في علاقة حميمة بالمكونات الكونية من أرض وسماء وأشجار وأزهار وليل و نجومه وفراشات و طيور، كإيحاءات و رسوم، سرعان ما تندمل عبر البوح وأجنحة الخيال في أجمل صورة وأكملها، تأتينا الشاعرة الأمازيغية الرقيقة خديجة بلوش سفيرة جسور المحبة والتحرر من مدينة بويزكارن إقليمكلميم، بديوانها الجديد “همسات ليل قصير”، فالشاعرة خديجة، مسكونة بلوعة الحرف وجماليته، حين تبوح بإنسانيتها من رحم العشق ووجودها كأنثى في خضم هذا الوجود، متحدية كل الظروف، هي كتلة مشاعر، محولة إياها لسمفونية حالمة، مليئة بالصور والرؤى والأفراح والأتراح والأحلام والأشواق والحنين، “إنها الشاعرة الحزينة الثائرة التي تأسرها الوحدة” كما لقبها الكاتب والإعلامي محمد ارجدال. قصائدها عبارة عن عقد أرجواني لامرئي يجمع بين القصيدة والقصيدة، في تناغم يوقظ فينا الإحساس بقيم الحب النبيل والمحبة مع نبذ العنف والكراهية، رسائل شاعرية تعيد ولادتنا من جديد وتحيي فينا القدرة على ربط المسافات وتكسير لغة الصمت القابع فينا، بنفحات الفراق والتمرد على الذات كعاشقة للأحلام والحرف والخطاب المفتون بالرمزية والدلالة، والتعرج في متون القصيدة، تقول في قصيدتها التي جعلتها عنوان ديوانها “همسات ليل قصير”: “أنين يزمجر حين تجود الخطى بالصهيل لكل الجراحات نزف سخي ولون يهدئ روع الطريق ويأخذني لمتاهات عشق جديد أرتب نبضي لنمضي” فهي بكل بساطة قصائد أثثت أبجديات لذة العشق الذي يولد من رحم المعاناة، منتشية بقلب يتوق للفرح والغد الأفضل، لقد حلت بيننا بديوانها الذي زينت غلافه لوحة الفنان التشكيلي محمد العروصي صاحب الحس الرهيف و الخيال الشاعري، لوحة متناغمة بقدر كبير مع محتويات الديوان الذي يضم كما من العناوين التي قدمت بها الشاعرة من أضيق أبواب الشعر، قصائد متوسطة وأخرى قصيرة جدا، معتمدة فيها نوعا من البياض الموزع بين سطورها، وأحيانا بين الكلمات نفسها مما قد يصعب على المتلقي إدراك عمق المعنى الذي تختزله القصيدة، حيث تبدو لك من خلالها الأحرف والكلمات تتراقص وتذوب في خضم البياض كلوحة ذات بعد تشكيلي، قصائد “همسة، خطيئة، رؤى، تسلل، مطر، أسماء …”. وذلك على شاكلة الشاعر الفرنسي “أندريه دوبوشيه” رائد قصيدة البياض والذي غرق في هاوية اللغة بحثا عن الجوهر، هكذا جاءت أغلب قصائد الشاعرة خديجة بلوش، حين تقول: “النافذة لوحة شاردة اللون غيم يوشك أن يسافر بي لعوالم التمرد الجدائل ليل أبثه حزن الورود والتفاصيل .. فواصل بين فرح ووجع” كلمات متداخلة متكررة غير محددة للزمان ولا المكان، فهي قصائد تخدم كل زمان وكل مكان، إذ لا يمكن استخلاص أي ملمح لعصر أو قضاياه، قصائد اللحظة ذات حضور آني، تعتمد على الفكرة بقدر ما تعتمد على الإبداع الشعري، كأنما تحاول التأكيد على حالة أو موقف بعيدا عن الانسيابية وأمام التكثيف اللغوي المستعمل، لدرجة أنك كلما قرأت قصيدة إلا و تزاحمت في ذهنك عناصر قصيدة سبق أن