تجد الكتابة عن وفي السينما ضالتها حين تلتقي فيلما لا يكتفي بأن يكون مجرد شريط، بل يوفر تناغما إبداعيا في التفاصيل كما في المُجمل، وفي الفكرة الأصلية التي حددت منطلقه. “عرق الشتا” يحقق هذا الشرط فعلا. نحن أمام قدر سينمائي ينافح قدرا إنسانيا عميقا عنوانه المثابرة والتحمل ضدا على الألم والوجه والاستسلام، في هامش ليست البطولة فيه ملحميةً ومدويةً، بل هي فقط مسار عادي لحياة تحاول أن تنقد مسارها المعيشي بعيدا عن أي نزوع للصراخ والمجابهة أو رسم صورة ضحية بكَّاء. فبطل الفيلم “مبارك” فلاح بسيط بلا تاريخ، ولا يروم أن يصير حكاية متداولة. هو رجل وجد نفسه عاجزا عن سداد دين لبنك، ولا يريد بيع أعز ما يملك كما أوعز إليه البعض وعلى رأسهم ممثل السلطة محليا، لكي يرده ويهنأ ويريح ويستريح. أي بيع قطعة الأرض الفلاحية التي يملك، والتي أصابها عقم مديد، بعد أن انقطع المطر عن الهطول، وبرغم محاولاته السيزيفية لحفر بئر يمكن أن نجود بماء منقد. لكنه في صمته الطويل البليغ وضعفه البالغ يرفض. يعلن الرفض في صمت، تاركا لنظراته أن تعلن هذا الرفض، الفيلم هو جرد حثيثٍ ودقيقٍ وممتدٍ، حدَّ خلق التوتر عند المشاهدة للحظات الصمت البليغة. الفيلم كأي فيلم مُخرِجٍ يلعب على الصورة بالأساس، قبل الكلام الذي يلعب دور نقط الترقيم الموضوعة لتسيير مشاهد قوية بكاملها كوحدات شبه مستقلة، مثل فصول كتاب روائي. لكل فصل يمكن جعل عنوان فرعي له أحد الشخصيات الرئيسية التي تنتصب كل واحدة منها في زاوية من الزوايا الأخرى لهذه القصة الحزينة، حزن مأساة ينثرها مخيال ثر ومتوازن مع واقعية ما يطرحه. ذاك الذي يطلق عليه بانطباع الواقع، وهي ما تحققه أفلام مغربية معدودة على أطراف الأصابع. هناك الزوجة أولا “عايدة” التي تتبدى معادلا نسائيا للرجل مبارك، تسلك ذات خطة الصبر الثابت والمثابرة بدون نزوع للعب دور الضحية التي تشتكي تَحَامُل الزمن القاسي أو البشر المُتَجاهل. هما معا كزوجان يتصرفان ب”تعقل” من يؤمن بالعمل أولا قبل رفع اليدين إلى السماء للدعاء بالفرج والرضى بالقدر. شخصيتان رسمهما حكيم بلعباس من طينة الأبطال القدريين الذين يفضلان الذهاب أماما للمقاومة اليومية بما يوفره المحيط القريب. رعي شياه، جلب الماء من البئر، التعاضد والتعاون اللصيقين بروحيهما المضمخة بالبادية في كل ما تمنحه من شقاء كما ما تمنحه من ألق. والحق أن “عرق الشتا ” أفضل فيلم مغربي قدم لنا البادية المغربية في حقيقتها الصارخة الصادقة. في ضواحي مدينة أبي الجعد (منشأ المخرج وحاضرته التي حملها إلى العالمية بأعماله الوثائقية وهذا الفيلم التخييلي الرائق) تظهر لنا القرية والريف في أدق ما يكونهما من بشر وبهائم ودور واطئة وأراضي فلاحية ومن سلوك وتصرف وعادات مترسخة مكرسة تتوافق ومعيشهم، والكل متناغم متداخل ومتساوق العناصر. أضف إليها حِرْص المخرج على منحنا صيغتها مع كل رحبة زمنية، من الصباح إلى الليل مرورا بالفجر والغروب. وهو ما يجعل الشخصيات تجد نفسها رهينة الزمن الذي يزيد من التحكم في مصائرها، وليس ارتهانها للمكان وحده الذي يظل بسيطا متقشف العناصر المكونة له، بما أنه بادية فقيرة. الزمن هنا حامل للمعنى الخفي بما يخلفه من