يعتبر الشهيد عزيز بلال واحدا من كبار الأكاديميين والمفكرين الاقتصاديين المغاربة والعرب الذين قدموا أطروحات متميزة في مجال تخصصه، اقتصاد التنمية والتخلف، إذ تعتبر كتاباته في هذا المجال مرجعا مغربيا لا تخطئه العين، خاصة كتابه «الاستثمارات الأجنبية بالمغرب خلال فترتي الحماية ومطلع الاستقلال (1912-1964)»، الذي كان في الأصل موضوع أطروحة نال بها شهادة الدكتوراه، وكذا كتابه «التنمية والعوامل غير الاقتصادية». ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل إن الاستشهاد باجتهادات عزيز بلال تجاوز الفضاء الوطني إلى الصعيدين الإفريقي والأممي، بحكم ما قدمه من اجتهادات في هذا المجال حول التنمية والتخلف، خاصة في البنيات الاقتصادية لدول الجنوب التابعة سواء في مرحلة خضوعها للاستعمار المباشر، أو في مرحلة إلحاقها بمراكز القرار الرأسمالي الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ إذ قام بتحليل مجموعة من النماذج الاقتصادية التابعة والملحقة بالبنيات الاقتصادية للاستعمار، مثل المغرب والموزمبيق وأنغولا وفي عموم ما تسمى بلدان العالم الثالث…وهي تحليلات تقاسَمها معه أعلام ومفكرون كبار في زمانه مثل عالم الاقتصاد والمفكر العربي سمير أمين، والجغرافي البرازيلي الشهير ميلتون سانتوس، والعالم الروسي يوري بوبوف، الذي أصدر مع الشهيد عزيز بلال كتابا مشتركا بعنوان «تكوين التخلف في الماضي والحاضر والمستقبل»، وغيرهما من الأسماء التي كانت نظرياتها ومازالت مرجعا في مجال معالجة ظواهر التنمية والتخلف في الاقتصاد، وعلاقتها بالبنيات التبعية التي أقامتها الإمبريالية. لكن الشهيد عزيز بلال لم يقتصر في تحليله لظواهر التنمية والتخلف في الاقتصاديات التابعة على تقديم فكر نظري جامد بعيد عن العمل النضالي الميداني، بل ربط بين ما كان يقدمه من اجتهاد نظري وبين ممارسة نضالية في الميدان، محققا عملية ربط جدلي بين النضال من أجل بناء نظام ديمقراطي واستمرار النضال من أجل التحرر الوطني من البنيات الاستعمارية التي كبّلت الاقتصاد الوطني في المغرب وكل الدول التي خرج منها الاستعمار بفعل الكفاح المسلح في العالم العربي وإفريقيا وعموم بلدان العالم الثالث، مستحضرا بقاء كيان استعماري من طبيعة خاصة هو الكيان الصهيوني الذي اعتبره قاعدة متقدمة للإمبريالية في العالم العربي، تعمل من خلاله على استمرارية هيمنتها على المنطقة وتكريس تبعيتها لها بالضرورة؛ لذا كانت مساهمته في هذه الوثيقة التحليلية للقضية الفلسطينية التي نشرها باللغة الفرنسية في مجلة «أنفاس» في العدد المزدوج رقم 10 و11، والصادرة باللغة الفرنسية سنة 1968، والذي كان عددا خاصا بالثورة الفلسطينية، وأبان فيه الشهيد عزيز بلال عن قدرات كبيرة في فهم ظاهرة الاستعمار الصهيوني لفلسطين ومميزاتها باعتبارها استعمارا استيطانيا يشكل امتدادا للنسيج الاستيطاني الذي زرعته الإمبريالية في المشرق العربي وجعلت منه قاعدة عسكرية تابعة لها مهمتها حراسة مصالحها في المنطقة ونهب ثرواتها وتأبيد تبعيتها لها؛ وهو الدور نفسه الذي كان يقوم به حليف الصهاينة نظام الفصل العنصري الاستيطاني في جنوب إفريقيا مع عموم شعوب القارة الإفريقية؛ ما جعل منه تحليلا له راهنيته التي أثبتتها الوقائع، رغم مرور نصف قرن على كتابته، وست وثلاثين سنة على استشهاده بالديار الأمريكية (23 ماي 1982). إننا أمام وثيقة تاريخية تقارب القضية الفلسطينية مقاربة مثقف عضوي حقيقي