توطئة يعد التراث أحد أوجه الجمال الإبداعي لدى الأمم، ولذلك دأب الإنسان المبدع على استلهامه وتَمَثُّله في الصياغة والتعبير، وعمل على توظيف مرجعياته المعرفية بهدف خدمة التجربة الإبداعية والإفصاح عن الرؤى المتباينة للكون. والجدير بالذكر أن عملية توظيف التراث تشكل، في الفن القصصي، ملمحا رئيسا من ملامح التطور في العملية الإبداعية، ولأن التراث خصب بمعطياته وإمكاناته التي حملها لنا عبر العصور، فقد مثَّل مجالا رحبا للاستلهام أمام مبدع الفن القصصي الذي وجد فيه مقومات فكرية وإبداعية تمكنه من التعبير عن الهموم والقضايا التي تشغله. ومن هذا المنطلق تتركز مهمة هذه الورقة البحثية في تتبع مواضع توظيف التراث في المجموعة القصصية «هيهات»(1) لمحمد الشايب وإدراك الأبعاد الحوارية التي ينشئها القاص مع العنصر التراثي، وبيان كيفية الاستفادة منه بغية إثراء نصوصه من حيث البنية السردية والدلالة. 1 – التراث الديني يعد التراث الديني مصدرا رئيسا لمد النصوص السردية بالمدلول الحكائي؛ لاسيما أن هذا النوع من التراث يحمل في جوهره العديد من قصص الأنبياء والصحابة والتابعين. وقد استطاع القاص محمد الشايب أن يبني السرد وفق القصة الدينية الموسومة ب"ريح يوسف"، إذ عمل على استلهام شخصية النبي يوسف وتوظيفها في بنية سردية فنية، وهذا ما تجسده القائمة المعجمية التالية: "رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر لي ساجدين، الذئب، القميص الملطخ بالدم، الشيخ، يوسف عليه السلام، الإخوة الأعداء، قالت امرأة العزيز «هيت لك»، سنوات عجاف، النسوة اللائي قطعن أيديهن»(2). تدل هذه المتوالية المعجمية على إكساب القصة الثراء الدلالي المقتبس من النص الديني، وذلك بواسطة توظيف القاص الآيات القرآنية في سياقه السردي، ليضفي عليه قداسة بالغة ويمنح لغته أبعادا دلالية عميقة تحفز المتلقي على التفاعل معها. ويشكل التراث الديني الأساس الذي تنبني عيه قصة «ريح يوسف» التي استهلها القاص بجزء من آية قرآنية، وذلك بتقنية التناص اللفظي المباشر، وعلى نحو اختزالي، ليحفز المتلقي على التفاعل معه ومشاركته مشاعر القلق التي انتابته إزاء إحدى مظاهر الحياة المعاصرة والحضارة الحديثة، وهي فساد القيم وانهيارها، الشيء الذي جعل الفرد يفتقد الشعور بالدَّعة والسكينة. ولعل المقطع السردي التالي يوضح طبيعة هذا التناص الديني «لا يوسف في المدينة، رحل كل من يلبس هذا الاسم، ويبقى الإخوة يضمرون القسوة، ويختبئون وراء ظلال الذئاب، في كل بيت يولد يوسف، وفي كل بيت إخوة يلقون به في الجب، أو يقتلونه»(3). وقد جاء هذا التوظيف في سياق البحث عن القيم المفقودة كالسَّكِينة والأمن والحب، بالإضافة إلى ذلك جاءت البنية التراثية متجسدة في تيمة الموت، حيث يقول القاص: «ظللت أبكي وأصيح الموت أتى على كل من يحمل اسم يوسف، الموت أتى على كل من يحمل اسم يوسف … بكيت وصرخت، بينما كان أشخاص، اعتقدت أنهم إخوة الميت، يرتبون مراسم