صورة تمثل غلاف الكتاب ألبير كامو (ألبير كامو )، كاتب فرنسي الجنسية، وجزائري المولد، قد جاء إلى الوجود بمدينة (مُندوفي )، الدرعان، بالجزائر اليوم، سنة 1913م. وينحدر نسبه، من أب،أصله فرنسي، وأم تنتمي لأصول إسبانية، من المستوطنين للجزائر. ولقد نشأ في أسرة فقيرة، كانت الأم فيها نصف صماء، وكان زوجها، قد توفى عنها، في الحرب الأولى. وكانت أمها، أي جدة الكاتب، هي المديرة لكامل هذه الأسرة، بالإضافة لأخوين. ونشأ الكاتب، وأصبح عبقرية أدبية. لقد اشتغل خلال حياته، بالصحافة النضالية، كما اشتغل بالأدب والمسرح، والفلسفة. ولقد كانت فلسفة الوجود الظاهراتية، بداية قلقه الفلسفي، حتى نعت، بالفيلسوف الوجودي. ودخل إلى المعسكر الشيوعي، ليخرج منه مباشرة. إذ انتقد بهذه المناسبة، كل من التيارين: الوجودي والشيوعي. وتجاوز الحرب الثانية، ومنح سنة 1957م، جائزة نوبل، لأعماله الإنسانية. ولم يغفر له، موقفه الغامض والملتبس، (بين – بين )، من القضية الجزائرية. وتوفي في حادثة سير سنة 1960م. وننبه القارئ، بأننا لم نتوخ من هذه المقدمة، سوى تقديم، نبذة مختصرة عن الكاتب، تاركين للقارئ، حرية الرجوع، إلى كامل المصادر المتعلقة بتفاصيل حياته. وَجْهُ المَكانِ وعَكْسه (ألبير كامو )، الأديب الذي يقال عنه، بأنه جاء مبكرا ورحل مبكرا. وهو يعد، من رواد الأدب الإنساني، والعالمي. له عبقريته الأدبية، له مواقفه النضالية، وله بساطته، التي بقيت الناطقة عن تواضعه، من بعد رحيله. لقد أبدع الكاتب، في ميادين أدبية شتى، باستثناء الشعر. ونذكر منها على سبيل المثال: في القصة، والرواية، والمسرح، والدراسات النقدية، والأبحاث الفلسفية، والمقالة الصحفية، والحوليات التاريخية. وهو الأديب المحظوظ، الذي أخرجت له مؤخرا، مذكرات مجهولة، نشرت لأول مرة سنة 1995، تحت عنوان (الإنسان الأول )، وجاءت من بعد موته، في حيوية أدبية أدهشت فعلا، عددا كبيرا من المشتغلين، في مجال الدراسات السّيرَذاتِيَة. ونحن في هذه الدراسة البسيطة، لن نتناول مجموع إنتاج الكاتب، كما لن نتناول، تفاصيل مراتب حياته. بل لقد وقع اختيارنا، على كتيب نادر ونفيس، قررنا أن نقرأ من خلاله، التجربة الأدبية لدى (ألبير كامو ). وهذا الكُتَيِّب كان أول ما صدر للكاتب، تحت عنوان (الوَجْه والظَّهْر ) وهو يومئذ شاب، لم يتجاوز 23 سنة. ولأسباب خاصة بالكاتب قد نذكر بعضها، رفض أن يعيد طبع الكتاب، محتفظا بالأعداد القليلة، التي نشرت منه آنذاك. وظل هذا الكتاب مجهولا لدى عدد كبير من القراء، لغاية إعادة طبع بعض النسخ منه، في السنوات الأخيرة. ويقع الكتاب في 111 صفحة، تحتل المقدمة منه 24 صفحة، ويتوزع الباقي، على خمسة عناوين: (السُّخرِيَّة )، (بين نعم ولا )، و(الموت في الروح )، و(محبة الحياة )، و(وجه المكان وعكسه ) تشكل فيما بينها، خمسة محاولات،أي مشاهد سيرَذاتِيَة، مقتبسة من صميم حياة الكاتب.