ملتزم بقضايا شعبه وأُمَّته التزاما ثوريا لا يلين، مما يجعل منها أيضا درسا للنخبة الثقافية والسياسية في المغرب والوطن العربي، التي تنخر أغلب أعضائها أعراض التفكير السطحي والتعلق بالإشكالات الجزئية وغياب إيمانها بمشاريع مجتمعية كبرى، مع الاستسلام لإغراءات السلطة وريعِ غنيمتها التافهة. بقي أن نشير ختاما إلى مسألتين؛ أولاهما أن ترجمة هذه الوثيقة الصادرة قبل خمسين سنة تعتبر تكريما للشهيد عزيز بلال من خلال استحضار مساهمته في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو بالطبع تكريم رمزي يحتاج إلى ما هو أكبر منه، على الأقل في احتفالية مدينة وجدة التي تم اختيارها عاصمة للثقافة العربية هذه السنة، ولم نر فيها أثرا يُذكر لمثقف عاش بين أحضانها سنوات عديدة، حيث انتقل إليها للدراسة بعد قضاء فترة طفولته في مدينة تازةمسقط رأسه. وثانيها أن هذه الترجمة التي قام بها الأستاذ أحمد المرزوقي قد استوفت جوانب مقال الشهيد عزيز بلال، ليتجاوز من خلالها ترجمة سبق نشرها في العدد رقم 2 من مجلة «المقدمة» سنة 1982، وكانت ترجمة ركيكة لم تنقل مضمون المقال بشكل سليم للجمهور الواسع على الصعيدين المغربي والعربي. المقاومة الفلسطينية والحركة الثورية العالمية «من الضروري العمل على كشف المستور بكيفية مستمرة للطبقة الكادحة في جميع دول العالم، وبالأخص منها الدول والأمم المتخلفة، حول ما يحاك من خدعة محبوكة من طرف القوى الإمبريالية المتواطئة مع الطبقات المحظوظة التي توهم بأنها تعمل على وجود دول مستقلة سياسيا، بينما هي تسعى في الواقع إلى استعبادها وجرها إلى التبعية الاقتصادية والمالية والعسكرية. وكمثال صارخ على هذه الخدع المستعملة تجاه الطبقات الكادحة في الدول التي أصبحت تابعة بفضل تضافر جهود إمبريالية الحلفاء وبرجوازية هذا البلد أو ذاك، يمكننا أن نذكر قضية الصهاينة في فلسطين؛ إذ تحت ذريعة إقامة دولة يهودية في ذلك البلد الذي يتواجد فيه اليهود بعدد لا يكاد يُعتَبر، قامت الصهيونية بتسليم عمال الساكنة المحلية العربية إلى إنجلترا قصد استغلالهم بكيفية فاحشة». (لينين، «الأطروحة رقم 6 حول القضايا الوطنية والاستعمارية»، المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية 1920). «إن مهمة إسرائيل في الشرق الأوسط هي المهمة نفسها التي تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إنجازها في فيتنام» («تصريح ليفي أشكول قبل وفاته سنة 1969) ترجمة: أحمد المرزوقي | تقديم ومراجعة: عبد الإله المنصوري إلى جانب حرب فيتنام، أخذت القضية الفلسطينية تتصدر الأحداث الدولية؛ ذلك أن الستار أخذ يرفع عن مظلمة من أكبر المظالم التي سجلها التاريخ؛ وقد أصبح ذلك يبدو جليا واضحا لعِيان جماهير واسعة من الرأي العالمي منذ اللحظة التي أقدم فيها الشعب الفلسطيني على حمل السلاح لتقرير مصيره بنفسه وتحرير وطنه من قبضة الاحتلال الصهيوني. ولم يسبق أن عرفت مشكلة استعمارية تعتيما مطبقا كالذي عرفته القضية الفلسطينية. والجدير بالذكر أن الصهيونية عرفت منذ أمد بعيد كيف تُناور بدهاء كي تحجب الحقيقة المرة عن الرأي العام الدولي، وتخدع بالتالي ضمير الملايين من الناس عبر العالم، إلى درجة أنها أعمت الأعين عن رؤية مأساة الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه وحرم من ممتلكاته إلى أن أصبح مجرد “شعب لاجئ” يعيش على “الشفقة الدولية”. وبالفعل، فإن المسؤولين الصهاينة عرفوا من أين تؤكل