هل الفن السينمائي جنسٌ من أجناس أدب الطفل، أم من ثقافته، أم منهُما معًا ؟! هناك من سيعترض على )الفنِّ السابع( بحجة أنَّهُ ليس )أدبا خالصا( كالقصة والرواية والشعر والمسرحية، لأنَّ أداتَهُ )الآلة والصورة( وليس )القلم والكلمة( وإن كان الأدبُ والسينما يشتركان في عنصر )القصة( وما كان ليحتلَّ هذه الصفحاتِ في كتابٍ يُحْسَبُ على أدب الطفل، إنما الأوْلى به أنْ يجد مكانه الطبيعي في )مجال الثقافة( ! والحقيقة أنَّ هذه إشكالية، لأنَّ نظرتَنا إلى المصطلحات والمفاهيم، التي تُسْتَعْمَل في الكتابة للكبار، ليستْ هي نفسُها للصغار، ومن هنا يأتي سوءُ الفَهْمِ، وضبابيَّةُ الرؤية. فعند وُلوجِنا مجالَ الطفولة، نتخلَّص تمامًا من كلِّ ما نعرفه عن البالغين والراشدين، ومن مقاييسهم ومعاييرهم التجنيسية والنقدية. وهذا ما يُشَكِّلُ عائقًا لدى الكثير من الأدباء والفنانين، وحتى المدرسين والمربين، إذ لا يميزون بين ما يلائم الكائنَ الصغيرَ، وما يلائم الكبيرَ، وكيفية التعامل معهما. وبالتالي، يذهبُ كلُّ ما يُوَجَّه للطفل، أدبا أو فنا، سُدى، ولا يُحَقِّقُ غايته التربوية والثقافية، وهنا يَكْمُنُ المشكلُ بِرُمَّتِهِ ! خُذْ طفلا إلى حديقة، وأشِرْ بأصبعِك إلى شجرةٍ نائيةٍ عن عينيه، ولتَكُنْ، مثلا، تُثْمِر فاكهةً، كالتفاح أوِ البرتقال أوِ الإجَّاص، ثم اُطْلُبْ منه أنْ يُسَمِّيها، فسيبادِرُ قائلا : إنَّها شجرةٌ ! وكلما اقترب منها، توضَّحَتْ له أكثرَ، إلى أنْ يقولَ لك : إنَّها شجرةُ تُفَّاحٍ ! هكذا أدب وثقافة الطفل، كلاهما مصطلح واحد، لا فرق بين الاثنين؛ لأنَّ الكتابة، سواءً كانتْ قصةً أو مسرحيةً أو روايةً… تحبُل بجملةٍ من الأفكار والآراء والموضوعاتِ التربوية، والعلمية، والمعرفية، والدينية، والطبية…أي مَزيجٌ من هذا وذاك، كأنك في سوق، يعرض للمتبضِّعينَ كلَّ المنتجات المتنوعة، وليستْ حكْيا لحدثٍ ما )فقط(!..وما أنْ ينمو عقلُ الطفل، شيئا فشيئا، حتى يبدأ في التمييز بين الأجناس الأدبية المتنوعة، والعلوم والفنون والمعارف، والرياضاتِ…وبالتالي، فإنَّ أدب الطفل وثقافته، مصطلح واحد، كل منهما يتضمَّن المعنى نفسَهُ . وسينما الطفل تدخل في هذا المجال، لأنها ترتكز على نص أدبي، بكل ما يحمله هذا النصُّ، من شخوصٍ وأحداثٍ وزمانٍ ومكانٍ، وقضيةٍ لها بدايتها وعقدتها وحلُّها، لكنها تجسِّد كلَّ ذلك في تشخيصٍ، أو صورٍ متحركةٍ وخلفيةٍ موسيقيةٍ، أو في العرائس )الدُّمى) ! وهناك من سيثير مسألةً أخرى، ترتبط بهذا العصر الرقمي، الذي يُتيحُ للطفل بسُهولةٍ أنْ يسبُرَ محتوياتِ الوسائط في أي مكانٍ وزمانٍ، وليس السينما فقط، التي أصبحتْ، اليومَ، عالةً على الثقافة، لوجودِ وسائطَ مرئيةٍ غيرِها، تزاحِمُها بإغراءاتِها، فتملأ أوقاتَ الطفلِ الفارغةَ، بل كلَّ أوقاته، دون استثناءٍ ! فكيف نجعله يهتم بالسينما، بدل أن يكتفي بالوسائل التكنولوجية الحديثة العهد، التي استحوذتْ على كلِّ اهتماماته وانشغالاته، أو على الأقل، أن ينظِّم نشاطَهُ بينهما؟!..