صدر عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع 2017 ، مجموعة قصصية للأديبة الجزائرية سامية غشير تحت عنوان: “حواس زهرة نائمة”. الكتاب من الحجم المتوسط، 128 صفحة، يحتوي على 14 قصة.. صمم الغلاف محمد سعد، وقام بالإخراج الفني جمال عبد الرحيم. المجموعة من تقديم الناقد العراقي عامر الساعدي. ولمقاربة المجموعة، اخترنا الاستئناس بالسيميوتيقا والأستاطيقا لتسليط بعض الضوء على سيمياء الحواس وجماليتها عبر نماذج من قصص المجموعة. 1 دلالات وجمالية تمظهرات الحواس: تندرج هذه المجموعة القصصية ضمن الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، وجاءت لتكريس وإغناء موروث حكائي محلي يصبو للعالمية.. موروث جزائري مغاربي يتميز بخاصية انتمائه لحضارة حوض المتوسط: حضارة ألهمتها طبيعتها الجغرافية، واحتكاكها بثقافات شرقية وغربية عريقة خصوصية محلية/ كونية، ثقافة “سردية” تقوم حكاياتها على استحضار وظائف الحواس (كما جاء في عنوان المجموعة هما “حواس زهرة نائمة”)، وعلى إغراء عدة علوم أهمها علم الجمال “الااستاطيقا” و علم العلامات “السيميوطيقا”.. ووجه الشبه بين العلمين، تركيزهما في دعامات اشتغالهم على الحواس: الأستاطيقا كما عرفها الفيلسوف ألكسندر كوتليب بوم كارتن على أنه: “علم التعرف على الأشياء من خلال الحواس.”… والسيميوطيقا علم دلالات العلامات (دال ومدلول signifants/ signifié)) حدد الروائي والباحث الإيطالي “إيكو” مجالات اشتغالها في علامات الشم، والاتصال بواسطة اللمس، وفي مفاتيح المذاق، وفي الاتصال البصري، و في أنماط الأصوات و التنغيم… (محمد كشاش، من كتابه: “اللغة و الحواس”.) نستشف هذا المعطى دون عناء وبشكل يكاد يكون مباشرا من عناوين مجمل قصص المجموعة التي تكرس ثقافة الحواس: “حواس زهرة نائمة”، و”موعد حب مع المطر”، و “همس الحرير”، و”اشواق تنزف في صمت”، و “أحلام تنوح في ضبابية الوجع”، و “حروف الظل”، و “رسائل الشوق”…. قصة “زهرة / نائمة”: إن كانت الزهرة نائمة، فهي لا تزهر و لا تينع..هي ممتنعة عن الانفتاح، أو ممنوعة منه، فلا جمال نظرة، و لا طيب عطر من رياحينها.. نقرأ: ” الوجع أنيسي في رحلة حياتي المليئة بالعثرات والجراحات التي كانت تتناسل يوميا على ضفاف روحي، و حرائق الدهر تشعلني مرارة و خسائر. حياتي كانت أشبه بالعدم و هو يغرس في سهام ندوب الوجع التي مكثت أكثر في خوالجي المهمشة، لم ينفعني وقود الأمل في أن أمتطي بساط السعادة الذي نسجته منذ سنين في مملكة رغاباتي الأنثوية. أنا “نضال” حياتي أشبه بالحطام، زهرة عمري اليانعة قطفت في سجن الزواج، كنت شابة يافعة مليئة بالرغبات و الشغف…” (من قصة “حواس زهرة نائمة”، الأولى في المجموعة، ص. 15). استعملت القاصة سامية غشير مفردة الحواس” بصيغة الجمع في العنوان الذي يتصدر أولى قصص المجموعة (وهو عنوان المجموعة برمتها “حواس زهرة نائمة”)، حتى لا تنفرد حاسة دون أخرى بدرجة التبئير focalisation حسا، وإحساسا، وشعورا، وانفعالا… حواس يستنفرها الوجع.. رحلة في ازدواجية المحسوس المادي حقا، والمستشعر المجرد المعنوي انفعالا: “ضفاف”/ “روح”، و “حرائق”/ “مرارة”، و “حياة”/ “عدم”، و “ندوب”/ “وجع”، و “وقود”/ “أمل”، و “بساط”/ “سعادة”، و “مملكة”/ “رغبات”…. ازدواجية قرأناها عبر عناوين قصص أخرى مكونة للمجموعة، كما لو كنا بديعا مع طباق معنوي مختزل في مفردات: قصة “همس / الحرير”: وكأن صورة العنكبوت تغزل حريرا تلاحقنا.. صمتها حركة غزل رتيبة مملة، و همسها جمال حرير… نقرأ: “ملأ الخواء و الخراب تلك الأرض العطرة التي فقدت بهجة تألقها منذ رحيل الوالدين “احمد ” و”عائشة”، كان المارون إلى تلك القرية يندهشون للحالة التي حلت بها فقد وهنت و ضعفت، و فقدت بهاءها و غنجها و إغراءها، أضحت شاحبة الوجه دامية العينين، باردة المشاعر، و كانت طقوس المآتم و الحداد تقام كل يوم على ضفافها…” (ص. 38). قصة “موعد حب مع المطر”: للمطر صوت.. والمطر علامة يستبشر بها من أرضه عطشى، و من بقلبه ضمأ… لكن، كما في قصيدة السياب، يطغى طقس السماء الملبدة على أجواء الوجدان، فتحول رمز الإحياء و الخصوبة و الأمل إلى حزن و كآبة و تشاؤم… ومنها، نقرأ هذا التناص الجميل من سيمياء الحواس، عن المطر دالا ومدلولا، عن انفعال المناخ الوجداني مع حالة الطقس الطبيعية، نقلا عن بدر شاكر السياب: “أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟ وكيف تنشح المزاريب إذا انهمر؟ وكيف يشعر فيه الوحيد بالضياع؟” قصة ” أشواق تنزف في صمت”: هل ينزف الشوق؟.. ولو كانت في عروقه تسري الدماء، فكان بالأحرى أن يصرخ ألمه، لا أن يكابده في صمت. يتحول إلى مجرد حروف للكتابة. نتقيؤها على ورق . نقرأ: “كانت كلماتها تشعل فتوة أحلامي فتجيء البشرى المغتسلة بفرح الشغف، فتتسلق الخطوب جنات الصفوات لتغرف دلع الفتوحات، فيتسلل الشوق في جموح عفوي ليغمر شعائر غرفتي، فأهرع إلى كتبي المبللة بماء توددي، فأنسج من وحي تلك التراكيب عالما بهيجا أسكن إليه…” (ص. 77). 2 متعة الكتابة: ولأن المجموعة القصصية “حواس زهرة نائمة” عمل أدبي فني، ولأن أدق تعريف أولي للفن هو “ما يروق للحواس من تمظهرات الجمال”، أي ما نستشعره في مصادر عدة: الجمال في الطبيعة من السماء، والبحار، والثلوج، وفي هطول الأمطار، وفي الكائنات الحية من إنسان ونبات و حيوان، أو في حديقة جميلة.. فالكاتبة القاصة سامية غشير (وهي دكتورة متخصصة في الأدب العربي) اعتمدت بمهارة العاشقة للحرف فنية “ترويض” الحواس، ظاهرها و باطنها. فاللحواس الظاهرة (اللمس، والسمع، والبصر، والشم، والذوق) وظيفة حيوية تستشعر حياة الكائن الحي مع تكييف شروطها والظروف والمحيط الخارجي، ووظيفة معرفية تتمثل في إدراك ومعرفة معطيات العالم الخارجي، واستقراء جماليته. نقرأ: “انسكب ضوء الشمس يغمر أرجاء تلك القرية التي ارتفعت صيحات أريج الحقول وهي تنزف زهرا و عطرا شهيا، وكانت العيون تحملق في تلك الجغرافية الساحرة التي وهبتها زغاريد العصافير وهي تمطر ألحانا وأمنيات ربيعية سحرا مدهشا….” (من قصة “همس الحرير”. ص. 35 ). وللحواس الباطنة وظائف تتعدى إدراك الملموس لتستشعر الجمال وتعبر عنه بالخيال، والوهم، والحافظة، والمتخيلة، وهي الحواس الأربعة كما عرفها الغزالي في