الكتف بعدما استغلوا خير استغلال أخطاء العرب وضعفهم ووطأة الإمبريالية عليهم، وكذا تلك الانشقاقات العقيمة التي مزقتهم طرائق قددا، كل ذلك بنية تحقيق هدف إستراتيجي، ألا وهو توسيع دولة إسرائيل انطلاقا من الأرض المقتطعة من فلسطين التي ارتكبت الأممالمتحدة أكبر غلطة في تاريخها لما سلمتها لها ظلما وعدوانا سنة 1947، غير أن كثيرا من الأشياء قد تغيرت اليوم… ذلك أن المقاومة الفلسطينية أصبحت رمزا وتجسيدا للشعب الفلسطيني ولِحَقه في استرجاع أرضه المغتصبة ولإرادته في خوض حرب تحريرية حتى النهاية، إلى حين تحقيق جميع تطلعاته الوطنية. ولهذا فإن الظلم الحاصل بوجود دولة إسرائيل أصبح يظهر جليا أكثر من أي وقت مضى؛ ليس فقط بتطور المقاومة الفلسطينية، ولكن كذلك بالتوسع الذي أقدم عليه المستعمر الصهيوني غداة عدوان يونيو 1967، حين تجرأ على ضم أراض جديدة في إطار الحشد لتحقيق حلمه الاستعماري البغيض، وهو إقامة “إمبراطورية إسرائيل المُمتدة من النيل إلى الفرات”. فتح جبهة جديدة للنضال الثوري المعادي للإمبريالية: إن القضية الفلسطينية هي أولا وقبل كل شيء قضية تحرر وطني؛ إنها جزء لا يتجزأ من النزاع الشامل التي تسعى حركة التحرر العالمية إلى تصفيته في إطار نضالها ضد القوى الإمبريالية والاستعمارية. وأي ذريعة صهيونية كيفما كان نوعها، وأي زعم ديماغوجي لبعض القوى الرجعية العربية، لن يستطيع أبدا حجب هذه الحقيقة الجوهرية. وحركة التحرير الفلسطينية هي أول من يعمل باستمرار وإصرار على تأكيد هذا المبدأ وتربية مناضليها عليه. وقد أدت ثلاث هجمات صهيونية غاشمة خلال عشرين سنة إلى إجلاء مليونين وثلاثة مائة ألف عربي فلسطيني وُلدوا مسلمين ومسيحيين عن أرضهم لكي تُحِل محلهم مستعمرين أجانب وغرباء عن البلد. إن المشروع الصهيوني يلتصق التصاقا وثيقا بالإستراتيجية الإمبريالية المُبيتة ضد الشرق العربي وضد شعوب هذه المنطقة المعروفة بثرواتها البترولية الهائلة. إنها إستراتيجية مقيتة تهدف بالأساس إلى محاولة كسر حركة التحرر الوطني فيها وإخماد ثورتها الاجتماعية المتصاعدة. وهكذا، ومنذ “ولادتها”، كانت دولة إسرائيل حاملة لماهية مزدوجة ما فتئت ترسخها يوما بعد آخر؛ أولها أنها دولة استعمارية من نمط جديد، وثانيها أنها قاعدة إمبريالية للعدوان والتهديدات والمساومة الموجهة ضد الطموحات الوطنية والتقدمية للشعوب العربية، ومن ثمة ضد كافة الحركات التقدمية العالمية. وبما أنها تشكل رأس حربة للثورة المضادة في قلب الوطن العربي، فإنها أثارت دون أن تدري، وهي في غمرة اندفاعها لتحقيق طموحات ومشاريع أسيادها خلال ثالث حروبها العدوانية، واحدة من تلك التحولات الجدلية التي لا يملك سوى التاريخ وحده سرها، والتي ستقود حتما إلى بداية نهايتها، ألا وهي فتح جبهة جديدة للكفاح الفلسطيني؛ جبهة تحظى بالدعم المتزايد للشعوب العربية والرأي العام التقدمي عبر العالم. وعلى غرار كفاح الشعب الفيتنامي، وإن كان ذلك في ظروف مغايرة، فإن كفاح الفلسطينيين إلى جانب كفاح الشعوب العربية الأخرى، أصبح يأخذ بعدا عالميا على اعتبار أن نهاية إسرائيل، هي من الناحية الجدلية، مرهونة بتصفية المصالح والتأثير الإمبريالي في تلك المنطقة من الوطن العربي ذات الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية الحيوية لكل حركات تحرير الشعوب، وبالنسبة لتقدم الثورة الاجتماعية عبر العالم. وهذا ما ينبغي أن يفهمه جيدا جميع الثوار في كل أرجاء العالم. لا