وكيف نجعله ينظر إلى ما وراءَ الشاشةِ، أي يُعْمِل مداركَهُ العقليةَ، كي يكتسبَ عاداتِ التفكير والتخييل والاستيعاب ؟! ممّا لا شكَّ فيه، أنَّ السينما )فنٌّ اجتماعي( بامتيازٍ، لأن الشريطَ يُعْرَض )عادةً) في قاعةٍ خاصةٍ، بعيدًا عنِ البيتِ، وبحضور جمهور، مما يخلق شعورا مشتركا، مُفعَمًا بالألفةِ والأُنْسِ والراحة النفسية . بينما الوسائط الرقمية نشاط فردي، يجنح بالطفل إلى الانعزال والانكماش والانطواء، فيوقِعُهُ في دوامةٍ من المشاكل النفسية والذهنية، ويعوقُهُ عن التكيف والتأقلم مع الآخرين، ولو كانوا أقربين إليه، كأهلِهِ وأصْدقائه وجيرانه…كما يُصيبه بعد حواليْ عشر سنواتٍ حين يُدْمن عليه، بأمراض مزمنة في بدنِهِ ! ينبغي أن نستغل هذه النقطةَ بالذَّاتِ، فنُهَيِّئ برنامجا لأطفالنا، يلتقون تارةً لممارسة الرياضة، وتارةً لنزهة في إحدى حدائق المدينة، أو ضواحيها، وتارةً للتدريب على عمل مسرحي، أو لمشاهدة شريط في نادٍ سينمائي…وفي هذه الأنشطة الرياضية والفنية، يتمُّ التواصل والتفاعل مع أقرانِهِمْ، وتُتاحُ لَهُمْ فُرَصٌ لفتْحِ حواراتٍ ونقاشاتٍ، حول الأشرطة المقترحة . وغالبا ما تُباشرُ هذه الحواراتُ موضوعاتٍ، تشغل عقولَهُمْ، كقواعد صناعة الشريط، ودَوْر التكنولوجية فيها، وعَمَلِ كلٍّ من المنتج والمخرج والمصور، ودور وسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز والجرائد في الإشهار والإعلانِ عنها، وكيفية توزيع الأشرطة على القاعات السينمائية، والقنوات التلفزية…ويمكن لهذه اللقاءاتِ أنْ تتطور، فيُسْتَضافُ لها ممثلون ومخرجون وكتابٌ مقتدرون، بل تُنَظَّم وَرشاتٌ للتمثيل والإخراج والتصوير. ولقد حضرتُ لقاءاتٍ في معارضِ الكِتابِ، عندما تأتي بعضُ المؤسسات التعليمية، أو النوادي التربوية، بأطفالِها للقاء ممثل سينمائي، مثلا . وشاركتُ فيها بصفتي كاتبا، وكان عدد الأطفال يفوق المائتين . كما أشرفتُ، في العطل الربيعية والصيفية، على تسيير ورشاتٍ لكتابة السيناريو بأصيلة، لعشرِ سنواتٍ متعاقبةٍ، فضلا عن كتابة النص القصصي والمسرحي والشعري، شارك فيها ما بين ثلاثين وأربعين طفلا! ولقد ساعدتني هذه اللقاءاتُ والحواراتُ على استقراءِ مُيولِ الأطفال في هذا الفن، فظهر لي جليا أنَّهُمْ ينقسمون إلى ثلاثةِ أصنافٍ، تبعا لأطوارِهِمُ الْعُمريةِ: فما قبل خمسِ سنواتٍ، يُحَبِّذون أشْرِطةَ الصور المتحركة والعرائس. وما بين السادسة إلى التاسعة، يمْزِجون مشاهداتِهِمُ الصورَ المتحركةَ بالمشخَّصةِ، أما ما فوق هذه السِّنِّ، فتلائمُهُمُ المُشخَّصةُ. هذه فروقٌ بين أطفال