المُقَدِّمَة ويمكن أن نحقق في هذه المقدمة، تلك الفقرة الرائعة، التي تلخص، مجمل تجربة الكاتب الحياتية، بل الأدبية. ونقصد مشروعه الكبير، الذي ابتدأه، ولم يتممه، بسبب الموت المبكر الذي فاجأه. ويقول عن هذا المشروع، بأن تصوره له، كان على الوجه التالي:" لقد أردت مبدئيا، أن أعبر عن النفي. وذلك عبر ثلاثة أشكال. الشكل الروائي: فكانت روايتي (الغريب ). الشكل المسرحي المأسوي: فكانت مسرحية، (كالي ڭولا )، و(سوء التفاهم ). والشكل الإيديولوجي: فكانت أسطورة (سيزيف ). ثم ارتأيت الجانب الإيجابي، وتصورته هو الآخر، على ثلاثة أشكال أيضا. الشكل الروائي: فكانت روايتي (الطّاعون ). الشكل المسرحي المأسوي: فكانت مسرحية (حالة طوارئ )، و(العادلون ). والشكل الإيديولوجي: (الإنسان المتمرد ). ثم إني وضعت في تصوري، طبقة ثالثة، محورها الحب." لكن حادثة السير التي راح ضحيتها الكاتب في سنة 1960 حالت دونها. ويعترف الكاتب في مقدمته، التي يبرر فيها، عدم رغبته ورضاه، عن إعادة نشر الكتاب قائلا، بأن هذا الكتيب، يمثل لديه شهادة أدبية، لا تعادلها أية شهادة أخرى، لأنه يتضمن أجمل ما كتب. ويضم بين دفتيه أروع لحظات الحب، الذي يسميه بالحب الحقيقي، والذي ستأتي بقيته موزعة فيما بعد، في كتبه اللاحقة. وهو من جهة أخرى غير راض عنه من الناحية الفنية، لأنه حسب موقفه منه، هو كتاب شاب، لم تكن قد اكتملت لديه، التجربة الأدبية، كما أصبح ينظر إليها فيما بعد. وهو يعده مع ذلك منبع إلهامه، وروح فلسفته، وتجربته الإنسانية. وحسب تصريحه، يقول:" إن كتابي (الوجه والظَّهر ) تكمن منابعه عندي، في عالم الفقر والضياء هذا، حيث عشت طويلا، وحيث حفظتني الأقدار، من الخطرين، اللذين يراودان نفس كل كاتب، وأقصد خطر الاعتزاز بالنفس، وخطر الرضا عنها." و يتابع قائلا بأن الفقر الذي نشأ فيه، لم يكن بالنسبة له قط، مصدر تعاسة وشقاء، لأن الضياء، كان يعكس غناه عليه. وهكذا يرى (ألبير كامو ) بأنه قد وجد نفسه، في منتصف المسافة الفاصلة، بين البؤس والشمس. وبأن البؤس قد منعه من الاعتقاد، بأن كل شيء، جميل تحت الشمس، وفي التاريخ البشري. وبأن الشمس قد علمته، بأن التاريخ ليس كل شيء. وهكذا صار عما هو عليه. لقد أصبح، بفضل هذا التوازن الذاتي، قادرا على الخوض في تجربته الوجودية، كاختيار له معناه، أهدافه، وفلسفته العميقة. وهو حين يتكلم عن الشمس، يقصد موطن نشأته، الجزائر، بكل ما تحمل من معني. ويقول بهذا الخصوص:" في أفريقيا، لا تكلف الشمس، ولا البحر شيئا. والحواجز تتواجد بالمناسبة، في الأحكام المسبقة عليها، وفي البلادة". ويقول في هذا السياق، كونه قد نشأ معوزا، في حي فقير، ومع ذلك، لم يعرف، ما معنى الشقاء، حتى رآه في الأحياء السكنية الشعبية، بضواحي باريس. بل، حتى أقصى ما يمكن، أن يصله البؤس العربي، وشقاؤه، لا يمكن مقارنته تحت سمائه، بذاك الواقع المقرف، تحت سماء باريس. وبمجرد ما يرى المرء، تلك الضواحي الصناعية، حتى يشعر، بأن النجاسة قد أصابته، وبأنه قد دُنِّسَ للأبد. وبهذه الصدد، يعود الكاتب بذاكرته، للأحياء العربية، التي ما زال حبها، عالقا بشغاف قلبه. يعود نوعا ما، لأنه بالرغم من ترحيله، من الجزائر، من قبل سلطات الاستعمار آنذاك، بسبب موقف دفاعه، عن مسلمي البلد، فإنه ظل طوال حياته حاضرا فيه، كبلده الأصلي. السُّخْرِيّة