ونحن نطوي المسافات تاركين وراءنا أحلاما تتطاير هنا وهناك بمدينة ابن جرير لمعانقة الأمل والغد بكل ثقة، ومصادرة كوابيس العتمة المحلقة فوق سماء مدينة مسجونة في تاريخ. الحساسية كنا دائما نحس أن الفضاءات الفسيحة للدواوير المجاورة ملاذا للهاربين من جحيم المدينة وللباحثين عن الفردوس المفقود وعن الحياة المثالية التي ترويها لنا قصص التاريخ وحكايات الجدات عن الخيرات الوفيرة وعن سحر الطبيعة ودفئ وحميمية العلاقات الإنسانية. كنا نخال أن مشكلاتنا المتعاظمة بالمدينة أخف وأهون من حالات معزولة لا تحتاج إلى كل تلك البرامج الاستعجالية والطابع الاستثنائي وتقتضي من كل مؤسسات الدولة خلع جلباب الوهم وقناع الزيف، لتجابه أعتى معضلات الإنسان وأعقد ملفات التنمية البشرية. وكلما زحفنا رويدا رويدا للحدائق الخلفية للواجهات المنمقة بمساحيق المعلبات المستوردة، اصطدمنا بالفارق الذي يصنع المستحيل.... دواوير معزولة عن الحد الأدنى من الشروط الإنسانية الأساسية والبسيطة، مقطوعة من شجرة المفاهيم التي تدبج كل المواثيق الدولية والتي تصدح بها أصوات السياسيين في قبة البرلمان وفي ردهات الوزارات وفي القاعات والصالونات المكيفة وفي كل المنتديات التي تحتضنها قصور المؤتمرات. استحضرنا كل الشطحات الانتخابية التي تملأ الدنيا صخبا، واسترجعنا لحظات التجاذب والمد والجزر والتي تغرق الناس في بحور التطلع إلى حد التخمة، وتسبح بخيالهم إلى عوالم المدينة الفاضلة واليوطوبيا، فعن أي جماعة غدٍ كانوا يتحدثون؟ الجماعة التي تجعل من رؤسائها ملوكا إذا دخلوا قرية أفسدوها، أو الجماعة التي تصفي الحسابات الانتخابية الضيقة لتنعم على المحظوظين وتقصى وتنبذ المغضوب عليهم، تغدق بسخاء حاتمي على المريدين وتعاقب الخصوم السياسيين... معاناة لا تنتهي... في أول دخول رسمي لنا لتراب الجماعة، كانت كل المؤشرات توحي أن الصور الذهنية التي نحملها عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في تورابورا وقندهار والقرى النائية للدويلات المهمشة، هي تلك التي نراها بأم أعيننا في وطن الضفتين القريب من أوربا على بعد أميال فقط؟ لهيب القيض لم يمنع سكان دوار ايت طالب للخروج من أجل البوح والمكاشفة، كانت شهاداتهم ناطقة وصادقة وعارية من أي تغليف معرفي أو فلسفي... تحدث الأول تلو الأخر عن الغيض الذي يعتصر صدرهم ..كانوا يناجون الزمن من عطاء الطبيعة والذي لم يتبدل تبديلا، وبأوداج منتفخة عبروا عن الخصاص المهول في كل شيء، في الطاقة وفي الماء وفي التطبيب والتمدرس والطرق، فأصحابنا لا ينطقون عن الهوى... فتجاعيد الزمن المكسوة على جبينهم والمفارقات الصارخة بين بصيص الأمل هنا ونفق مسدود هناك أخرجت المارد من قمقمه ليصرخ في وجه واقع ظالم تنقرض فيه أبسط شروط الحياة الكريمة إلى حد التلف !!