الدفن»(4). وهذا التوظيف يتسم بقدر من التوتر والدرامية التي تشد المتلقي وتثير فضوله للآتي. ويسترسل القاص في التعبير عن مقصديته بقوله: «يوسف وحده كان يزين المدينة، يلونها بالنرجس والياسمين، يلبسها فستان العرس كل يوم، لكن الإخوة قتلوه، وها هم يشيعونه، كل يوم يشيعون أخا آخر، ويذرفون الدموع الغزيرة»(5). ويتابع القاص كلامه معبرا عن فقدان القيم النبيلة بفقدان النبي يوسف عليه السلام فيقول: « اسم يوسف مفقود في جميع الأمكنة: «في گراج علال، كما في باب الأحد، في جامع الفنا، كما في جنان السبيل، وسور المعاگيز، في الهديم، كما في الخبازات، اسمك مفقود، وكلما لاحت نسائمه، تصدى له الإخوة، ورموه في جب الغياب»(6). ومن زاوية أخرى يستلهم القاص روح النص الدينى لكونه يزخر بالقيم العديدة والمعانى المتعددة، ويتجلى ذلك بوضوح فى موقفه من رمز الخطيئة الأولى المتمثلة في «شجرة التفاح» التي تجسِّد عجز المرء عن مجابهة أهوائه ورغباته. يقول القاص في قصة «شجرة التفاح»: «يذكر أن جدته كانت تصرح له كل مرة أن تلك الشجرة غرست يوم ولد، وقد غرسها السي العربي، وأحاطها بسياج إسمنتي، لكنها كانت تحذره من الاقتراب منها، لأن السي العربي لا يريد لأحد من الصبية أن يدنو منها. ولأنها –حسب جدته دائما- غرست في أرض مسكونة، ورغم كل هذه التحذيرات أغراه تفاحها حين نضج»(7). استلهم القاص، هنا، روح النصوص الدينية ليخلع على اللغة السردية نوعا من المقدس الديني، ويشير، في الآن نفسه، إلى تغلغل العمق الدينى فى وجدان المجتمع المغربي. كما استعمل من التراث الديني ما يتوافق مع القيم الإسلامية والأخلاق العربية الأصيلة، التي تضمن تلمس طريق هويتنا الثقافية. 2 – التراث الأسطوري يقصد بالأسطورة تلك المادة التراثية التي صيغت في العصور الإنسانية الأولى وعبَّر بها الإنسان في تلك الظروف الخاصة عن فكره ومشاعره تجاه الوجود، فاختلط فيها الواقع بالخيال، واتحدت فيها أنواع الموجودات من إنسان وحيوان ونبات، ومن ثم فالهدف المنشود من تعامل القاص مع الأسطورة هو البحث عن حقيقة الأشياء والكشف عنها. لقد شكل توظيف الأسطورة في القصة القصيرة سمة أسلوبية بارزة، حتى غَدَت من أكثر الظواهر الفنية بروزا، لذلك عَدَّها القاص محمد الشايب أداة من الأدوات التعبيرية الجمالية التي اهتدى إليها واستلهمها بهدف الإفصاح عن تجربته الإبداعية. حيث وظف أسطورة «نرجس» التي توحي بالغرور وحب الذات لتتعالق مع شخصية «عيشة قنديشة» الضاربة جذورها في عمق التاريخ، «قيل حينذاك إنها رأت صورتها في الماء، فانبهرت بها. ثم ارتمت في النهر، وغاصت في أعماقه رغبة في معانقة الصورة التي هي صورتها. وقيل أيضا إن عيشة قنديشة حينما رأتها استولى عليها جمالها، ولم تقدر على مقاومة نيران الغيرة فاختطفتها، وقيل أيضا إن «سبو» تعَوَّد على تلقي القرابين كل سنة، ولا يرضى بها إلا ثمينة وجميلة حتى يجود بالخير، ولم يكن هناك من قربان أثمن وأجمل من نرجس في تلك السنة»(8). تحمل