قرأتها، قصائد في قصيدة واحدة لتبقى العناوين فواصل. تخاطب الشاعرة خديجة بلوش ثارة ذاتها، وأخرى الآخر، وقد يكون هذا الآخر ذاتها في نفس الوقت، كما في قصيدة “فصام”: “ترتدي وحدتي وأنتعل حزنها تقيم بين ضلوع المساء أركض في ليل الحبر كلتانا نضج بالأسرار” هي مجموعة قصائد ” كنت هناك، أكتبني، سؤال، هي، الليل، ترانيم، همسات ليل قصير، الغربة، لوحة، ظلال، احتضار، وعد، ندوب..”. اختزلت فيها الشاعرة تفاصيل روحية للأنا والذات كامرأة تفاصيل الحب والعذاباته من حنين وشوق ولوعة وكذا هجر وعتاب، في محاولة لاستعادة تشكيلها من جديد، جرأة عاشقة لكل ما يعيد لها الثقة أنها كائنة، تقول في قصيدة “الشاعر”: “أنت عاشق يسلب الشمس وقار الدفء يسلك مسار الوهج صعود يقلب موازين بوحي ينسج من خوفي مزامير الجمال ويرتل للحب لحن البنفسج” هي الجرأة التي تتسم بها المرأة وهي في قمة العشق والبوح، لحظة الوقوع في شراك الحب، لحظة إحساس داخلي و تراجيدي في نفس الوقت لعدم بلوغها هدفها المنشود ولو بترتيلة أو نظرة، لتتحول ل ” صرخة ” قصيدة يمكننا ملامسة عمق قلب امرأة أحبت بدون عنوان، عتاب ولوم و مناجاة. “هل كان يجب أن أموت كي أستطيع التسلل لحب لا تسكنه تقاليد الفجيعة لأولد من رحم الثلج” إن المرأة أو الأنثى لدى خديجة بلوش هي تلك الضحية، كانت محبة كونها تحب بكل الجوارح أو عندما تنبذ و تنهزم فتتحطم كل خوالجها، ومع ذلك فهي تحاول المحافظة على كرامتها وعنفوانها رغم الاحتضار: “قالت.. أما أنا الآن .. فإني أحتضر قال .. فلتخبريني بموعد موتك كي أجهز باقة ورد تليق بالرحيل” لو تمعنا في جل قصائد الديوان حتماً سيقف بنا القطار بفواصل من عبق البوح وجماله ومن طوق الأحاسيس التي تولد ربيعا يانعا، “حصاد” و”اعتذار” من أجمل القصائد التي قرأتها في الديوان، حيث كان التشبيه والرمزية غاية في الروعة، فهي تودد بنبرات عاشق ورغبة مقرونة بالمستحيل، صورة سنبلة بعد اكتمالها وفرحها بدفء الشمس التي انتظرتها لشهور وهي بين مخالب المنجل دون رحمة ولا شفقة: “قالت سنبلة الحقل لا وقت للموت والمنجل قاب قوسين من جسدي يا شمس ها حناجرنا صدحت بعشقك فانهلي من رضاب الندى ما شئت” ومع التودد فالتفاؤل و الأمل شكلا لخديجة بلوش بوصلة استشراقية نحو غد أفضل رغم المعاناة و الزحمة النفسية، بدون كلل ولا ملل بحس مرهف راق، من خلال قصيدة “ندوب” وهي ترسم لوحة تعبيرية أتقنت فيها جمالية الحرف وتوظيفه في لغة سهلة ممتنعة، ليكتسي عبق الروح لدرجة النشوة. “لا تشاكس واقعك الرديء.. دع الحياة تأخذك حيثما تريد.. و امنح لنفسك فرصة تعلم ان لا بخيفك الغرق” إنها خديجة بلوش شاعرة لا حدود لها بين الشعر والنثر، تحاول محاربة صدأ الذاكرة واستعادة البهاء للحياة، وصيرورتها، عبر مسرى الإيقاعات الشعرية ومقاطعها متلمسة صدق العبارة وحرارة الأبجدية التي قد تعيد الحب حبا والكره حبا والغدر حبا، في مملكة لا حزن فيها ولا ألم.