تتلخص هذه المحاولة السّيرَذاتية، التي أدرجها الكاتب، تحت عنوان (السُّخرية )، في ثلاثة مشاهد متداخلة، ومكملة لبعضها بعض: مشهد جدة مسنة، مشهد جَدّ عجوز، ومشهد عائلة بئيسة. ويقابلها الوجه المضاد المتمثل في: حيوية الشباب، الحياة الجميلة، وكل ضياء العالم. فنحن أمام عملة ذات وجهين متضادين. فبخصوص المقطع الأول، يقدم لنا الكاتب، صورة عجوز مقعدة، تداعب بين أناملها مسبحة، في انتظار مجيء ملاك الموت. لكن شابا، كان مدعوا للعشاء، عند ابنتها، تفطن من بين جميع الحضور، لهذه العزلة الوحشة، وهذه السخرية الداخلية، التي كانت تكتنفها وتسيطر على مشاعرها. وحين قدم موعد الذهاب إلى السينما، انصرف الجميع، باستثناء العجوز، التي لم يكن بالإمكان حملها، بسبب شللها النصفي، الذي كان يقعدها. وخرج الجميع، وبقيت العجوز، وكأنما قيل لها :" الآن وقد انصرفنا، بإمكانك أن تلاقي قدرك". وهذا ما تفطن له الشاب داخليا، فشعر بوخز ضميره، قد بدأ في تأنيبه، بسبب تخييب ظنها فيه، هو الذي كانت العجوز، تعتقد فيه، مخلصها الوحيد، من عزلتها القاتلة. ومن الخارج توقف متطلعا بنظره نحو "عين النافذة السواء"، فقالت ابنتها وقد فهمت قصده:" إنها تطفئ الأضواء دائما حين تكون لوحدها. إنها تحب المكوث في الظلام". ثم يلي هذا المشهد، صورة جَدّ عجوز، وقد أصبح، مثله مثل الجدة، قاب قوسين أو أدنى، من قدر الموت. ولقد تمكن الكاتب، من عرض صورته المسنة، وقد أصبح عبارة عن مهزلة، في أعين الشباب الدائرين به. ولقد استطاع الكاتب بالفعل، أن يقدم صورة حية، عن الفوارق الزمنية بين الجيلين، وعن السخرية العابثة، التي استقرت بينهما. عن الجيل المسن، الذي هو على وشك الرحيل. وعن الجيل الصاعد، الذي لم يعد يولي، أي اهتمام، لا لتضحيات هذا الأول، ولا الولاء له. ثم المشهد الثالث، في صورة عائلة، تتكون من جدة متعبة، وابنها الأصغر، الذي لا يتكلم إلا نادرا، وابنتها المصابة بالصمم، وطفلي هذه الأخيرة. وكل هذه اللوحات العائلية، تمثل في الحقيقة، الوسط العائلي للكاتب. والأساسي في هذه الصورة العائلية، هو تلك اللعبة العاطفية، الدائرة سرا وضمنا، بين الابن الأصغر وجدته. وهو من ناحيته لم يكن في طبيعته، أن يمنح حبه، لأنه واجبا عليه. وهذا ما تفطنت له الجدة، وعبر عنه الابن قائلا:" يوم دفنها فقط، حين انفجرت الدموع من حولي، حينها بكيت، خشية أن لا أكون صريحا، وأن أكذب أمام الموت". وبإمكاننا الآن، أن نلخص هذه المشاهد الثلاث، في الفقرة الأخيرة التي ختم بها الكاتب هذا الفاصل، حيث يقول:" ألا يتصالح كل هذا؟ مع الحقيقة الجميلة. امرأة نتركها لنذهب للسينما، عجوز لا نستمع إليه، موت لا يجلب لنا أي شيء، وبعدئذ، من الناحية الأخرى، كل ضياء العالم. ماذا كان سيحصل يا ترى، لو أننا قبلنا بكل هذا؟ فالأمر يتعلق، بثلاثة أقدار متشابهة، ومع ذلك مختلفة. قدر الموت على الجميع، ولكن لكل ميتته الخاصة به. على كل حال، فإن الشمس تدفئ، مع ذلك، عظامنا". بَيْنَ نَعَمْ ولا أما هذه المحاولة الثانية، التي عنونها الكاتب، ب(بين نعم ولا) ، فإنها تستهل بهذه الفقرة الرائعة للكاتب حيث يقول:" إذا كانت الفراديس الحقيقية، هي تلك التي أضعناها في الحقيقة، فإنني، أعرف كيف أسمي، هذا الشيء الوديع، واللاّ إنساني الذي يسكنني اليوم". وهو يقصد بهذا الانفعال، وهذا الشيء الداخلي، ذاك الإحساس الما ورائي الرهيب، الذي يربطه باللاّ متناهي. فهو لا يعني ذاك المضاد، أو الخالي من الإنسانية. وإنما يقصد، ذاك الإحساس الرائع، الذي يقع خارج حدود إدراكها. ويشير في هذا السياق، إلى نفسه، كالغريب العائد إلى وطنه، من بعد غيبة طويلة. كالعائد من مكان الغربة، إلى تراب الوطن الأم، الجزائر. و يقول بهذا الخصوص:" وهكذا كان هذا المساء، في هذا المقهى العربي، عند أقصى المدينة". فطفولته الحقيقية، وإحساسه الحقيقي، ما ظل عالقا هنا، بهذه التربة العربية، بشمسها، وشايها المنعنع، وعطور لياليها المتوسطية، الصافية. وهو حين يصف حركات تنفس، القهواجي العربي، ذاك الجالس القرفصاء في العتمة، قبالته، في الركن القصي من المقهى، يشعر بالسعادة. يشعر حسبما يقول، وهو يفكر في ضجيج البحر، المتناهي إليه:" بأن البحر يتنهد نحوي، في إيقاع طويل، حاملا إليّ اللامبالاة، وسكينة الأشياء التي لا تموت". ثم ينتقل بنا من جديد، إلى مشهد الأمومة، ليصف لنا تلك الأم الحزينة، والمصابة بعاهة الصمم، والتي كانت نادرا ما تتكلم، إنها أمه. هذه الأم، التي مات عنها زوجها، مصابا في إحدى المعارك. والتي بقيت مع أمها العجوز، حاضنة لأولادها، تنتظر في حالة بؤس، ولكن لا أحد يدري ماذا؟ أما الكاتب من ناحيته، فأنه كان يسافر، بين كل مشاهد طفولته هذه، ليتوقف للحظة، أمام السماء الجزائرية قائلا:" إن المثلث السماوي، الذي كنت أرقبه من مكاني، كان عاريا من كل السحب اليومية. مفعما بالأنجم، كان يرتعش تحت نَفَس خالص، فيما كانت أجنحة الليل المزخرفة، تضطرب بهدوء من حولي". يحتل المكان فعلا، بوجهيه: العبثي كما الجمالي، في أدبيات (ألبير كامو )، مركز الصدارة، في تجربته الوجودية، الشيء الذي سنشير بنوع من الدقة، فيما بعد. ويشير الزمن من ناحيته، في هذه القرينة الثنائية، إلى ظاهرتي الفناء والتجدد. وهذا ما لمح إليه الكاتب ب(بين نعم ولا) . ثنائية الحضور والغياب. ثنائية الولادة والموت. ثنائية العبث والنشور الميتافيزيقي. ثنائية القلق والاطمئنان. ثنائية الذهاب والإياب. ثنائية الضياء والظلام. ثنائية التمرد والرضا بالقدر. باختصار، لقد كان الكاتب، في كل هذه الثنائيات المتضادة، يشعر بعالم ضياء، وراء هذا العالم العبثي، لم يكن في مقدوره، لا الإفصاح عنه، ولا التعبير عنه. وهذا بالذات، ما جعل الكثير من الباحثين، تنصيفه في خانة الوجوديين المتشائمين، والقلقين، والعبثيين. بينما كان ينتمي فعلا، إذا صح التعبير، إلى فئة الوجوديين المتفائلين. ونرى أن نختم هذه المحاولة، بذاك المشهد الحناني الرائع، الذي ساقه الكاتب عن نفسه، في شكل حوار مقتضب بين الأم وابنها:" - إذن أماه. - إذن، هكذا. - أما تشعرين بالقنوط؟ إنني لا أتكلم كثيرا. - آه ! لم تكن قط، من الذين يتكلمون كثيرا". المَوْتُ في الرّوح فقدان الأمل، هذه هي الترجمة الحقيقية، لعنوان هذه المحاولة الثالثة (الموت في الروح ). وتدور أحداثها في مدينة (براغ )، التي يروي الكاتب عن زيارته لها. ويحكي عن انطباعه السّفري، الذي خلفه فيه، هذا البلد الجديد، الواقع بأوربا الشرقية، قائلا:" كل بلد لا أشعر فيه بالضجر، هو بلد لا يعني لي شيئا". بالفعل لقد كانت رحلته هذه، من الرحلات المكانية المضادة، للأمكنة المتوسطية، التي يعتبر نفسه جزئا منها. لم تكن سوى رحلة روتينية، قال عنها، خلال اليوم الرابع من زيارته:" و بإمكاني أن أقول بكل صراحة، بأنه لم يبق لي من (براغ) سوى رائحة ثمرات الخيار، المغمسة في الخل، التي كانت تباع، في كل ركن من أركان الشوارع. هذه التي كان طعمها الحاد والقارس، يبعث في نفسي القلق، بمجرد ما أتجاوز عتبة فندقي." ثم في فندقه هذا، الذي كان نازلا فيه كشبح عابر، حصل له أن كان، شاهد عيان لموت رجل في غرفته، مهملا، منذ بضعة أيام. ولا أحد يدري بالتحديد، منذ متى توفي. كل ما في الأمر، أن خادم غرف الفندق، حين تفطن لغيابه، راح طارقا عليه بابه، وحين لم يستجب، كسر باب غرفته، ليجده ميتا. موت رجل مجهول، في عرفة مجهولة، في بلد يعبر أناسه، كالغرباء المجهولين. و بصدد هذه الحادثة، التي يصفها الكاتب، من زاويته هو، عند مدخل غرفة الميت، يقول:" لقد كان الظلان يتقاطعان، عند الزاوية القائمة. و ذاك الضياء المنبعث من هناك، قد روعني. لقد كان ضياءا حقيقيا. ضياء حياة حقيقية. ضياءا، يجعلنا نحس بأننا أحياء. أما هو فقد كان ميتا". ثم إن الكاتب قد تابع رحلته، ولم يشعر بعودة الحياة إليه، إلا حين كان على مشارف إيطاليا. أي حين دخل من جديد، إلى جغرافيته المتوسطية، حيث الضياء، والأمل، والبؤس، ولكن تحت سماء، لا تشبهها أية سماء دنيوية أخرى. وحين عاد في نهاية المطاف، إلى الجزائر، ولنتركه يكلمنا عن إحساسه، حين عودته إلى أرض طفولته:" في ضاحية الجزائر العاصمة، ثمة مقبرة صغيرة، ذات بوابة حديدية سوداء. وإذا ما تجاوزناها لغاية أقصاها، فإننا نكتشف السهل، في محاذاة الخليج. وبإمكاننا، أن نحلم طويلا، أمام هذا القربان، الذي يتنفس الصعداء مع البحر. وحين نعود على أعقابنا، نقف على شاهدة، لقبر مجهول، قد كتب عليها (تأسّف أبدي ). لحسن الحظ، أنه ثمة بعض المثاليين، لتسوية الأشياء". مَحَبّةُ الحَياة ليلة صيف متوسطية، في (بارما ) بإسبانيا. ليلة صيف غنائية، حول إيقاع راقصة أندلسية. هكذا يستحضر الكاتب، تجربة المكان في هذه المحاولة الرابعة:" لقد كان غناءًا أندلسيا، أغن ومتناغم الإيقاع". فعبر هذا المناخ الأندلسي، المستحضر في غناء الراقصة، ورقصتها ذات الإيقاع الثلاثي، راح الزائر محمولا، في فضاءات الأجواء المتوسطية الدافئة. ولهذا بالذات راح مصرحا فيما بعد قائلا:" لم يحصل لأي بلد قط، باستثناء البلدان المتوسطية، أن يحملني إلى أقصى درجات البعد، وإلى أقرب درجة من نفسي". لقد كان يستشعر، أمام هذا المظهر الروتيني، الخارجي للأشياء، مظهرا مكانيا معاكسا، يكاد يكون فجوة فردوسية لروحه القلقة. لقد كان قلقه الوجودي الحاد، كثيرا ما ينهار، أمام فتنة المكان اللاشعورية، فيستشعر حينها، بشدة محبته للحياة. ويقول في هذا السياق:" هنا