دأب القاص المغربي حامد البشير المكي بلخالفي على التعبير عن تجربة روحية قوامها المجاهدة والمكابدة وصراع الأهواء، قصد الخروج بها من أدران العالم المدنَّس إلى صفاء العالم المقدَّس. وعلى هذا الأساس ستقارب هذه الدراسة ملامح سحر الإبداع والنّبش في جوهر الوجود من خلال قصة “قالت لي المتيمة” وهي القصة الخامسة والأخيرة ضمن المجموعة القصصية “قبضة من الواقع في بركة من الخيال” للمبدع حامد بلخالفي، وهي تجربة إبداعية لا تخلو من فرادة وتميز. ولعل أهمَّ مفتاح لسبر أغوارها هو مفتاحُ الذات، الذات التي تبحث عن الحقيقة في كنه الوجود. 1 – ماهية الوجود عند حامد بلخالفي شهد العالم في العقود الأخيرة تغيرات جذرية وتطورات سريعة أثَّرت على حياتنا في شتى المجالات، مما فرض على المهتمين بحقل الإبداع التفكير في تقديم حلول تناسب هذا التسلسل من الأحداث ليتمكن الفرد من مواكبة الرَّكب الحضاري والتكنولوجي والمدني. تماشيا مع هذا الوضع ولج المبدع حامد البشير المكي بلخالفي منعطفا حاسما، أعلن فيه عن الاهتمام بالجانب الروحي للإنسان. وفق هذا الطرح تضمنت قصة “قالت لي المتيمة” جملة من التِّيمات الرّامية إلى الاتصال بجوهر الوجود وباطنه الذي يوحي بالقداسة والسمو، ومن ثم فإن اللغةَ السردية في هذا المستوى إيحائية لأن موضوعَها هو الروح ومناجاة النفس ومخاطبة الخالق، وكلها موضوعات في غاية الدقة والعمق. نجد المتَيَّمةَ كوثر، في هذه القصة، تثور على عالم الخفافيش المدنَّس، وتتوق إلى عالم جعفر المقدس لتحدثه بلغة قوامُها الأحاسيس الصادقة، لأنها سئمت لغةَ المصالحِ والمنافعِ والمفاوضات والمناورات، هذه اللغة المُبُطَّنَةُ بالكلام المعسول. إذ تُفْصِحُ هذه القصة عن الواقع المعيش الذي يعَدُّ جوهرَ الوجود. لنقرأ المقطع الآتي على لسان جعفر: “من يركبِ البحرَ لا يخشى الليل، ولقد ركبنا بحرَ العزلةِ لأننا اخترنا الحياةَ الكريمةَ في زمن أصبح أهلُه يتنافسون في الغَيِّ والضلال. فإذا كان قدري أن ألفظ َأنفاسي فنِعْمَ القدر، لكنني لن أستسلم للعيشِ الذليل ولو عُرِضَ علي جبل توبقالَ ذهبا” ص. 64– 65. يجسد هذا المقطع السردي إغراءً خفيا تمارسه سلسلةُ احتمالات تَعِدُ بها الأمكنةُ والأحداثُ التي تُعَدُّ مغامرةً للذات في تغيير معالم الغي والضلال. من هنا يتضح أن المبدع حامد البشير المكي بلخالفي يستشرف رؤيا جديدة للكون، وهذا المنظور الوجودي القائم على مجازفةٍ وجوديةٍ هو ما يشكل سمات الذات التي تُنْتِجُ إبداعا بمواصفاتٍ جماليةٍ متميزة، لأن البحث عن الحقيقة هو ما يميز هذا المنجز السردي المتميز، إذ تتضح بجلاء واقعية المشهد عبر توظيف الشخصيات التي تتخبط في خطوب الحياة وتكاليف الواقع المعيش، وخاصة في فضاء المدينة الذي تسوده أزمة القيم. قال زكريا لجعفر أثناء اللقاء به في الحارة: “لم تتغير حالي منذ مغادرتِك للحارة، ما زلت عاطلا عن العمل، والذي يُعَزِّينِي أن جُلَّ الأقران يعيشون نفس الوضع، لا فرق بين شهاداتِ الدراسة، أ عالية كانت أم متوسطة، المحظوظُ من طالبي الشغل من يجد اليدَ التي تتوسط له بطريقة أو بأخرى” ص. 118- 119. يتغلغل المكان في أعماق الإنسان ويظل موشوما في ذاكرته وراسخا في مشاعره، ولهذا يرتبط المبدع حامد بلخالفي ارتباطا وثيقا بالمكان، مما يضفي على تجربته