كتاب “المعيار”. في هذا السياق تسرح بنا الكاتبة عن لسان الذات الساردة بضمير المتكلم الأنا، موظفة بجمالية متفردة جدلية سيمياء الحواس وأستاطيقا الحرف إلى ملكوت الحلم/ الخيال، نقرأ : “هو المطر الشفيف يأتينا مرتشفا بقبل السناء، ليمسح على شغاف تضاريسها آثارا من وهج قرمزي يتلون في متاع ليمنح الكون قرنفل الأحلام الزمردية. تنام في تراتيبه تجاويف الصبا المغنج بروائح ذهول الوقت الذي كان يرنو إلى مدائن من ندى البهجات. يفتح أسرار ذكرياته المتقدة في كبرياء، قصص تنام في خيال الزهو المرنم، موشومة بحبر اللقيا وجنون التحنان وشلال حبور اللحظات.. (من قصة “موعد الحب مع المطر”. ص. 25). ولما تتوقف الحواس الظاهرة عن القيام بوظيفتها بسبب فقد عزيز، حبيب، هو جمال الكون كله.. تنوب عنها في الغياب، في متاهات الشوق والوجع، حواس باطنة، يأتيها الصوت همسا كذكرى، والصورة هندسة رؤيا، والشغف الإيروسي نبضات قلب، والمتعة مذاق مرارة. هي حواس الحلم، ومتاع الخيال، نقرأ: “رحلت يا “جمال” غادر النور المغتوي بالضوء المطرز جنات عشقي، أهلكتني الأسئلة المتصدعة بإغراءات الغياب، و تخومه التي عزفت على مرايا جرحي انين منافي صقيع الوحشة. فكنت على ضفاف النشوة الجريحة أستمد من وجعي المنتصب بقوافل الرحيل محبرة ألملم فيها آخر ذكرى لعنفوان الشوق الذي كانت ذكراه تهفهف على شرفات بهجتنا، و كنا هناك نحملق في خبل الضوء نخيط منها حلما، سحرا تماهى إلى الهبوب، تدفقت شغاف اليتم المصلوب على رياحين فؤادي الذي انفجر تدفق، ترمل، و توهج كهشاشة حالما يعبر مواسم الزهو لينتصب في منافي الظلال…” (من قصة “حواس زهرة نائمة” ص. 19). كتب عبد الصمد الكباص في كتابه “الرغبة والمتعة: رؤية فلسفية” يقول: ” ليست الجماليّة فكرة، وإنما تجربة. وخارج التجربة التي تختبر في أداء الحواس ورغبات الجسد، تغدو الجمالية شكلاً فارغاً قد يتحوّل إلى مفهوم ثقيل يصلح لإنهاك القرّاء أو أولئك الذين فقدوا أثر الحياة في الكتب، لكنه لا يحفّزهم على الحياة. لا يمكن تصوّر جمالية مفصولة عن الحياة، أي عن المجهود الذي يبذله الجسد لانتزاع إحساس ممتع. مثلما لا يُمكن تصوّر جمالية مفصولة عن الحواس، أي التذوق المنتشي لهذه الحواس لما تحوله من العالم كموضوع لها. فالتذوق الحسّي الذي يتم عبر الجسد، هو الذي يمنح الشعر جمالية. أي ذلك التذوق المنتشي الذي يحدث من خلال العين والأذن واللسان والأنف والبشرة. ونفس الشيء بالنسبة للوحة تشكيليّة أو أغنية أو مقطع موسيقي أو طبق لذيذ أو عطر نافذ”. لكن، لما تصبح الرغبة مجرد حلم، مجرد ذكرى، مجرد مشاعر مكبوتة مسكوت عنها، تتحول لنزيف من حبر يتحرر من سلطة اللغة والبلاغة، ليخط على قرطاس ناصع البياض كما من براءة صورة للوجع، للفقد وللذكرى. كتابة لا يغويها مطر ولو نقر كالطائر على نافذة مكلومة، لأن الطائر جريح، ولا سحر شمس المتوسط تضحكها، فالنفس كما الروح سقيمة. هي الغربة عن الذات لا ترويها سوى مفردات جميلة. قصص ما حكتها شهرزاد، ولو سمعتها أنثى غيرها، لقالت: حكايتي لو سمعتها يا شهرزاد لاستغربت حواسك غرابتها، وتوقفت عن الكلام المباح.