تميزت حقبة ما بعد الاستقلال وإلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ظهور طاقات من الأدباء والكتاب والفنانين، فالجل كان يسعى لتفعيل البعد الإيديولوجي في الخطاب الأدبي/ الإبداعي، حتى أن البعض أكد أنه لا وجود لوعي أدبي/ إبداعي/ فني. دونما وعي سياسي. بحق كانت مرحلة من التضحيات وممارسة النضال الثَّقافي الملتزم والمتشبع بمبادئ اليسار الذي هيمن طَوَال هذه المرحلة. وما حضور مفاهيم إيديولوجية ومواضع دينامية تناقش علاقة الثقافي بالسياسي، وخلافه، إلا تأكيدا لسخونة المرحلة. بخلاف جيل أواسط الثمانينيات من القرن الماضي الذي أمسى يعيش منحى شبه مخالف، ورغم ذلك كان هناك نوع من التفاعل والتباعد بين الأجيال، لكن الفنان الراحل عنا: أحمد الطيب العلج، كان دائما يحاول التعامل مع كل الأجيال والعقليات ويتفاعل معها، ولاسيما أنه كانت له قدرة خارقة في مخاطبة وجدان محاوريه. ولو مع اليسار وقتئذ، وإن كان لليساريين تموقفات وملاحظات إلى حد القطيعة تجاه الممارسة المسرحية التي نهجها العلج قيد حياته، التي اعتبرها البعض تكريسا للنموذج [الشعبوي] الذي سعى خبراء الاستعمار الفرنسي غرسها في التربة المغربية، من خلال المستفيدين من التداريب التي كانت في أواسط الخمسينيات، بما فيهم الراحل عنا الذي تخصص في الاقتباس المسطح، من المسرح الفرنسي، وخاصة أعمال (موليير/ كورني) ولكن إذا نظرنا للموضوع بعقلانية، انطلاقا من الوضعية التي نحن فيها الآن، والتحولات الطارئة على البنية الثقافية في شقها اليساري/ الراديكالي، فتجربة أحمد الطيب العلج المسرحية (تحديدا)، لأنه كان رائدا في الزجل والأغنية المغربية بدون منازع، إذ أنه كان فنانا ومبدعا بصيغة الجمع. وبالتالي فأعماله الدرامية لم تأخذ حقها وحظها من النقد الموضوعي، بحكم طغيان النقد الإيديولوجي، والرؤية السياسية التي كانت تحركنا، وأطرت الفنان العلج في بوتقة التابع وبوق المؤسسة الرسمية، ولكن لم ننتبه أنذاك لانتمائه السياسي، في حزب الشورى والاستقلال، إضافة لعصاميته التي لعبت دورها وشحذت همته وانبثاق مخيلته الواسعة وذكائه الحاد في التعامل مع الأحداث والواقع الذي عاشها وكان يعيشها، وبالتالي ما أراه أساسيا بالنسبة للمشرفين على مؤسسة “أحمد الطيب العلج” للمسرح والزجل والفنون الشعبية، إعادة النظر في إبداعاته، من خلال إنجاز دراسات ومنشورات على ضوء خلفيات ما لا يقرأ وقتئذ، وربط زمنية مسرحياته كاختيار شعبي وفكري وسياسي، بما هو كائن الآن، بمعنى: – هل هناك امتداد لأفكاره وتصوراته والتي بعضها من المخيال ووحي خياله ذوالنظرة الشاعرية الممزوجة بمرارة الواقع؟ – هل فعلا أبدع في الكوميديا الهادفة واستطاع أن يقدم عيوب أفراد المجتمع بطريقة مدروسة، فرضت إيقاعها لجعل المرء، يضحك من سلوكاته السلبية وعيوبه المعيبة لشخصيته؟ – هل كان يمرر أفكاره بوعي مجتمعي، لتصحيح مسار تاريخي نحو مجتمع العدالة والمساواة والحق، دونما التركيز على عصاميته؟ – ما المعيار الصائب الذي يمكن أن نفرز به حُدود الواقع عن المتخيل، مادامت أغلب أعماله تتسم ويختلط فيها الواقع بالمتخيل؟ – من خلال الشخوص المتجذرة في الوسط الاجتماعي/ الشعبي، والتي أخرجها من سكونية البياض وحركها جسدا وروحا في فضاء الركح، هل هي مجرد مطية يفضح بها القضايا الجوهرية التي تهدد حياة المواطن، أم هي تنميط للتهريج المتداول ومجرد أداة لتمريرخطاب أجوف؟ – موليير الذي كان يَسْخر ويتهكَّم على الطبقة البورجوازية (آنذاك)؟ هل ما اقتبسه الطيب العلج عنه، له نكهة البعْد الإيديولوجي الذي كان يؤمن به موليير؟ تلك مجرد بعْض التساؤلات، تفرض من خلالها أن نعيد النظر في عطائه، وإنتاجاته التي كانت تقوم على تعرية الواقع المجتمعي، وكَشف عيوبه وسلبياته وأمراضه. إذ لا يمكن لأي أحَد أن ينكر مساهمته المتعددة وحضوره المتميز وأعماله التي تميزت بجدلية التمسرح، التي تتضمنها متونه المتواضعة جوانية لغة شاعرية – عامية / شعبية، وبالتالي كما أشرت فلا مناص من إعادة النظر في أعماله وأعمال غيره، وذلك بواسطة قراءات متأنية وتأملية، ترتبط أساسا بمنظور نقدي –فاعل ومتفاعل- والحياة الاجتماعية المتحكمة في شخوصه، والمتحكمة فيه كسلطة ضاغطة للكتابة عنها وحولها، مغلفة جوانية التقاليد والحكايا الشعبية والأسطورية، كرؤية لما يفرزه الواقع المجتمعي من مظاهر وظواهر سلبية كالنفاق والغِش والكَذب والمخادعة والتسلط الذي تمارسه الطبقات الثرية واحتيالها الدائم والمستمر. فكل ما أنتجه في تقديري، يُعَدُّ مادة حيوية لأي باحث – سوسيولوجي- ليغرف منها ما أراده لدراسة الظواهر الاجتماعية المغربية، التي كانت سائدة ولا زالت. ولاسيما أن هنالك جوانب أساسية في أعماله، والمتمثلة في الحمولات ذات البعْد الفلكلوري والمأثورات الشعبية والتقاليد والحكايات، وتشكل إثنوغرافي متفرد، وكل هذا بدوره مادة صالحة لأي باحث أثنولوجي. علائقنا بالراحل كانت تتسم بالاحترام والحذر في نفس الوقت، لأسباب آنذاك إيديولوجية/ سياسية، وإن كانت تربطني به (إذاعة فاس) بشكل أقوى، ومهرجانات مسرح الهواة، وبالتالي كان يبهرني ببرنامج تلفزي اسمه (كذا وكذا) كان يُعْنى بالأمثال الشعبية والأحاجي، وذلك ارتباطا بعوالمنا الخاصة، ذات طابع فرجوي/ فطري، والمتمثل في (الحلقة). وفي هذا السياق أبهرني عملان لهما من مميزات الفن الشعبي القح، ومفادهما مسرحية “النشبة” و”قاضي الحلقة”، وكلاهما في أواسط السبعينيات. فبعد سنوات، استنهضت همة إعادة مشاهدة “النشبة”، فلم أجد إلا الراحل السينواغرافي محمد الريحاني، عَونا لتجديد عوالم مشاهدة العملين، فسلمني الشريطين. فأنجزت قراءة في صفحات حول مسرحية النشبة، تحت عنوان (النشبة: بين الواقع والمتخيل). المبدع العلج بكل صدق، لم ينل حظه وحقه، قراءة ودراسة وأبحاثا أكاديمية من خلال إنتاجاته، ارتباطا بالرؤية المحمولة عليه وبسبب الإغراق في عملية الإقتباس، ووضع الجلباب المغربي على مقاس (موليير) ولكن هنالك أعمال تعَد عصارة وتجربة فريدة للمخيلة وللتأليف الخالص للعلج، لا انوجاد للاقتباس أو حتى المقاربة كمسرحيات: السعْد، الأكباش يتمرنون، حليب الضياف، جحا وشجرة التفاح، قاضي الحلقة، بناء الوطن، الشهيد، النشبة. العنوان المسرحي عند العلج: العنوان من أهم ما يمكن الانتباه إليه أثناء القراءة، باعتباره إرسالية أولى وأحد المفاتيح ضمن الشبكة الدلالية إلى المتلقي، بغية استيعاب صلب الحَدث الذي يتشكل منه النص، وخاصة هنا تكون مهمة الناقد كمعين للقارئ لفهم مرامي وأبعاد العنوان، وتقديم جملة من المعاني التي تساعِدنا على فك رموز النص والانخراط في عوالمه. والغريب أنه مهما استعمل الناقد أي منهج، فالعنوان يندرج في سياق المقاربة السيميائية، نظرا لأن العنوان لا يخطه الكاتب بشكل اعتباطي أو عفوي، بل عن دراية ودراسة مسبقة، لكي ينسجم النص بالعنوان، وكثيرا ما نلاحظ بأن العنوان سواء كان لشريط سينمائي أو عمل مسرحي أو كتاب من كتب فنون القول وغيره، يستقطب مئات المشاهِدين والقراء، باعتباره عتبة يخاطب غرائز المرء، بشكل سحري، فأكبر