المخرج الذي يمتلك رؤى فكرية واضحة، ومرجعية سينمائية قوية ومنوعة، هو وحده من يستطيع تسيير المساحات الضيقة في فيلمه. هذا الفضاء المحدود الذي جاء كنتيجة لتخفيف الأعباء الإنتاجية، أو تقليص تصاريح التصوير، والأهم دائماً هو التعويل على الفكرة، والتنبيه لها، في الفضاء المحدود لأخذ حقها في الترسيخ والاعتناء، وهو الخيار المرجعي الأهم في الأفلام الفنية التي تحمل همّا إنسانيا، يبحث مخرجوها على مساحة تفكير في ذهن البشر، لإيجاد حلول عملية لمواضيعهم المطروحة، وفقا لآليات مدروسة يتم من خلالها تقديم الإجابات المنطقية التي يتم تسريبها كأسئلة مزروعة في الفيلم السينمائي، تتجمع كهواجس وهلوسات صحو بعد التلقي الذي يلي العرض، ومن هنا تتحول هذه المساحات الضيقة لقالب فني يبحث عن الجوهر، ويدفع بالمُتلقي للتركيز أكثر في محتواه ومحموله. هذه المرجعية الفكرية يمكن اكتشافها بسهولة في الفيلم المغربي “آدم” 2019، الذي أخرجته الممثلة وكاتبة السيناريو، مريم توزاني، كأول اختبار لها في إخراج الفيلم الروائي الطويل، بعد أن خاضت عديد التجارب الأخرى في القصير، كعملها الأول “عندما ناموا” 2012، الذي حصل على أكثر من 17 جائزة دولية، وفيلمها القصير الثاني “آية والبحر” 2015، الذي تحصل هو الآخر على جائزة الجمهور في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليأتي فيلم “آدم”، الذي شارك في مسابقة “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي، ليتوج هذه التجربة، خاصة بعد الردود الإيجابية التي تلقاها بعد عرضه في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي (19-27 سبتمبر 2019)، وحصوله على النجمة البرونزية للفيلم الروائي الطويل. خيبات المرأة وجراحها ينتصر فيلم “آدم” للمرأة وأوجاعها، يسائل سلوك المجتمع الذي يتسبب في هذه الآلام ويخلقها، من خلال تحكيمه لعادات وتقاليد وأعراف تنتصر للذكورية، وتعمل على تحييد خياراتها، بالعقوبات النفسية والجسدية القاسية، تجعل حياتها معادل موضوعي للحياة غير الآدمية. من هنا تأتي صيحة المخرجة مريم توزاني مدوية في العمل، عن طريق قصة الفيلم والسيناريو الذي كتبته بالتعاون مع زوجها المخرج والمنتج المثير للجدل نبيل عيوش. تتمحور قصة الفيلم حول الأرملة عبلة (أدت الدور لبنى أزبال)، التي تدير محلاً مختصاً في الحلويات والخبز التقليدي، وهذا من داخل بيتها الخاص الواقع في أحد شوارع الدارالبيضاء الشعبية، بالإضافة إلى مسؤولية رعاية ابنتها الصغيرة بعد وفاة زوجها في حادث سير. تعيش عبلة حياتها وفقاً لهذا الروتين الخانق، إلى أن تأتي سامية (نسرين الراضي)، التي تحمل في أحشائها ابناً “غير شرعي”، طارقة بابها، تبحث عن عمل في منزلها تضمن من خلاله مبيتها ومعيشتها، وتحفظ نفسها من أهلها الذين هربت منهم بعد هذا الحمل. ولأن عبلة امرأة مرتابة، ولا تثق في أحد، فقد رفضت الفكرة، إلى أن أطلت عليها من شرفة المنزل، حيث وجدتها تفترش أرضية الشارع، وفي مظهرها ما يوحي بالبرد والجوع الذي تعاني منهما، ما جعلها تنادي عليها، وتقدم لها مكاناً لتبيت فيه، وشرطها أن تجد مكاناً آخر صباح اليوم الموالي، إلى أن تتغير الفكرة وتقرر أن تبقيها في البيت، لتساعدها في المحل، وفي الوقت نفسه حتى تنجب مولودها “آدم”. من هنا، ومن خلال هذه العلاقة، تتغير حياة المرأتين، وتدخلان في مرحلة جديدة من حياتهما. التحرر مع الماضي مصالحة مع المستقبل تحتكم شخصيات فيلم “آدم” إلى أثقال الماضي لتفسير الحاضر، وهذا ما تعكسه بقوة شخصية عبلة التي ترفض الاعتراف بالحاضر وما يحمله من شروط التجديد، تقتات من ذكريات الماضي مع زوجها المتوفى الذي كان يحبها ويرعاها ويحتويها. ولهذا ترى بأنه ليس من حقها أن تعيش الحاضر وفقا لشروطه، لذا