كانت تكمن كل محبتي للحياة: شغف صامت، بالذي قد يفلت مني، حسرة تحت شعلة نار". ويستدرك من المقطع نفسه قائلا:" إنني معجب بإيجاد، على ضفاف المتوسط، قناعات وقواعد حياة، يرتاح لها العقل. قواعد هي المبرر لتفاؤلنا، وهي المعنى لكل ما هو اجتماعي. لأنه ما كان يصدم بالي في نهاية المطاف، ليس هذا العالم، الذي نتصوره على قياس الإنسان، وإنما ذاك الذي ينغلق على الإنسان". و بالرغم من كل هذا التساؤل الوجودي المحير، على غرار، تساؤل عمر الخيام في رباعياته، فإنه كان يتقاسم مع هذا الأخير، تلك اللذة الجوهرية، الكامنة روحانياتها، خلف مظاهر الأشياء. لذا يقول مستدركا:" ليس ثمة من محبة للحياة، دونما فقدان للأمل بها". ولقد كان بودنا، أن نضيف تعليقا إضافيا، لولا أن هذه الفقرة الأخيرة، التي يختم بها محاولته، قد عوضتنا، كل ما كنا نسعى إليه:" في هذه اللحظة الغسقية القصيرة، كان يخيم ثمة شيء كئيب، لا سبيل للإمساك به. والذي لم يكن محسوسا، لا للإنسان فقط، بل ولا حتى لشعب بأكمله. بالنسبة لي، كان في رغبتي أن أحب، مثلما هي رغبتنا في البكاء. لقد كان يخيل لي، بأن كل ساعة من إغفائي، هي ساعة ستسرق من حياتي...". وَجْهُ المَكان وعَكْسِه لقد كان بإمكاننا، أن نترجم عنوان المحاولة، ب(الوجه والظّهر )، أو (بالظاهر والباطن )، أو (وجهي العملة )، أو(بين بين ). غير أن اختيارنا، قد وقع أخيرا على هذا العنوان (وجه المكان وعكسه ). وذلك للدلالة العميقة التي يحملها. ومبرر هذه الدلالة، يتواجد طي الكتيب نفسه، الذي يجعل من ظاهرة المكان فلسفته الأولى. ويكفينا تبريرا، أن الكاتب نفسه يقول بهذا الخصوص، في هذه المحاولة الخامسة:" لقد كان ذلك، ظهر يوم من أيام يناير، الذي جعلني، أمام وجه العالم المعاكس". وهذه المحاولة الأخيرة، نعدها، ونعتبرها، من أجمل ما ورد، في هذا الكتيب. وهي تروي قصة امرأة، كباقي النساء، كانت تعيش حياتها كالمعتاد. وحصل لها ذات يوم، أن وقع عليها ميراث مالي ضخم، لم تكن تتوقعه، ولم يكن في حسبانها. وحصل عن طريق المصادفة أيضا، أن البلدية، قد عرضت للبيع، قطعة أرضية، تتواجد بمقبرة المدينة. وما كان من هذه المرأة، التي وقعت عليها، تلك الثروة من السماء، إلا أن اشترتها، وراحت بانية عليها، بيتا صغيرا، عبارة على سرداب قبري، لها هي. وراحت تلك المرأة، في زيارات يومية، مشرفة بنفسها، على كل الأعمال المتعلقة بقبرها، لغاية ما أصبح جاهزا. ولم تكن تلك المرأة لتنسى أهمية التفاصيل، بحيث أنها أمرت بنقش اسمها على القبر، بأحرف ذهبية. وهكذا انتهى بناء القبر، وظلت المرأة مواظبة على زيارته كل يوم أحد، وكأنها لم تعد تنتمي، لعالم الأحياء. وحدث لها أن قدمت ذات يوم، من أيام عيد الأموات (لدى النصارى )، فوجدت باقة ورد قد وضعت على قبرها، ترحما عليها. وكما يقول الكاتب بتعبيره هو:" لقد فهمت هذه المرأة، ذات يوم، بأنها قد ماتت، في أعين العالم". يسوق في خاتمة هذه المحاولة، قصة أخرى مشابهة. أي قصة ابنة، كانت تستشير أمها، التي كانت على وشك الموت، في تلبيسها لباس الدفن، لأنه أسهل لها، وجسدها بعد حي، من تلبيس جسد ميت، قد تشنجت