الأطوار الثلاثة، لكنَّ الذي يُوَحِّدُهُمْ، جميعَهُم، هو نفورُهُمْ من الشريط )التسجيلي( أو )الاستطلاع( لأنه يحتوي على وصفٍ ومعلوماتٍ ثابتة، لا على قصة، تروي حدثا مشوقا وجذابا؛ فهم يميلون إلى حركة الأشخاص وأفعالهم التي تحمل دلالاتٍ، ولا يُبالون بالكلام المسترسل عن مدينة أو بلد أو شخصية أو آثار، لأنَّ عقولَهم حيَّةٌ نشطةٌ، لا تستوعبُ أفكارا، تُلَقَّنُ لهم، ولو كانت مصحوبةً بصور، إنما يركِّزون انتباهَهُمْ على الشريط الذي يتضمَّنُ حكايةً، تتناول قضيةً، ذاتَ أحداثٍ متسلسلةٍ، وشخوصٍ تُديرها، تتخلَّلُها صِراعاتٌ مُحْتدَمةٌ، تُمَرَّرُ عبرَها أفكارٌ ومعلوماتٌ . والشريطُ الذي يحظى باهتمامهم، لا تتجاوز مدتُهُ ساعةً، لأنهم لا يمتلكون طاقةً من الصَّبْر والتركيزِ والانتباه . كذلك، إذا كان عددُ أبطالِهِ وأحداثِهِ كبيرا، فإن ذلك يُرْبِكُهُمْ، ويُنَفِّرُهُمْ من مشاهدته ومتابعته، ف)ما قلَّ ودلَّ( هي اللبنةُ الأساسية، التي ينهض عليها العمل السينمائي، بل حتى القصة والمسرح، إلا إذا كان البطلُ ينتقل من مغامرةٍ إلى أخرى، كرحلات )السندباد( التي تُبْدي صراعَهُ مع العمالقة، ثم الحوتة الضخمة، فاللصوص…وكيف يتخلَّص منهم، حينا بقوته، وحينا آخر بحيلته، وهكذا…! أما فوائد السينما، وإنْ كنا ذكرنا بعضَها في البداية، فإنها لا تُحْصى، لو كنا نُدْرِكُ قيمتَها، لَأصْبَحَتْ كلُّ مؤسساتنا التعليمية، ودورُ شبابنا، بل أحياؤنا، تتوفَّر على قاعاتِ العرض . فإذا كنَّا ننظر إلى السينما، كَوْنِها نشاطا ترفيهيا ومسليا للطفل في فراغه، وهذا من حقِّهِ، وليس تزجيةً لوقته، فإنه يصِلُ إلى أشياءَ وأمورٍ، ما كانتْ تخطُر ببالِهِ، ولا على بالِنا، وبطريقة تلقائية ويُسْرٍ، لا يحسُّ بها . وهي تعلُّمُهُ للُغاتِ أخرى، وإثراءِ لغتِهِ، في الوقتِ نفسِهِ ؛ فعبر الحوار بين شخوص الشريط، ودون أن يشعر، أو يسعى إلى ذلك، تتسلل إلى لسانه مفرداتٌ وألفاظٌ وتعابيرُ وجملٌ، ما كان يحسُب لها حسابا . وإذا لم يفهمْ لفظا أو تعبيرا ما، فإنهُ يعودُ إلينا ليسألَ عن معناه ومدلوله، أو يلجأ إلى القاموس، بحثا عن شرحه، وفي كل ذلك، فوائدُ جَمَّةٌ، كتنشيط العقل، والرغبة في المعرفة والفهم، والاعتماد على النفس . وأذكر أنني كنتُ أتعلم في المدارس الحرة، أي الخصوصية )أنشأها رجال السياسة والمقاومة في عهد الاستعمار العسكري( لتدريس اللغة العربية، بدل اللغة الفرنسية، فكانتِ السينما المَنْفَذَ الوحيدَ، الذي أتاحَ لي تعلُّمَها ! وبطبيعة الحال، فإن تعلُّمَ اللغة، سيُحَفِّز طفلَنا على قراءة الكتب والمجلات، والاطلاع على الثقافات الأخرى . ورُبَّما كانتْ هذه الوسيلةَ الفنيةَ، الأجْدى من الدروس، التي يتلقَّاها في مدرسته، لأنَّ الأولى نشاط ذاتي، والثانية عمل يومي إلزامي ! والسينما وسيلة ناجحة