مجال للتعايش السلمي بين المضطهِدين والمضطهَدين: إن الشرعية الإنسانية والتاريخية للكفاح الفلسطيني المسلح ليست في حاجة إلى برهان. والمسألة المطروحة حاليا هي ضرورة دعم هذه الحركة بكل الوسائل المادية والمعنوية والسياسية المتاحة. وهذا الواجب يعود أولا وقبل كل شيء إلى جميع القوى التقدمية والثورية عبر العالم. إن دولة إسرائيل لا يمكن أن تشكل بأي حال من الأحوال “أمرا واقعا”، وإلا فينبغي إسباغ هذا الأمر الواقع بكيفية قاطعة على جميع أشكال الاستعمار ونصف الاستعمار في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكذا على الوجود الفرنسي في الجزائر طيلة 130 سنة وعلى ما أقيم في إفريقيا الجنوبية وروديسيا من نظام عنصري بغيض. [روديسيا هو الاسم الاستعماري الانجليزي لجمهورية زيمبابوي الحالية، حتى استقلالها وتحررها من نظام الفصل العنصري، بعد أن فصلها الاستعمار الإنجليزي عن زامبيا سنة 1885، وأطلق عليها اسم روديسيا الجنوبية رسميا سنة 1901 واستمر هذا الاسم إلى حين إعلان نظام عنصري فيها الانفصال عن بريطانيا، وهو النظام الذي استمر إلى سنة 1980، حيث انتصر نضال الشعب الزيمبابوي ليطيح بالنظام الاستعماري والعنصري معا]. ولهذا، فإن حجة الأمر الواقع لا يمكن أن يُعتد بها بتاتا بالنسبة للحركات الثورية والتقدمية. وعلى سبيل التذكير فإن السلطة النازية الألمانية في وقتها كانت تظهر كذلك كأمر واقع، ولكنها اندحرت في النهاية بفضل تضافر الكفاح المشترك للشعوب، وكان سقوطها إيذانا بفتح صفحة جديدة من التقدم بالنسبة للإنسانية جمعاء. من جهة أخرى فإن كل من يزعم أنه يقوم ببذل جهود خالصة لإنقاذ السلم العالمي المهدد بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر، عليه أن يفهم أن وجود إسرائيل، على غرار ما كان يمثله وجود نظام النازية من قبل، هو في حد ذاته تهديد مستمر موجه لسلم وأمن الشعوب العربية ومن ثمة لكل الشعوب عبر العالم. لأجل هذا، لا يمكننا أن نتكلم عن سلم عالمي حقيقي ما دامت هنالك شعوب تُقمع. كما لا يمكن أن يكون هنالك تعايش سلمي بين ظالمين ومظلومين وبين مستغِلين ومستغَلين. وحيثما وُجد قمع واستغلال وُجد بالضرورة نضال وكفاح بأشكال مناسبة وفعالة لوضع حد لهما. إنه قانون لطالما أكده التاريخ عبر كل حِقَبه، وسوف يظل يؤكده زمنا طويلا كلما وُجد نظام غاشم يسعى إلى استعباد الشعوب واستغلالها. وبرنامج الثورة الفلسطينية الذي ينبني محوره على تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني المدعو “دولة إسرائيل”، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يتمتع فيها جميع المواطنين بنفس الحقوق كيفما كان انتماؤهم الديني، لَيُشكل أرضية عادلة ينبغي أن تُدعم من طرف جميع القوى التقدمية والثورية عبر العالم. لحظة حاسمة في تطور العالم العربي: تعتبر الثورة الفلسطينية في العصر الحاضر عاملا حاسما للتوضيح السياسي والإيديولوجي في مسار تقدم الدول العربية. وتبعا لذلك، أصبح من الضروري على جميع القوى الاجتماعية والسياسية في البلاد العربية أن تحدد موقفها من كفاح الشعب الفلسطيني. فالجماهير الشعبية، والشباب، والمثقفون الوطنيون التقدميون، يساندون هذا الكفاح مساندة شاملة غير مشروطة، لأنهم يرون فيه لحظة تاريخية ينبغي استثمارها لاستكمال تحرير الأمة العربية الكبيرة من نير الأجنبي، كما يرون فيه كذلك مرحلة حاسمة لتصفية الهيمنة الإمبريالية التي ما فتئت تثقل كاهل الأمة باستغلالها