الإبداعية ديناميكية التفاعل، ويخلع عليها صورا جمالية، يقول السارد جعفر في هذا المعنى: “قلت لصديقي عزيز، هدف زيارتي لهذه القرية هو البحث عن موضع قدم لأتمكن أنا وزوجتي من الاستقرار في هذا الفضاء الطبيعي الفتّان الذي وجدنا فيه راحتنا وسكينتنا ومنظومة أخلاقية متكاملة …. على عكس ما هو الحال بالمدن، فقد استشرى فيها داء الأنانية المتوحشة والنفعية المقيتة في نفوس الناس أفرادا وجماعات إلا من رحم ربي”. ص. 239. يتضح أن المبدع يُفْصِحُ بجلاء عن قبح الواقع ودمامته بالمدينة، مبرزا ما يكابده من لواعج الألم، ولهذا نجد جعفر يتوق إلى الاستقرار بالقرية التي توحي بالسمو والطهارة والصفاء، بعيدا عن عالم المدينة الذي يرمز إلى الفاحشة والرذيلة والانحطاط الخلقي الذي يجسده الخفافيش. وفي هذا السياق يقول جعفر: “أريد من صميم قلبي الرجوع إلى الكهف، فقد أصبحت لا أتحمّل البقاء في بيئة اجتماعية تشجعك على الكسل والخمول، وتدفع بك إلى الانحراف والخروج من التاريخ، لا أنكر أن هناك فئة تدعو إلى الخير مثل أسرة زكريا، لكن ثقلها هزيل، ليس لها تأثير فاعل في نفوس الناس والجماعة الضاغطة والمهيمنة” ص. 149. لم يكن الضّحك الشعبي الذي احتفى به باختين، إلى تخوم الإفراط، إلا مرآة للحرية التاريخية المشتهاة. وشهية القاص حامد بلخالفي تكمن في الكتابة التي تفضح وتعري، إنها تصنع المكان الجوهر، المكان كما ينكتب في الذات؛ ونقصد هنا عالم القرية الذي يكتنز قيم الطهارة والنّقاء والصّفاء والسّخاء، لنقرأ على لسان جعفر المقطع الآتي: “قال لي السيد مصطفى والد زكريا: “لقد فعلت الكثير، لقد أدخلت أنت وكوثر البهجة والسرور في قلوبنا، بل وبعثت في نفوسنا أن الغد سيكون أفضل، لنستعد إذا للسفر إلى جبال تيزينتست حيث الصّفاء والبهاء والكرم والإباء” ص. 185. وهذه اللغة الفاضحة بانزياحها تقدمها لنا قصة ّقالت لي المتيمة” من خلال رحلة جعفر بحثا عن العيش الكريم انطلاقا من الكهف والقرية مرورا بأحواز مدينة مراكش ومنطقة أولاد بن السّباع وقرية سيدي المختار وصولا إلى مدينة الرباط حيث يقطن المهندس عزيز الذي طلب من جعفر الانخراط معه في مرصد البحث العلمي الذي يهتم بالتنمية القروية لكونه عالما باحثا متخصصا في الدراسات والأبحاث السوسيو اقتصادية، وبعدما رفض جعفر الأمر جملة وتفصيلا انتصارا لقيمه النبيلة ومبادئه السّامية ضمّه عزيز بقوة قائلا وعيناه تذرفان دموعا حارة: ” لن أنساك أبدا يا أعزَّ صديق، لن أنسى ذاك الطالبَ المتميز الذي كان يساعدني خلال دراستي الجامعية، لن أنسى ذاك المثقفَ الذي لم يتنازل عن مبادئه قط، لا تؤاخذني أنني لم أستطع أن أتحرر من شرنقةِ الذات” ص. 166. وأمام هذا الوضع الذي تهيمن عليه شرنقة الذات آثَر جعفر العودة إلى حبيبته كوثر حيث توجد أسرة زكريا التي تضمن له الشعور بالدّعة والطمأنينة وتغدق عليه العطف والحنان. 