أثر. ويتجلى ذلك حين يقف المخرج ليلتقط شخصيتي الزاويتين الأخريين. والد البطل مبارك الفاقد للذاكرة، الصامت جل الوقت الذي يتحرك جسدا لا غير، غادره فعل الزمن فتحول إلى أثر حي يؤكد عبثية الجهد الجهيد بعد رحلة عمر. هو عنوان نهاية محتومة لكنها قُدمت بألق زاده أداء الرائد الممثل حميد نجاح إتقانا. يحادثه الإبن عن مشاريعه المصيرية ويساعده على أداء الصلوات. تقوم الزوجة بمساعدته على الاغتسال، ويطلب منه فلاح الدعاء له بالخير في فلاحته. إلى جواره ينتصب، كما لو في منتصف مثلث متلاحم في الأسى، ابن لخ فتىً معاق ذهنيا، لكن جعلته تربية والديه ومتطلبات العيش البدوي الذي يشتغل فيه كل الأفراد بدون استثناء عمر ولا جنس وصحة عقل، يرعى الخراف ويجلب الماء ويحرس الخيمة(المنزل) في غياب الوالد حين ذهابه البحث عن مال لرد الدين. والحق انها جرأة قوية هذه المتلخصة في تقديم شخصية حقيقية لأداء هذا الدور العصي. أيوب وهذا اسمه تجعله كاميرا المخرج يتجاوز المتعارف عليه، لكي يفعل كل شيء ويشعر بكل شيء. وهكذا نجد مبارك شخصاً أغرقه المخرج في لجة من العوائق من كل جانب، لكن في محيطه العائلي البسيط فقط، كما لو لكي يتجنب كل تفسير محتمل لما يعانيه قد يُظَّن أنه نابع مما يسمى “الظروف”. معاناة مبارك هي من صُلب الشائع الذي يعرفه كل زوج فقير، لكنها هنا رُفعت إلى مستوى التجربة الإنسانية الكونية. بفضل سينما القرب والغوص الباطني. سينما تعتمد على تقديم الصمت كما قلنا، في لقطات موحية بما تتضمنه من التقاط موحي وهادف يقول ويدل بدون ثرثرة ولا تكلف. سواء كانت مكبرة تمنحنا مشاغل الشخصيات الباطنية وقد اعتمدت في محياهم وتجسدتْ فيها. مسرح الحركة يتحمله وجها مبارك وعايدة إلى حد تعويض لقطات حركية مطولة ستكون بلا طائل. لا نستطيع معها سوى المسايرة والانخراط والتمتع. الإدارة التشخيصية واضحة. بموازاة ذلك مرر المخرج سلسلة طويلة من اللقطات الجامعة للجغرافية الطبيعية التي أبانت عن حس جمالي وتوظيفي موفق. المتعة حاضرة في عمق المأساة ككل إبداع : ليس الجمال في الأشياء كما هي ممنوحة، بل في طريقة تناولها وعرضها فنيا، رغم سوداوية الموضوع وحمولته المليئة بالشجن القوي. ولكي يؤكد هذا المعطى البائن أكثر، حرص المخرج على إلباس شخوصه/ممثليه أردية الواقع الذين ينتمون إليه. لباس الممثلين احترم لباس البادية المعروف، سحناتهم تكسرها تجاعيد الهم والتعب والشمس بالشكل الذي يُرى به في المناطق الريفية المغربية. هي سينما تراعي كل التفاصيل كما أشرنا. محلية بدون شوفينية، بل مرت في أتون الإبداع الذي يصاغ بالوفاء للموضوع المسرود وللناس الذين يتوق إلى نقل حكاياهم/حياتهم إلى الشاشة الكبرى بدون أدنى خلفية خارج ما هو خلق قطعة سينمائية أصيلة. لا نظننا نبالغ في تقدير ما يقدمه فيلم “عرق الشتا”. فاللحظات الأخيرة من معركة مبارك لتَحَصُّل المال من أجل افتكاك نفسه، وعدم الرضوخ لبيع الأرض، مفضلا بيع جزء من جسده/ذاته، أي التضحية في العزلة بلا خلفية ما، دليل على ما نقوله. وسيحتفظ المشاهد طويلا بوجهي الممثلين أمين الناجي (مبارك) وفاطمة الزهراء بالناصر (عايدة).. هي سينما تقول بالسينما ما تريد قوله، وهي ميزة نادرة في سينمانا.