هذه الأسطورة قيمة فنية في ذاتها، فهي نظرة إلى الحياة وتفسير لها، لهذا فإن القاص لا يلجأ إلى الأسطورة كمادة جاهزة، إنما يشكل أسطورته من خلال تجربته الإبداعية؛ إذ الإبداع ليس حشوا للأساطير والرموز، وإنما هو رؤيا للكون، ولهذا نجد المبدع يتصرّف في الرمز أو الأسطورة بحسب ما تتطلبه تجربته الإبداعية، مما يعني أن جمالية الأسطورة والرمز تكمن في طريقة توظيفهما ومدى انسجامهما مع السياق والمعنى. وهذا ما يتضح بجلاء في المقطع السردي الآتي من قصة «هيهات»: «أأكتب امرأة بكل هذا الجمال؟! امرأة بلا مقدمة ولا حبكة، ولا نهاية. امرأة لا هي شعر، ولا هي نثر، امرأة لا هي كلاسيكية صرفة، ولا هي تجريبية صرفة، لا هي موغلة في الغموض، ولا هي واضحة كل الوضوح، لا هي من تصاميم الشيوخ، ولا هي من بدع المريدين. وأخيرا كتبتها … !كأنها برزخ بين بحرين لا يبغيان"(9). قفز الالتحام بين الواقعى والخيالي في الأساطير -الموظفة في متن الدراسة- على الأزمنة والأمكنة، تأكيدا على رفض القاص الواقع المعاش بما يحمل من مساوئ ومثالب، بهدف خلق واقع معادل يقع فى عالم الأسطورة بما تحمل من بدايات عفوية وفطرية. فكان لابد من استدعاء الشكل الأسطورى لتعزيز هذا المعنى الذى وضعه القاص فى متنه القصصي رغبة منه في اختزال المسافة بين الشكل والدلالة الكبرى للنص، ومن ثم تلاحمت القيمة الجمالية مع القيمة المعرفية، وقد أدى ذلك إلى تطوير الشكل القصصي فجاء مغايرا عن غيره من الأشكال التقليدية، كما وصلت الغرائبية فى المجموعة القصصية برمتها إلى درجة يمكن وصفها بالواقعية السحرية. على سبيل الختم اعتمادا على ما سبق، نستشف أن رؤية القاص محمد الشايب للتراث تقتضي من الباحث والدارس أن يتعامل مع مختلف مكونات التراث كحركة مستمرة من شأنها أن تسهم إسهاما وافرا في تطوير التاريخ وتغييره نحو القيم الإنسانية النبيلة والمثل العليا، لا أن تقتصر نظرته للتراث على أنه مادة خام تنتمي إلى الماضي الذي انتهت وظيفته. وفي نصوص «هيهات» جمع القاص بين المصدر القرآني والتراث الأسطوري، والغاية المتوخاة من هذا التوظيف هي خلق نوع من التجانس بين الموضوعية التاريخية والمادة التراثية ليقدم لنا المبدع نصوصاً لها ما يؤهلها للتعبير عن فلسفته الفنية. وفي ضوء اختياره للفن القصصي عالما للإبداع، استند محمد الشايب على عدد من المرجعيات الفكرية والجمالية النابعة من التاريخ العربي بشكل خاص، حيث وظفها توظيفاً دلالياً محاولاً إعادة قراءة التاريخ الإسلامي في سبيل قراءة الذات التي تكابد لواعج المعاناة والألم في العصر الراهن. الهوامش هوامش 1 محمد الشايب، هيهات: محموعة قصصية، التتوخي للطباعة والتشر والتوزيع، الرباط، ط.1، 2011. 2 محمد الشايب، قصة ريح يوسف، ص. 05- 06. 3 – نفسه، ص. 05. 4 – نفسه، ص. 05. 5 – نفسه، ص. 07. 6 – نفسه، ص. 07. 7 – محمد الشايب، قصة شجرة التفاح، ص. 29. 8 – محمد الشايب، قصة نرجس، ص. 15. 9 – محمد الشايب، قصة هيهات، ص. 11.