ثم صارَتْ المَدينة حديث أنفاق يَقضمُ أجنحةَ الوقتِ كمصيدةِ عَصافير صَدئة ... كلما سقطَ نهارٌ من جَيبِ السَّماء خلفَ الأفق ... وصارَتْ الوجوهُ أكفاً من حيرة تبحثُ عما سيَخرجُ من بَطن الأرضِ من حياة بديلة ... ثم صارَ النفقُ بوابة سفلية من مِلح ... تصلُ بين دمع منسي على الخارطة ووجهٍ يُعدَّ آلة الحفر لإصلاح خللٍ أصابَ الجغرافيا بالحصار وأبراجِ الحراسة ... ثم صارَ الوقتُ انتظارَ النهاية - البداية التي ستشقُ في عَصَبِ الأرض أنبوباً من قتلى ودواء وأحلاماً مرتبكة ... * * * هنا يتبدَّلُ الوقتُ فيما المكانُ يُشاكِسُ الزمن بمِعوَلٍ عتيق وفيما المدينة تهربُ من مَشهدِ البحر وغناءِ النورس إلى جُثةٍ أخرى في المَتاهةِ السفلية تبحث عن حزمةِ ضوءٍ وَهمي ... هنا صورتك الغامضة أيها الساكن فيَّ المشرعة على تفاصيل الدَّهشةِ والصَّمت ... هنا أنت ... في حِصار البَارودِ للوردِ المَنزلي وفي اختناق الدَّمعِ أمامَ احتضار العَصَافير ... * * * الوقتُ المجدولُ بجموح فِطري يذهبُ بك بَطيئاً نحو الأسفل فتكتشفَ عُريَ الأرضِ بارداً كطعنةِ ثلج ... حاراً كمسمار لهب لكنك تمضي بك ثقيلاً ... غير مطمئن لهذا الوقت المتأرجح فوقَ رأسِك كلمبةٍ هرمة ... كلما تضاءلَ الضوءُ الخارجي واحتضنتك العتمة كتابوتٍ من رَملْ ... -2- جسدٌ في التراب السري يشق لحمَ العزلة بحثاً عن حُقنةٍ مفقودةٍ في أروقةِ مستشفى وحبةِ دواءٍ ... ومحاق في ليلةٍ صيفيةٍ وباقةِ وردٍ وغاز للطهي وطحين ... وفرصٍ للنجاةِ من التباسِ المَعنى بين الحصار والموت ... هو البريدُ التائه بين شاهدتين في مقبرة يتأرجحُ بين النفس الأخير وبريقِ الخبز ملفوفاً في صرة قماش ... يقترب ... لكن تصدعاً يبدأ فوق الرأس وانهياراً حول الجسد ... فيقول: عُد يا أنا من ضِيق المكان ولا يَعدْ ... بل يمضي يغازلُ صورة في الذاكرة لرجلٍ عند الصَّباح يلبس ثوباً أبيض ويشربُ الشايَ مع كسرة خبز فيما الصغار من حوله يُعدُّون حقائِبَ المدرسة قبل الخروج من مشهد البيت ... * * * الوقتُ مُراوَغة العتمة في المَدى المُتبدل إلى عَرَقٍ وملح كلما غابَ جسدٌ وانتظرَتْ جنازة فيما الواقفون على حافة الصمت يتساءلون بريبة هل أنا الذاهبُ غداً؟ أنت؟ من سيُرافق من إلى البداية - النهاية؟ * * * يَسكنني الرُّعبُ كلما صَفعَني الكابوسُ بي ورأيتُ جسدي يهبط إلى الغامضِ الأسوَدْ فأصرخ: يأيها المولودُ من ضِلعي الأكثر ضعفاً حين صفعتني المرآة بوجهي الباحثِ فيَّ عن الدَّم - الدَّم ... تمهًّل ... لا تذهب بي إلى اختناقِك ... فقد يخونك الضوءُ كلما سافرتَ في جوفِ العتمة متراُ إضافياً وتساءلت: أيني؟ ويهربُ الهواءُ من رئتيك عائداً إلى فضاء البيتِ في الصُّور ... فيما أنت المُعلق بين غيابٍ مُعلن في الأسفل ... وجنازةٍ مؤجلة في انتظار إخراج الجثة ... -3- كأنها الطرقات ... مرايا الوقتِ العائدِ من نافذة الدَّم المشرعةِ على المفاجاة ... كلما قضمَ الحصارُ نشيد البلابل وخجلَ الأفقُ من صورةِ العصافير الجالسةِ على الأرصفة تبيعُ التبغ المُهرَّب ... هنا ... في هذا المدى الضيق يأخذك الوقت إلى بلاد سرية من الحاجةِ والخيانة ... فترى ثورة الدُّوري على السياج عفوية كحلم في رأس صبي يبحثُ عن شمسٍ مُستترة وراءَ الغيم وأفقٍ بلا رصاصٍ ورماد ... وترى ذئابَ المشهد تلتهمُ ثمرة قلبك المرتجف بنهم تُجارٍ مَوسميين ألقتهم الرِّيحُ في ثيابِ قراصنة * * * هنا أنت ... يا أنا الحائرُ بين الرَّصَاصةِ والرَّمل ... نلوكُ الوقتَ فيما الملح نابُ ذئبٍ وحشي يغوصُ في لحمِنا المُرتجف كلما انتبهنا للشظايا في سردِنا اليومي وانتبهنا للغياب فيما تركنا من أوقات الطفولة للصُّور ... كيف أقنعني بي؟ أو بك؟ ... كلما سَبقَ غرابٌ جنازة وسرقَ النفق جسداً واختنق صبي في الأسفل ... من سيقول لهذا الدم المختنق عُد من حيث جئت إلى ثوب أمك بهواءِ رئتيك أيها الدُّوري ... ليس الوقت ... هذا الوقتُ الذي يُبعثر ألوانَ الطيفِ وقتك ... ليس المكان ... هذا المكانُ الذي يقضمُ أجنحة العصافير مكانك ... فعُد إلى صباك مزهواً بك ... ولا تذهب بقدميك الصغيرتين إلى الأسوَدْ ... * * * هذا أنا - أنت أيها الغامضُ في المرايا الراكضُ فيَّ كبَرْق ... كلما صفعتني المدينة بصغار ذهبوا بعيدا في لهو الرَّمل قبل أن يخرجوا من الخوفِ السفلي بوجوهٍ غافية وأكفٍ تحتضنُ تفاحة وكرة قدم ... كأنك تحاولُ اقناعَك أننا هنا ... نرجمُ وجه العتمة بما لدينا من خبرةٍ في الصَّبر ... وترويض الشوك لكنك ترجمُ وجهَنا المُرتبك كلما ابتعدتَ عن صورتنا في المرآة وقلتَ أنا وحدي أول الكلام أنا المُبتدأ ... * * * هنا غزة بقايا البَحر قصيدة في العتمة ... ومركبٌ يقضمه صدأ اللحظة وشرفة تغالبُ النعاس في ليل المصابيح الميتة ... ومارة تركوا رؤوسَهم لدمع غيم أصفر جفَّ في حلق السماء كحزمةِ قش وبحثوا عما لديهم من ذكريات تصلحُ لترميم الوقت ... فهل اكتفيتَ بي وعُدتَ من تيهِ الترابِ السفلي ... بكل ما لديك من صور عائليةٍ وزنبق ... وحلم عتيق بأن تصبحَ ذاتك دونَ سياج أو هرواة ... * * * هنا تكتبنا الخسارة سوياً كلما انسحبَ ظلي منك أو هربَ ظلك مِني ... وصار الرَّملُ فضاءً سفلياً لعصفور الدُّوري الحائر فينا بين القبر والقبرْ ...