اعتبر كثير من النقاد أنّ كتاب غي ديبور الذائع الصيت «مجتمع الفرجة»، وكتاب «البؤس في أوساط الطلاب» لمصطفي خياطي، و»بحث في فنّ العيش إلى الأجيال الجديدة، لراوول فانيغيم الموجّه للشبيبة العالمية الصادر سنة 1967، هي الكتب الثلاثة التي كان لها الأثر الأكبر في تبلور أفكار الحرية الشاملة. بل ذهب البعض إلى القول بأنّها هي التي أشعلت فتيل الثورة الطلابية التي اندلعت سنة 1968، والتي شارك فيها فانيغييم بكلّ حماس مع حركة»مبدعي الأوضاع»التي كان من أبرز وجوهها حتى انفصاله عنها سنة 1970. راوول فانغييم مؤرخ أديان متخصص في القرون الوسطى، لكنه كان شديد الالتصاق بقضايا عصره وهمومه، إذ توجّه سنة 1995 إلى الشباب مرّة أخرى في كتاب تحت عنوان «إعلام إلى تلاميذ المدارس والمعاهد»، حاول أن يدقّ فيه ناقوس الخطر لما ينتظر التعليم بعد نشر اللجنة الأوروبية لتلك المذكرة حول التعليم الجامعي التي طلبت من الجامعات التصرّف كمؤسّسات محكومة بقانون السوق التنافسيّ، وهو ما عارضه فانيغييم ونبّه لما يترتّب عنه من شرور. في 2003 أصدر «لا شيء مقدّس، كلّ شيء قابل للمناقشة، تأمّلات حول حرية التعبير»، مؤكّدا عدم وجود أيّ استعمال قبيح أو مضرّ لحرية التعبير، وإنما استعمال غير كاف فقط. لا يرى حدودا لحرية التعبير؛ فهي في نظره خاصية أساسية للنوع البشري. كان شعار الفيلسوف البلجيكي «التربية من أجل الحياة»، لذلك اهتمّ بالطلاب واعتبر المدرسة، والعائلة، والمصنع، والثكنة، والسجن وأحيانا المستشفى؛ هي الممرّ الحتميّ الذي يسلكه المجتمع السلعيّ ليغرس قيمه الاستهلاكوية للسيطرة على مصائر الأفراد من أجل تأبيد مصالحه. يطرح «بحث في فنّ العيش» السابق ذكره أهمّ مبادئ حركة مبدعي الأوضاع situatinnistes كرفض مجتمع الاستهلاك رفضا جذريا، ذاك المجتمع الذي يرعى كلّ أشكال القهر الاجتماعيّ، سالكا طريق التأحيد والاستنساخ. في متن الكتاب دعوة إلى النضال من أجل تحرير الإنسان ودفاع مستميت عن البيئة. يستمرّ في «كتاب الرغبات» الصادر سنة 1979 في دعوة الناس إلى المتعة الشاملة، المجانية ليتجاوزوا إلى غير رجعة الحضارة السلعية الآفلة في نظره. من بين أكثر من عشرين كتابا نشرها راوول فانيغيم، يبقى «كتاب الرغبات» أهمّ أعماله في نظري، ليس بسبب كتابته الأنيقة والشهوانية فحسب، بل لما يطرحه من أفكار تمجّد الجمال، وتناضل من أجل عالم خالٍ من العنف ومن ديكتاتورية التبادل السلعي. فضح فانيغيم في هذا الكتاب مكر النظام السلعيّ وكيف يخصي الرغبات بطريقة ناعمة، وكيف يصل في مطاردتها إلى أعمق أعماق الفرد. يكنس الكتاب تلك النفايات التي تعرقل مسيرة الوجود ويفتح شهية البحث عن بدائل أخرى، لكن بعيدا عن وهم المستقبل الورديّ، وبعيدا عن أيّ حنين إلى عصر ذهبيّ مفترض. في النصّ إعلاءٌ من شأن الذات الراغبة، وإشادةٌ بمجانية اللذات، إذ أنّ الاستمتاع يعني القضاء على كلّ أشكال الإجبار والإرغام والتبادل، فالتمتّع يستلزم نهاية الشعور بالذنب، وبالتالي نهاية المجتمع القمعيّ برمّته. وهكذا يبلور مع مرور صفحات هذا الكتاب