في تحسين المشاعر وتنضيد الأفكار، وتخفيف التَّوتُّراتِ، ونوباتِ القلقِ والخوفِ، وحالاتِ الإرهاق الجسدي والنفسي، التي تنتابُ الطفلَ، أثناءَ الدراسة، وإجراءِ الاختباراتِ المدرسية . وتمنحه جُرْعاتٍ من الأمانِ والصبر وسَعَةِ الصَّدرِ، سواءً عبر الفُرْجةِ والتسلية، أو عبرَ المغامرات التي يخوضها بطلُ الشريط، ليتحدَّى العراقيل، ويُزيحَ العوائقَ ! وهذا يُفْضي به إلى تحسين قدرته على التفكير النقدي، وشَحْذ الخيالِ، وتطوير إبداعاته، فينبض بالحياة المشرقة . كما يشعر الطفلُ بالطُّمأنينةِ والسَّكينةِ، عندما يرى فعلَ الخيرِ ينتصر على فعلِ الشَّرِّ، وبطلَ القصةِ المصورةِ، يعملُ، منذ البدايةِ، على نشْرِ الأمْنِ، وتَفادي الظلمِ، وإنْ كانتْ شخصيتُهُ تبدو ضعيفةً، مثلَ الشريط الياباني، الذي توجد قصتُه ورقيةً، مترجمةً إلى العربيةِ ))عُقْلَةُ الأُصْبُعِ)) وهو اسْمٌ لبطلٍ، ذي جسمٍ صغيرٍ جدا، في حَجْمِ الجُزْءِ الأعْلى من الأُصْبُعِ . فقد أبواهُ الأملَ في أنْ يعيش عاديًّا وسَوِيًّا، كسائر الأطفال الأصِحَّاءِ الأسْوِياءِ، لكنه بذكائه، قضى على العمالقة، الذين كانوا يعترضون طريقَ السُّكَّانِ، وهو ما لم يستطع ذوو الأجسام الضخمة من الرجال أنْ يفعلوه . وكأننا بهذا الشريطِ / القصةِ، نبعثُ للطفلِ رسالةً، تقول له إنَّ الجسمَ، مهما كان قويا وكبيرا، فلنْ يفيد صاحبَه، وإنما التعويلُ على العقل والنباهة ! وعلينا أنْ نحتاط من بعض الأشرطة التي تعرض شخصياتٍ متنوعةً، مثلما في القصص والروايات والمسرحيات… شخصياتٍ تترك بصماتٍ وأثَرا في نمو الطفل العاطفي والعقلي والاجتماعي، منها ما هو إيجابي، وهذا ما نسعى إليه، ومنها ما هو سلبي، وهو ما نحاول تفاديه. وهذا يفرض علينا حَتْمًا أنْ نفتح حوارا مع الطفل، حول أي شريط، كي لا يقتدي ببعضَ الشخصياتِ المنحرفة . فقد تتسرَّبُ إلى قصة الشريط أحداثٌ، يأتي حلُّها أو عِلاجُها عنيفا، أو مواقفُ عدوانيةٌ، تؤثِّر في نفسه وسلوكه، فيظنُّ أن الحياةَ غابةٌ، لا يحكمها القانونُ، وبالتالي، يفقد الثِّقةَ، حتى في والديه وإخوته، ويسقط فريسةَ الخيبة والفشل والضياع ! نحن في حاجة إلى سينما تربوية وتعليمية وتثقيفية، تبني شخصيةَ طفلنا، فتُسَلِّحه بالثقة والأمل والتحدي والتفكير السليم. وتذكي خيالَهُ، فينفتح على الكون، ويحاول أنْ يخترقَهُ، ليكشفَ خباياهُ وخَفاياهُ، ويُساهِمَ في تطور العالم، لا أنْ يظل في نقطة الصفر، ينتظر الذي يأتي ولا يأتي . فالتنمية الحقيقية لأيِّ بلدٍ، تنطلق من الطفولة المتعلمة، التي تدَّخِرُ طاقةً من التفكير والخيال، والسينما إحدى الوسائل الناجحة، لصناعة هذا التفكير، وحياكةِ هذا الخيالِ، إذا فتحنا المجالَ لمنتجينا ومخرجينا وكتابنا وممثلينا، كي يقدموا لطفلنا، ما يأخذ به إلى تشييد الحياة المثلى!