أعضاؤه. ونترك للكاتب الكلمة الخيرة من هذه المحاولة، متسائلا عن الأسرار الخفية، التي تسير العالم:" إذا كان ثمة من قلق يطبق بمخالبه علي، فسبب شعوري بهذا القصور، الذي ينتابني أمام هذا العالم، الذي يسيل مثل الزئبق، من بين أصابعي. فاتركوا أولائك، الذين يريدون، أن يديروا ظهورهم للعالم. فأنا لا أشتكي، لأنني أرى نفسي تولد. و في هذه اللحظة، فإن كل ملكي، من هذا العالم. هذه الشمس، وهذه الظلال...فليس السعادة التي أتمنى الآن، ولكن أن أكون واعيا فقط". ونضيف هذه الفقرة الختامية، المتممة:" إذا ما حاولت أن أتفهم، وأن أتذوق رهافة هذا الطعم، الذي يسلم لنا، سرّ العالم، فإنني أنا نفسي، ذاك الذي أجد، في قرارات الكون. أنا بالذات، أي ما معناه، هذه الصدمة الانفعالية، التي تخلصني من الديكور". خاتِمَة لا بُدّ مِنْها "- هل بإمكاننا أن نتصور سيزيف سعيدا؟" هذا ما قاله الكاتب، ولماذا لا نتمم السؤال، من جهتنا متسائلين:" ولماذا رضي سيزيف بقدره، ولم يتمرد عليه؟" يكاد يكون هذا التساؤل، ملخصا لكل فلسفة (ألبير كامو ). فإذا كان بطل الميثولوجية الإغريقية، (سيزيف ) الذي حكم عليه، بأبدية الأعمال الروتينية الشاقة، قادرا على إدراك السعادة، في عبثيته. إذا كانت حياته من مبتداها على منتهاها، قد أصبحت معروفة عبثيتها الروتينية لديه، ومع ذلك لم يتمرد عليها. إذا كان بإمكانه، أن يترجم شقاءه الأبدي، إلى محاولة تفاؤل. فإن الإنسانية قادرة هي الأخرى، بالرغم من العالم المطبق عليها، أن تعرف السعادة بدورها. و التي قال عنها الكاتب:" العبث وليد مواجهة، ما بين صمت العالم اللاّمعقول، والنداء البشري،أي الوعي بهذا الانفصام، بين هذا العالم، والوعي البشري". ومن هذه المواجهة، التي يتحدث عنها الكاتب، يتولد التمرد. وهذا التمرد، هو الطريقة الوحيدة، لتقبل الحياة، في مظهرها العبثي. ونحن ندرك بشكل واضح، الخطوط العريضة لهذه الفلسفة، في طيات تجارب هذا الكتيب. وهي تُشَخّص بالمناسبة، تجربة الكاتب الذاتية، في مواجهة حتمية المكان. وهذه الفلسفة كلها، بإمكاننا اختصارها في المحاولة الأخيرة، في قصة امرأة. امرأة، تعيش حياة (سيزيف ) الروتينية. وبخلاف غيرها من النساء، وكغيرها من النساء، وقعت ثروة لا منتظرة بين يديها. فكانت بداية للثورة، ثورتها على الحتمية، وعلى النهاية المؤدية لحتمية الموت، والعودة إلى العدم. ولكنها ثورة روتينية، ولكن خارجة عن مألوف الثورات البشرية. تصوروا، امرأة، قد قررت فجأة، أن تعيش لموتها، وهي بعد، على قيد الحياة. تصوروا هذه الحياة، التي تعني السير، في عكس اتجاه القدر المحتوم، ستتحول إلى رمز،لانتصار المعقول، على اللامعقول المثالي. فالمرأة سَتُجَمِّل موتها، أتدرون لماذا؟ لأنها تعرف معرفة ذاتية، بأنه بعد الغلاف البشري، المكاني، ثمة جوهر عرفاني، بياني، جُوّاني، ينتظرها. فهذه المرأة، محكوم عليها سلفا بالموت. وهذه المرأة، قد أدركت روتينية العالم، وعبثيته. ولكنها ستتمرد عليه، ستتمرد على الموت، حين تتوجه إليه، وتحتويه بفرح كبير، في حياتها الواعية، وتقدم له حياتها الدنيوية، في مقابل يانصيب العدمية.. !