2 – تجليات الألم وسحر الإبداع يعد الألم مكونا رئيسا من مكونات قصة “قالت لي المتيمة” وأظهر صنوف الألم فورة، الإحساس بالاغتراب الثقافي، إذ يغدو كلَّ تأمل في مظاهر الكون تعويضا لغياب مؤلم، أو إفصاحا عن معاناة المبدع من ألم وشجن يجسده المقطع الآتي: “ولما أدركتِ الخفافيشُ ألا أمل لاستهوائها، هَدَّدَتْنَا بكل ما أُوتِيتْ من قُوَّةٍ وجبروت، فأذاقتنا كلَّ ألوانِ العذابِ والهوانِ لعلَّنَا نستسلم. ص. 38. يتّضح أن الانهيار القيمي الذي تجسده الخفافيش في مختلف جوانب الحياة يجذر الإحساس بالألم في ثنايا المنجز السردي حتى يصح القول مع الباحث عبد الرحمن صدقي: إن الألم قوام الحياة، تماشيا مع رأي فريديريك نيتشه الرامي إلى كون الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم. ولا غرو في ذلك مادام الجماد لا يشعر ألما في تفاعله، كما أن الحيوان ينسى الألم بزواله، فإن إرادة الحياة في هؤلاء خطبها يسير، أما الإنسان فخطبه كبير، لأنه إرادة شاعرة بنفسها، ومن ثمة كان كل ما يقف في طريق هذه الإرادة ويعرقلها يحدث ألما، ويترك في نفوسنا مضضا. ويزداد الألم حدة عندما يشعر المرء بالوحدة والغربة، وهذا ما حصل لجعفر عندما سافر إلى المدينة ولم يجد العمّة عالية التي تكلفت بتربيته بعد موت الوالدة، وهذا ما يتضح من خلال قول جعفر في المقطع الآتي: “سَأَلَنِي زكريا أجئت لتزورَ العَمَّةَ عالية؟ لا تُتْعبْ نفسك، إنها حملت أمْتِعَتَها وسافرت إلى مَسْقَط ِرأسها بقبيلة المنابهة ولعلها لن تعود، حسب ما أخبرتني به أمي. بدا على وجهي الحزنَ والأسى، لم أكن أتصور أن عمتي عالية قد تفارقُ البيت” ص. 120- 121. يدل هذا المقطع السّردي على تفاعلات نفسية واجتماعية وثقافية تجمعها سمة واحدة هي الإحساس بالغربة في الحياة، التي تبعث على الإحساس بالقلق، وتمثُّل هذا الإحساس معناه الالتزام بالقضية الإنسانية والوعي بها وبالقيم والمفاهيم الخُلقية التي تجسد دعائم وقواعد المجتمع. هنا تنهض لغة الحلم في العمل الإبداعي، ولعل الحلم بترسيخ الفضائل ودرء الرذائل هو الذي حفّز جعفر وكوثر على الهجرة إيمانا منهما بقضية عادلة، وهذا ما يبدو بجلاء في الصورة التالية: “هاجرنا إلى عوالمَ أخرى قيل إنها تقيم العدلَ بين أهلها وتذودُ عن الأوطان لأنها تأبى الضَّيم. أوطانٌ أسَّسَتْ قواعدَها في أعالي الجبال، وأخرى بنت أسوارَها على ضفاف الأنهارِ والوديان، وثالثةٌ مَدَّدَت عمرانَها على مدار البحيرات وعلى طول الشاطئ. انتقلتُ مع مُتَيَّمَتِي عبر هذه البُلْدَان، أُدْمِيتْ أقدامُنا بحثا عن السعادة الموعودَةِ فلم نجدْ لها أثرا يُذْكَر” ص. 40- 41. هذا هو الحلم الذي قال عنه غاستون باشلار: إن الحلم يضعنا في حالة الروح، هكذا في دراستنا البسيطة لأبسط الصور، يكون طموحُنا الفلسفي كبيرا، إنه إثباتٌ أن الحلمَ يمنحنا عالمَ الروح، وأن الصورةَ الشعريةَ تقدم شهادةً على روح تكشف عالمَها، العالم الذي كانت تريد العيشَ فيه. على سبيل الختم استنادا إلى ما تقدم، يتبيّن أن الإبداع هو الوجه البلاغي الذي به تدرك الذات واقعها وبه تنقله، فهو ليس مجرد اختيار أسلوبي وتعبيري، بل إنه ملمح وجودي عميق وجزء من البحث في كنه الواقع المعيش ورغبة جامحة في الكشف عن الغموض الذي يطبع حياة الناس. فضلا عن هذا كله نستخلص أن ذات القاص تَفْحَصُ شكل التطابق بين صورةٍ جميلة في الذاكرة وصورةٍ قاتمة يجسدها الواقع المعيش، حتى أن الذّات تخشى على بريق الصورة المُشَكَّلَة في الذاكرة. ومن ثمّ، فهذه هي رؤية حامد البشير بلخالفي للكون، التي جسّدها من خلال الذات التي تخلق المسافة الضرورية التي يحتاجها الإبداع لتؤثر وتقنع، فالإبداع ذريعة جمالية لمنح تأشيرةِ البوح والتعبير دون خوفٍ ورهبة.