نقدا راديكاليا للمجتمع الرأسماليّ، منطلقا من تحليل «التلذّذ». الكتاب دعوة إلى استرداد الفرد لمساحات من حياته اليومية، وتحريرها من هيمنة النسق السلعيّ، كي يتعلّم اكتشاف وتفعيل رغباته ثمّ المقاومة من أجل تحقيقها، ولكي يكون الفرد هو المهندس الدائم والوحيد في بناء حياته. لا ينبغي انتظار انتصار ثورة مفترضة، ربّما لا يأتي مساؤها العظيم أبدا، فقد أثبتت التجارب إمكانية أن يتحرّر الناس إن رغبوا، حتى وإن كانوا محكومين بأسوأ الأوضاع. لا بديل في رأيه عن المطالبة بالانتماء إلى إنسانية متحرّرة جذريا. يكتب متألّقا أنّنا « لا نرضى بعالم تكون فيه المخاطرة بالموت مللا، ثمنا ندفعه كيلا نموت جوعا». لا للاستلاب المُكيّف ! ينبغي تعزيز إرادة الحياة في نظر فانيغييم وليس الاكتفاء بالمحافظة على البقاء. ليعش الإنسان طالما هو حيّ. يواصل في «نحن الذين لا تُحدّ رغباتنا»، الصادر سنة 1998 تحليله النقديّ للمجتمع السلعيّ الذي ينفث أنفاسه الأخيرة في نظره، ويتطلّع إلى انبثاق مجتمع جديد، حيّ، ينهض على أنقاضه، يظهر فيه اقتصادٌ بديلٌ آخر يكون مبنيّا على طرق إنتاج إنسانية تعتمد الطاقة المتجددة غير الملوِّثة للبيئة. يكتب في مقدّمة الكتاب؛ «نحن أبناء عالم مُخرَّب، نحاول أن نولد من جديد في عالم ينبغي إبداعه. الراديكالية الوحيدة هي أن نتعلّم أن نكون بشرا». في كتابه «من أجل إلغاء المجتمع السلعيّ واستبداله بمجتمع حيّ» الصادر سنة 2004، انتقد تقاعس المنظمات الدولية؛ كمنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، أمام الجشع الرأسماليّ للسياسات الوطنية، مشيرا إلى أنّ البحث الحصريّ عن الربح من طرف الحكومات يؤدّي حتما إلى تراجع الحضارات، ويقترح مجموعة من الإجراءات الاجتماعية، البيئية، الطاقوية، والمالية الكفيلة بإعادة الأخلاق والوعي المواطني. كلّ كتابات غانيغييم تصبّ في مصبٍّ واحدٍ هو تسليحُ الإنسان بوسائل نقدية يواجه بها حضارة السلعة، ومن أجل إبداع مشروع حياة يليق بسموّ الجنس البشريّ، وضمان حقّه في ذاتية شعرية ومتعوية شاملة. لم يكتف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان المصادق عليه سنة 1948، فأصدر «إعلان حقوق الكائن البشري» سنة2001! وتجاوزا للأمميات السابقة حاول التنظير لأممية بديلة في كتاب أسماه «من أجل أممية للجنس البشريّ». لا نستغرب أن يكون من أتباعه اليوم كثير من الخُضر والمناضلين ضدّ الأغذية المعدّلة وراثيا، وعلى وجه الخصوص عدوّ ماكدولاند، الناشط الفلاحيّ المعروف عالميا جوزي بوفي، الفائز بمعيّة زعيم حركة 1968 كوهن بينديت في الانتخابات الأوروبية الأخيرة متفوّقا حتى على الحزب الاشتراكي الفرنسي العتيد. تكمن قيمة فكر غانغييم في تلك البهجة السلمية التي يمارس بها فعل التفكير والتفلسف، فعلى الرغم من جذرية نقده، فهو لا يدعو إلى عنف أو ثأر بل إلى حركة إيجابية تبنى على التضامن يمكن أن تنهي عصر «الإنسان ككائن اقتصادي» وتفسح المجال إلى كائنات إنسانية لا تنتمي سوى إلى نفسها، متصالحة مع رغباتها، مبتهجة، ومتمتعة بذواتها.