة بين الطرفين لتتبين مصيرها الحتمي في البقاء أو السقوط فريسة بين أيدي الفيروس. ولعمري فهو رسم يلخص كل ما يمكن قوله حول دور القطاع الصحي المحوري في الحفاظ على حياة البشرية وإنتاج الصحة (كمفهوم اقتصادي) التي هي الركيزة الأساسية لحياة المجتمع وتطوره ونمائه. فكثيرا ما ظلم قطاع الصحة العمومية في السياسات العمومية التي ظلت للأسف تعتبره منذ بداية الثمانينات قطاعا مستهلكا غير منتج لفائض القيمة الاقتصادي وغير مربح، وبالتالي كان التوجه مند ذلك الوقت نحو تقليص ميزانية قطاع الصحة العمومية والتقليص من نفقاتها التي كانت مخصصة لخدمة صحة الأفراد والمجتمع والإصحاح البيئي. هذا التوجه أو الاختيار الاستراتيجي لاعتبار الصحة العمومية مستهلكة غير منتجة ظل قناعة راسخة في أذهان المسؤولين على وضع الميزانية العامة وتمخض عن هذا الاختيار تقليص عدد المناصب المالية أحيانا حذفها تماما المخصصة لقطاع الصحة العمومية؛ وتم دفع الكفاءات المهنية نحو الاستقالة أو الهجرة إلى الخارج؛ وتم إغلاق معاهد تكوين الممرضين في عدة أقاليم وإعادة نشر الأطر البيداغوجية لها في المؤسسات الصحية للقيام بمهام تقنية؛ كما تم تقليص استفادة المواطنين من الخدمات الصحية إلى الحد الأدنى إلا في حالة الأداء نقدا أو التمتع بالتغطية الصحية بمختلف أنواعها. هذه العناصر وأخرى قادت إلى إحداث تذمر في أوساط مهنيي الصحة، فآثر العديد منهم مغادرة القطاع، كما أسلفنا، ومن بقي يمارس غاب عنه الحماس وحل محله التذمر والشكوى، وكثرت المطالب مما أدى لتفاقم الاحتجاجات بمختلف أنواعها؛ والأخطر من ذلك توجه بعض الأطر المهنية نحو العمل بالقطاع الخاص وتعطيل آليات العمل وإعطاء صورة قاتمة عن المؤسسة الصحية العمومية. وكان الاختيار الاستراتيجي بتشجيع القطاع الخاص وجعله قاطرة الصحة ببلادنا بدءا بحذف العمومية من اسم الوزارة لتصبح وزارة الصحة فقط وصولا إلى توفير المرتكزات القانونية لشرعنة عمل أطر قطاع الصحة العمومية في بعض مصحات القطاع الخاص والتغاضي عن العديد من الممارسات المسيئة لمهنة الصحة التي تحولت لسلعة تجارية خاضعة للعرض والطلب، ناهيك عن التهرب الضريبي لبعضها والتهرب من الأداء بالشيك البنكي وتفضيل “النوار” وهو ما كان مصدر صرخة لكاتب عام وزارة المالية الذي سقط في التعميم ليتعرض لاحتجاج قوي ربما أدخله “سوق رأسه”. اليوم تعيش بلادنا أصعب امتحان ثبت فيه بالملموس أن الاختيارات التي تم انتهاجها وفرضها خاصة من طرف أصحاب المقاربة الجبريةapproche arithmétique كانت ستقود إلى انهيار المنظومة الصحية برمتها لولا ظهور أوبئة السارس وأنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير والكورونا وإيبولا وصولا إلى جائحة الكورونا الحالية. فظهور هذه الأوبئة أثبت للفاعل السياسي أن الصحة العمومية تعتبر أهم مرتكز لبناء التنمية وأن الأمن الصحي هو العماد الأساس لبقاء المجتمع قبل أي تفكير آخر في تنميته وتطوره. ومن تم بدأ التفكير، أمام تفاقم المشاكل الصحية وتطور الوعي المجتمعي بأولوية التوفر على الخدمات الصحية الجيدة، في اتخاذ إجراءات لدعم ميزانية قطاع الصحة والرفع من عدد مناصبه المالية وإعادة فتح مدارس التمريض المغلقة وإحداث كليات طب جديدة والرفع من ميزانية اقتناء المستلزمات الطبية وبناء مؤسسات صحية جديدة وتأهيل ما تعرض للإهمال منها وتجهيزها إلخ… للأسف تم إهمال الإنصات