المفرط لخيرات العديد من دولها. إنه إذن كفاح ضد الاحتلال الأجنبي، مثلما هو كفاح ضد الإمبريالية. ويستوجب حيال هذا أن تنصهر ردود الفعل في حركة واحدة من شأنها أن تفضي إلى الثورة الاجتماعية أو إلى تعميقها في الدول العربية التي بدأت فيها. بمعنى تحقيق تغيرات اجتماعية–اقتصادية وسياسية هيكلية في اتجاه نقل السلطة الاقتصادية والسياسية إلى الشعب. إن قوى البورجوازية الوطنية (القومية) والبورجوازية الصغرى في البلدان العربية تدعم الكفاح الفلسطيني إلى حد ما، إما بسبب نزعتها الوطنية أو لأسباب دينية بحتة، مع أمل القدرة على المراقبة أو التأثير في المضمون الاجتماعي والإيديولوجي للثورة. وفي الآن نفسه فإن البورجوازية الوطنية العربية تبيت رغبة في الاستمرار في “خلط الأوراق”، وذلك بالسعي إلى حجب مسؤولية الإمبريالية بواسطة استغلالها للمشاعر الدينية للجماهير الشعبية عوض توجيهها وتزويدها بتحليل جلي وواضح للوضعية القائمة، تحليل من شأنه أن يعبئها بجدية في الكفاح ضد هذه الإمبريالية. ولذلك فهي تلجأ في بعض المواقف إلى كثير من الديماغوجية التي لا يتبعها أي تطبيق على أرض الواقع. بيد أنه مع تطور الكفاح وتعميقه فإن هذه القوى ستكون مجبرة على تحديد موقفها بكل وضوح تجاه الثورة الفلسطينية، وبالتالي فإنها ستجد نفسها مرغمة في وقت من الأوقات على تبيان مدى انخراطها في الكفاح ضد الإمبريالية في مختلف الدول العربية. إن البورجوازية الصغرى التي تقدم نفسها على أنها قوة تقدمية؛ ذلك أنها تدعم الكفاح الفلسطيني، وتندد بمسؤولية الإمبريالية والرجعية العربية، وتقبل بعض الإصلاحات على صعيد الهيكلة السوسيو–اقتصادية، وتطالب بتحقيق الاستقلال الاقتصادي من قبضة الهيمنة الإمبريالية، ولكنها لا تستطيع في الوقت نفسه أن تتجاوز تناقضاتها الإيديولوجية، كما تعجز عن إزاحة الضبابية التي تلف علاقتها مع الجماهير الشعبية، ما يمنع هذه الجماهير من لعب دورها كاملا في المعركة. أما في ما يتعلق بالطبقات الاجتماعية العربية التي مازال لها ارتباط بالإمبريالية، فإن دعمها الشفوي للقضية الفلسطينية يبقى معروفا لأنه ليس لها بديل عن ذلك أمام شعوبها التي تعتبر هذه القضية مسألة مقدسة. ولكن من جهة أخرى، وكما أكدت أحداث لبنان خاصة، فإن هذه الطبقات قادرة على أن تَهُب لمناهضة الثورة الفلسطينية إذا ما شعرت بأن مصالحها مهددة بفعل تطور هذه الثورة. إن موقفا كهذا لن يزيد من الناحية الدياليكتيكية سوى من تقوية إرادة الاستقلال والتحرر الاجتماعي لدى الجماهير الشعبية العربية التي يدفعها هذا الموقف إلى فتح أعينها أكثر فأكثر على الدور الذي تلعبه هذه القوى، والذي يصب بكيفية منطقية في مصلحة أعداء العرب جميعا؛ ونقصد بذلك التحالف الحاصل بين الصهيونية والإمبريالية. لهذا يمكننا أن نجزم بدون مبالغة بأن العامل الفلسطيني هو بصدد لعب دور توضيحي في غاية الأهمية بالنسبة لجميع الشعوب العربية. لأجل ذلك ينبغي أن يُدمج هذا العامل بكيفية فعالة في الكفاح اليومي، وكذا في الاهتمامات الخاصة بكل شعب عربي، وذلك في ارتباط وثيق مع المشاكل التي ينبغي حلها في كل دولة على حدة. علينا إذن أن نقوم بتكريم إخواننا المقاتلين الفلسطينيين تكريما يليق بمقامهم، ليس فقط بسبب الخدمات التي يقدمونها للشعوب العربية والمتمثلة في إراقة دمهم السخي والطاهر لأجل قضية فلسطين الحبيبة، وإنما كذلك للخدمات التي يسدونها للإنسانية قاطبة، وذلك من خلال قيامهم بدور طلائعي