توقفت عن وضع الزينة على وجهها، وتمشيط شعرها، وتوقفت عن الرقص والاستماع إلى أغاني وردة التي كانت تعشقها كثيراً. من هنا انخرطت في عوالم الشقاء، وأصبح الأخير مرادفاً لحياتها اليومية. لم تعد تصدق بأن هناك من يرغب فيها، ويحاول تحريك ماء الحب الراكد في قلبها، مثل سليماني (عزيز حطاب)، الذي يحبها، ويريد الارتباط بها، لكن هذا التغيير يحدث مع امرأة أخرى، وهي سامية التي ترتهن بطريقتها إلى الماضي الذي ينظر إلى الابن “غير الشرعي” على أنه مجرم، رغم أنه لم يكن طرفاً في موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، الماضي الذي جعل الرجل يهرب من مسؤوليته بعد أن فعل فعلته، لأنه يرى بأنه من غير اللائق أن يكون أباً لولد تشكل في بطن أمه قبل الزواج، هذا وفقاً لخلفيات الماضي ومحموله. ولهذا نرى بأن عبلة لا تزال تحّكم ماضيها ليؤثر في مستقبلها، أما سامية فتريد التحرر من هذا الماضي لتعيش حاضرها وفقاً لما تراه مناسباً، من هنا كان لقاء عبلة سامية ليكون تأثير الثانية على الأولى كبيراً، جعلها تفكر جدياً في هذا الحاضر، وتبحث عن نفسها، وعن أنوثتها فيه، لتتغير المعادلة بعدها، وتؤثر عبلة هي الأخرى على خيارات سامية التي تريد أن توقف المستقبل من خلال قتل أو القضاء على ابنها “آدم”، حتى لا يكون ضحية لظلم هذا المجتمع وجبروته ونظرته الدونية لهؤلاء، هذا المجتمع الذي يقوم عن طريق الأفراد الذين ينتمون إليه بخلق وتكريس أسباب هذه المآسي. رمزية المعاني ودلالة الأسماء تنعكس قوة فيلم “آدم” في الفيلم الذي يوازيه، مع انتهاء (98 دقيقة)، وهو الوقت الرسمي للعمل، يبدأ الفيلم الموازي غير المحدود بتوقيت معين، كون الفيلم غني بالرمزيات والتأويلات والمعاني العميقة، أهمها دلالة الأسماء التي تحملها الشخصيات، فنرى مثلا اسم “آدم”، وهو ابن “غير شرعي” لسامية، وحسب المورث التراثي والديني لهذا الاسم فإن الإحالة تذهب مباشرة إلى أول الخليقة، وبداية الكون، حين أنزل الله “آدم” من الجنة إلى الدنيا، وما تحتويه هذه الأخيرة من أفعال تتراوح بين الخير والشر، وهذا ما يحدث ل”أدم” ابن سامية، الذي كان في بطن أمه، وقد كان في أمان في هذا الفضاء الضيق الذي يعتبر كجنة بالنسبة له، لكنه خرج إلى هذه الدنيا، حيث سيقف مستقبلاً على شرها الذي يولد من المجتمع، في حين نرى اسم “عبلة” الذي يحيلنا إلى الماضي السحيق، إلى العصر الجاهلي بالتحديد، حيث يرمز هذا الاسم إلى الحب المستحيل، إلى ظلم المجتمع، لأن عنترة أسود لا يمكن أن يجتمع مع حرة وهي عبلة، رغم شجاعته وفصاحته، بالإضافة إلى أن العصر الجاهلي هو رمز قوي لما كان يرتكب في حق المرأة التي يتم وأدها بمجرد أن تولد، وكأن المخرجة وكاتبا السيناريو يقولان لنا بعبارة ضمنية، بأن عصر اليوم لا يختلف عن عصر الجاهلية، ويجتمعان في كثير من التفاصيل، أهمها احتقار المرأة والنظر لها بدونية، وكأن شيئاً لم يتغير بين الأمس واليوم. أدت الممثلتان لبنى أزبال، ونسرين الراضي، دوريهما بكل مقدرة واحتراف، فقد عكستا في أدائهما كل معاني القهر وقلة الحيلة والخوف والحرص والشجاعة والحزن والفرح، حيث تنتقلان من حالة نفسية إلى أخرى بالقوة نفسها، ما خلق سهولة كبيرة في نقل هذه العواطف إلى المشاهد، الذي عايش وعاش معهما هذا القهر الكبير. كما عكست تجربة فيلم “آدم” مرجعية المخرجة مريم توزاني القوية، وفهمها العميق للسينما، حيث نجد بأن فيلمها السينمائي غني بالتفاصيل التي نتجت عن اللغة السينمائية الموجودة، حيث استغنت عن الحوار في العديد من المحطات، وتركت الفرصة للصورة كي تنقل معانيها بكل أريحية، كما أنها عكست تحكمها الجيد في اختيار كاستنيغ العمل وإدارته بشكل محترف، وفقاً لمساحة الفيلم الضيقة. عبد الكريم قادري