صعوبة يصادفها من يمارس الإبداع والكتابة، إيجاد عنوان لنصه أو دراسته، وإن كان العنوان مرتبطا بوجهة نظر، ولكنها مسألة تبرز ضمنيا التموقف الإيديوفني للمؤلف، وكذا إشارة لتركيبته الذهنية التي تحمل أو تؤمن بذاك التموقف. فمن هنا فكل عناوين أعمال الفنان الطيب العلج، تعَبر بشكل أو آخر عن تموقفه من المجتمع ومشاكله وإشكاليته المتجذرة في أعماق الإنسان. علما بأن تلك العناوين في خطها السري، تخاطب وجدان المتلقي وليس عقله، فمن هنا ربح الجمهور. لأن العنوان أول ما تقع عليه عين القارئ/المشاهد، ليفهم طبيعة الموضوع. وللتاريخ: كلما قدمت فرقته أو الفرقة الوطنية عملا باسمه، إلا والقاعات تكون غاصة بجمهور لا يحد ولا يحصى، وهذا في حد ذاته كان بإمكان الباحثين أن يجعلوه موضوعا لبحْث متجذر في سوسيولوجيا المسرح المغربي، لكن نعيد القول إن هنالك قطيعة بين الحقول والأجناس المعرفية والفنية. وبالتالي فعروض الراحل كانت ولا زالت تعالج قضايا وهموما، ذات ارتباط وثيق بالواقع المغربي المعيش، هدفها الأساس كشف سلبيات المجتمع وتعرية أمراضه وعِلله، التي تنخر جذور التربة المجتمعية. وهذا يتبين من العناوين التي لا يضعها بشكل اعتباطي أو عبثي، بل اختيار بقناعة، لتحقيق التفاعل الأولي، قبل أن يكون واجهة إعلامية/ إخبارية للولوج إلى عوالم نص العرض. ومنها أنه يمدنا بالعديد من المعاني والمفاهيم اللصيقة بحياة المواطن/ المتلقي. ومن خلاله استدراج المتلقي للمشاهدة، لكي يحاول فك رموز العمل الذي أثاره العنوان سلفا، وفي هذا السياق يؤكد الراحل بقوله المنشور في صحيفة (أنوال الثقافي ع 34 في/ 17/01/1987): “إنني بقيت مخلصا لتوخي الديباجة، لأنني مؤمن بأن الالتزام في المسرح، ليس شعارا يرفع على أفواه الممثلين، وإنما هُو حالة وحدث وأشخاص لا تلوح بشعار ولكن توحي به”. فمن خلال هذا التموقف الواضح، ينعكس على عناوينه التي لا تتخذ نسقا واحدا، ولكن لا تخرج عن إطارين. فتارة يكون (كلمة) واحدة لا غير مثل (حادة / التبعبيعة / الناعُورة / الدجاجة/ التمتام/ اليانصيب/ السعْد / العقرب ..)، وهذا الاختزال ينم عن وجود سياق رمزي يتشكل جوانية الصورة، بتشكيل خاص، توجهه رؤية مضمرة يختزنها المؤلف في اللاشعور، ويتضح هذا من حيث محاولة إعراب العنوان، فتارة يكون (خبرا) لمبتدأ محذوف، وفي آخر (عطف بيان) لمبتدأ وخبر محذوفين، وفي باب آخر يكون (بدلا) وتارة يتكون من كلمتين، مثل: عمى الزلط / البلغة المسحورة / ملاك الدويرة/ مريض خاطرو/ دقت الساعة/ الجمل المسروق/ ولي الله/ حليب الضياف/ الرشوة نشوة/ المعلم عزوز/.. بحيث هاته العناوين تحمل ترادفات، فحينما نحذف الكلمة الأولى، تنعدم الثانية، فهما وسياقا، مما تتولد ضبابية في المعنى السياقي، وبالتالي فهاته العناوين تحمل جدلية الخفاء والتجلي، نتيجة انعدام (واو العطف) بين الكلمتين، وهذه الملاحظة قلما تم الانتباه إليها، باستثناء عمل وحيد الذي يحمل (واو العطف) ويعتبر من الأعمال الأخيرة التي ألفها ومفاده (جحا وشجرة التفاح(، وبناء على كل هذا، فالفنان العلج لا يختار عناوينه من أجل العنوان فقط، بل يعتمد في صياغته على مُخيلته وقُدرتِه التصويرية والتجريدية، وهذا الأسلوب يحتاج إلى ضوابط لا بد منها، وإلى دُربَة وفنّيَة في كيفية صياغة العنوان، لكي يكون لائقًا بما تحمله الكلمة من معنى، وإن كان في واقع الأمر أن العنوان المسرحي أساسا لا يخضع لضوابطَ منهجية في صياغته. ولكن العلج حريص على ضبطه، حتى لا يبقى العنوان مجرّدَ عنوانٍ، بدون معنى.