في الكفاح ضد الإمبريالية على غرار ما يقوم به الشعب الفيتنامي البطل. بِاسم مبادئ ومُثُل الحركة الثورية العالمية: تعلن البلدان الاشتراكية والحركة العمالية الدولية والقوى التقدمية عبر العالم تضامنها المطلق مع كفاح الشعوب العربية ضد الإمبريالية والعدوان الصهيوني. وتبعا لذلك، فقد خصصت الدول الاشتراكية مساعدات للدول العربية، خصوصا منها مصر وسوريا. إن كل هذا مُشَرف للحركة الثورية العالمية. غير أن بعض التخوفات لازالت عالقة في ما يخص عدم فهم بعض الأشياء المتعلقة بعُمق القضية الفلسطينية، والسبب هو أن جزءا هاما من الحركة العمالية الدولية مازال يعتقد أن الاعتراف ب”الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني” لا يتنافى مع وجود دولة إسرائيل. أما بخصوص مواقف القوى الطلائعية المغربية حول القضية الفلسطينية فإنها معروفة: دعم مطلق للكفاح المسلح للشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه، ومساندة غير مشروطة للبرنامج السياسي للمقاومة الفلسطينية. وهذا الموقف الصريح لا تشوبه أي “مزايدة وطنية”؛ لأنه يتطابق تطابقا تاما مع المبادئ التي تتبناها مختلف القوى المشكلة للحركة الثورية العالمية. ومن وجهة نظر مبادئ الاشتراكية العلمية فإنه لا يمكن أن تكون هنالك “أمة يهودية”، لأن الدين وحده لا يستطيع أن يشكل تلك اللحمة التي تنبني عليها أمة ما. ومن جهة أخرى فإن اغتصاب الأراضي الفلسطينية من طرف الاستعمار الصهيوني وبمؤازرة القوى الإمبريالية هو أمر لا مِراء فيه، وبالتالي فهو مرفوض جملة وتفصيلا. وختاما فإن الإيديولوجية الصهيونية بأُسُسها العنصرية والشوفينية هي واحدة من بدائل الإيديولوجية النازية التي ألحقت بالبشرية مآسي كثيرة. إن دولة “إسرائيل” التي هي في الأساس ثمرة تزاوج بغيض بين الصهيونية والإمبريالية لَتُشَكل في حد ذاتها عنوانا بارزا للإقصاء الكلي للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؛ ومن ثمة فإن الاعتراف بأي شرعية لها مهما كان حجمها، ثم الإقدام في الآن نفسه على دعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، هو تناقض صارخ لا يمكن الخروج منه بأي حال من الأحوال. بَيْد أن البرنامج السياسي للثورة الفلسطينية يمنح البديل الوحيد الممكن؛ وهو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية غير عنصرية يتمتع المواطنون فيها بنفس الحقوق ويعامَلون على قدم المساواة بغض النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم الدينية. وهذا لن يكون ممكنا إلا بتصفية البنيات العنصرية لدولة إسرائيل، والتخلص من الصهيونية كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية وإيديولوجية مغروسة في أرض فلسطين. وحسب هذا البرنامج فإن اليهود غير المُتصهينين، الذين يريدون العيش في دولة بمثل هذه المواصفات، سيجدون مكانا لهم جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين مسلمين كانوا أَمْ مسيحيين. وخلاصة القول فإنه ينبغي رفع كل لبس وكل تناقض لدى الحركة الثورية العالمية حول جوهر القضية الفلسطينية، لأن القوى المُشَكّلة لهذه الحركة تمثل في الأساس حليفا موضوعيا للثورة الفلسطينية. إن الكفاح الذي تقوده هذه الأخيرة لَيَندمج اندماجا تاما في الإستراتيجية العامة للحركات الثورية والتقدمية التي تهدف أول ما تهدف إلى تصفية الامبريالية والرجعية، وبالتالي خلق ظروف مواتية للتحرر الشامل لكل الشعوب المضطهَدة عبر العالم.