الجيد لمطالب الموارد البشرية التي ظلت مواظبة على الاحتجاجات والإضرابات والنضالات بكل الأشكال ليضيع الوطن ومواطنوه وقتا ثمينا حتى حلت جائحة الكورونا مع مستهل سنة 2020 التي أعادت وتعيد تشكيل المشهد رأسا على عقب إقليميا وجهويا ودوليا. كما استفاقت دول متقدمة على وقع الكارثة أمام أول اختبار لمواجهة عاصفة الجائحة المدمرة لتسقط منظوماتها الصحية العريقة فيها والتي كانت قائمة على العلاجات الاستشفائية للأفراد وليس على المقاربة الوقائية للمجموعة “santé communautaire” وعدم تمرس طواقمها على مواجهة الجوائح خاصة جائحة كورونا التي لا زالت علامات استفهام عديدة تطرح حول مصدرها وطرق انتشارها والأدوية المناسبة لعلاجها واللقاحات الكفيلة بالوقاية منها ومن تداعياتها الخطيرة. وبفضل يقظة وتجربة وخبرة الأطر الصحية ببلادنا التي تمرست في مجال تدبير سبل مكافحة الأوبئة واعتماد المقاربة الصحية الجماعاتية والتربية الصحية، استطاعت بلادنا امتصاص الصدمة وتدبير تداعياتها بسلاسة ومهنية، ووفر لها القرار الملكي الحكيم التغطية المناسبة لأداء أدوارها بانسجام وتناغم مع مختلف الأجهزة الصحية المدنية والعسكرية، حيث تم اتخاذ تدابير استباقية بتعليمات ملكية سامية عبر إحداث لجنة اليقظة الوطنية وتوزيع المهام بينها وغلق الحدود في الوقت المناسب وإحداث صندوق دعم جائحة الكورونا ووضع إمكانيات القوات المسلحة الملكية خاصة الصحة العسكرية المتمرسة وطنيا ودوليا في الميدان الاستشفائي واتخاذ التدابير في الوقت المناسب للحجر الصحي وما استلزم ذلك من توفير الأمن للمواطن والغذاء والخدمات الأساسية بما فيها الخدمات الصحية للمواطنين وتنظيم عمليات التموين في جميع مناطق المملكة كما سهرت مختلف أطقم الأمن على تنظيم عملية الحجر الصحي واحترامه وفقا للمقتضيات القانونية التي تم اعتمادها بهذه المناسبة. كما عمل أيضا القطاع التعليمي على توفير خدمات “التعلم عن بعد” للتلاميذ والطلبة وفق مقاربة تكنولوجية جديدة ورائدة لتتبعها مبادرات مبدعة لإدارات عمومية أخرى وأبناك، إضافة لمؤسسات اجتهدت في توفير خدماتها عن بعد والتأقلم مع ظروف الحجر الصحي. طبعا كان القطاع الصحي هو الجدار الحصين الأول لحماية الوطن وتحصين مواطنيه ضد أخطار الجائحة وتداعياتها التي تسببت في انهيار منظومات صحية ببلدان متقدمة وقد أثبت قطاعنا الصحي في المجمل جدارته وحرفيته وهو يقوم بأدواره في الكشف عن الحالات والبؤر الوبائية واخضاعها للتحليل والمراقبة والتكفل بها وتتبعها وفق نظام وقائي وعلاجي متكامل. ما الدروس التي يجب استخلاصها؟ 1. الدرس الأول: قطاع الصحة العمومية في أي بلد هو الحصن الأول لسلامة حياة الناس داخل المجتمع ولا يمكن التفريط فيه أو التهاون في توفير مستلزمات قيامه بواجبه تحت أية مقاربات جبرية متعسفة. 2. الدرس الثاني: رعاية صحة المواطنين في أي بلد هي مسؤولية الدولة أولا فلا مجال لتفويتها تحت أي ظرف كان وتحت أية حجة كانت لأن صحة المواطنين تعني صحة المجتمع ومن ثم “صحة” الإنتاجية والمردودية. 