فرب قائل عن رئيس الجماعة «الخاطر ما تخسر والغراض ما يتقضى» وآخر ثائر من نقطة قصية وسط حشود غفيرة «أدي واخا وجيب نسيت». وبدفق الأصوات الغامرة، كنا نسمع الاحتجاج من كل فج عميق، من مغرب الأعماق كانت الصيحات متواترة، ومن سجن الآهات كان سكان دوار «القسيمات» ودوار «العرب» ودوار «الكعيدة» يفرغون ويصبون جام غضبهم على الخُشب المسندة التي أوكلت لها المسؤولية، كانت عربدتهم عارمة ويهم يلعنون التقسيم الإداري الذي لم ينصفهم، فهم يقولون بأن جنة دكالة على مرمى حجر وتنمية دواويرهم على حبل الغارب... الغصة المنحبسة في حلقهم، لماذا يتم تأهيل دوار «الطرش» الذي يقطنه رئيس الجماعة وعلى جميع المستويات حتى يصير مجالا ينعموا بكل شيء «اذهبو، وانظروا البون الشاسع الذي يوجد بين دواويرنا ودوار رئيس الجماعة، فهناك سوف تلاحظون كيف تغيرت هناك الأشياء بقدرة قادر». مشاهدات حية ولحظات مؤثرة عشناها مع سكان جماعة أيت الطالب ...ساكنة تحتج على خزانات الماء التي تم صرف اعتماداتها ولكنها بدون أن تجود بماء صافي ونقي، آبار تم حفرها وسرعان ما تم إغلاقها، المدرسة التي لا تفتح أبوابها أمام المتمدرسين إلاّ صباحا وتستقبل جميع المستويات حتى السنة السادسة، وثمة شكوى من أستاذ لم يلتحق لمدة طويلة. لينشر شيخ طاعن في السن وبوجه قمحي، كل الغسيل على أحبال المكاشفة» إذا لسعتنا العقارب متنا، وإذا حبلت بناتها وزوجاتنا وضعنا أيادينا على قلوبنا ننتظر الفرج من عند ربنا، إذ كيف السبيل لوسيلة نقل إلى المستشفى المحلي بمدينة ابن جرير والتي تكاد تكون منعدمة، ومن يراقب حالات الوضع ومن يتابع الحالات المستعصية، فنحن معزولون في هذه الواحة من صحراء اللامبالاة وصيحاتنا في براري ولا حياة لمن تنادي..». وفي لحظة ضغط على الكلمات وتأكيد على الحقائق والواقائع يستعيد أهالي دواوير أيت الطالب محطات تواصلهم مع برلمانيي الدائرة التشريعية لرحامنة، وبذاكرة متورمة يسترجعون التحول الثوري الذي بشر به السيد فؤاد عالي الهمة إبان حملاته الانتخابية الشهيرة. ويروي لنا أحدهم أن الحسرة تستبد بقاطني دواوير هذه الجماعة المحرومة من كل شيء «فحتى الصحراء اليوم أهاليها يستفدون من المواد الأساسية ومن البنيات التحتية ويحظون بكل فرص العيش الكريم، أما في صحرائنا آدم مرّ من هنا البارحة فقط، وسيزيفنا يحمل صخرة الواقع بدون جدوى، والناس ينتظرون غودو الذي لن يأتي أبدا». إشارات ورسائل كانت الشهادات التي استقيناها مفعمة بالمرارة، فجاءت منهمرة من شلال النفسيات المهزوزة ومتدفقة من صنبور الواقع الآسن الحابل بالمتناقضات. فقد آثر الرجال كما النساء أن يبعثوا بإشارات ورسائل إلى كل الذين يهمهم الأمر من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فمنهم من اختار وجهة المؤسسة البرلمانية لعناية مركزة لجسم جغرافي أصابته كل الأمراض المزمنة، ومنهم من يعقد كل الآمال على مؤسسة الرحامنة للتنمية المستدامة لإصلاح ما أفسده الدهر!! كما يظل الأمل الوحيد المعبر عنه من خلال ارتسامات الناس هو إحداث عمالة إقليم الرحامنة «ننتظر من العامل الجديد زيارتنا والوقوف على كل مشاكلنا، ونتمنى أن ينصت إلينا عن طريق اللقاءات التواصلية المباشرة، والواقع الذي نعيشه بكل صوره الكالحة يبث بالواضح والمباشر والمرموز سيناريوهات حياة بئيسة...!».