3. الدرس الثالث: دعم البحث العلمي في مجال الصحة وتشجيعه والاستثمار فيه هو صمام الأمان للمستقبل تجاه مثل هذه الأخطار الناتجة عن انتشار الأمراض سواء عن جهل أو بفعل فاعل. كما أن الاستثمار في البحث العلمي هو مستقبل التطور الاقتصادي للبلدان التي تهدف إلى التنمية الاجتماعية لما يوفره من إمكانيات الخلق والتطوير والمهارة التقنية بتطور الصناعات الصحية ومن إحداث فرص الشغل والاكتفاء الذاتي وأيضا تصدير الفائض. فالمجالات متعددة للاستثمار في السياحة الطبية والصناعات الصحية والطبية في مجالات إنتاج الدم ومشتقاته، الأدوية، اللقاحات، المستلزمات الطبية… 4. الدرس الرابع: قطاع الصحة يجب أن يوضع في مقدمة سلم الأولويات في الميزانيات العمومية وفقا لتوصيات منظمة الصحة العالمية لتوفير الإمكانيات المادية واللوجستيكية والمالية والبشرية للاضطلاع بمهامه. كما يلزم تكوين مخزون استراتيجي للمستلزمات الصحية الاستعجالية والأدوية والآليات والتجهيزات الطبية على غرار مخزون المواد النفطية والغذائية. 5. الدرس الخامس: إعطاء الأولوية لتوفير الخدمات الصحية الوقائية بما فيها “التربية الصحية” في السياسات الصحية العمومية وفق مناهج علمية حديثة بالاستفادة من التكنولوجيا الحديثة (الهواتف الذكية، الدرون إلخ) ويتم التعاون وفق مقاربة تشاركية نوعية ومتجددة مع مختلف الفاعلين الخواص والمجتمع المدني والصحة العسكرية والقطاعات العمومية ووسائل الإعلام الوطني وناشطي المواقع الإلكترونية… 6. الدرس السادس: توفير الخدمات الصحية العلاجية الدنيا لجميع المواطنين وفق مقاربة ذكية تعتمد على آليات ضريبية مندمجة عبر مساهمات الجماعات المنتخبة والأفراد في إطار تضامني وطني وجهوي. 7. الدرس السابع: اعتماد خدمات “الاستشارة عن بعد” كخدمات طبية وشبه طبية وفق منظومة إلكترونية جهوية للتخفيف عن المؤسسات الصحية ولضمان التوجيه والتتبع والتكفل عند الضرورة. 8. الدرس الثامن: تدعيم المقاربة الجهوية بتقديم الخدمات الصحية لقاطني هوامش المدن والقرى النائية بواسطة الفرق المتنقلة عبر توفير خدمات وقائية متنوعة وتوفير الاستشارة الطبية وشبه الطبية واستغلال التكنولوجيا عن بعد لتتبع الحالات والتدخل الاستعجالي عند الاقتضاء. 9. الدرس التاسع: إحداث بنك معلومات مرجعي محين ويكون مدعما بأرقام هواتف أرباب الأسر خاصة بهوامش المدن والقرى النائية تدبره خلية المساعدة الاجتماعية للتكفل بالحالات الهشة خاصة التي لا تتوفر على تغطية صحية ولتتبع خدمات صحة الأسرة والمراقبة الوبائية. 10. الدرس العاشر: دعم التربية الصحية جهويا بإحداث خلايا الإنتاج والتوزيع الإلكتروني بالاعتماد على ما توفره التكنولوجيا الحديثة كالهواتف الذكية والدرون وتعمل وفق برامج متكاملة خاصة في أوساط هوامش المدن والقرى النائية وفي المدارس والمساجد ومراكز التأهيل والتربية والتكوين والإرشاد بتعاون وتنسيق مع مختلف الفاعلين غير الصحيين في القطاعات السوسيو تربوية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام. ختاما يمكن القول إن ما قبل الكورونا لن يكون حتما ما بعده. سيكون هناك تحول كبير يمتد تأثيره على مختلف المستويات الجيوستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية… حتى نمط التفكير سيشهد تغيرا نوعيا كبيرا بفعل آثار الجائحة ويمتد تأثيره على المجتمعات الإنسانية… لذلك فالنموذج التنموي الجديد الذي ننشده ببلادنا أمامه فرصة جديدة مليئة بالدروس والعبر بفضل جائحة كورونا ليعيد طرح الأسئلة الجيدة وإيجاد المقاربات العلمية المناسبة لتقديم إجابات ينتظرها راهننا التاريخي والثقافي والحضاري للقفز نحو المكانة التي تستحقها بلادنا ويستحقها شعبنا… * نفساني / خبير التواصل والتربية الصحية