ما من قضية أسيء فهمها ووصفها وحتى تحديد طبيعتها مثل القضية الفلسطينية. وقد أسهم الفكر السياسي الفلسطيني والعربي الحديث في اللبس الذي لحق في توصيف هذه القضية، وذلك حين أدرجها في إطار حالة الشعوب التي رزحت تحت الاستعمار وأطلق على نضال شعبها صفة حركة التحرّر الوطني، وبهذا أدرجها كجزء من الحالة الكولونيالية العالمية. فهل هذا الإدراج دقيق ويعكس واقع الحال؟ وعندما اختلط الأمر بما مارسته وتمارسه دولة الكيان الصهيوني من ميز عنصري بحق العرب الفلسطينيين في نطاقها، اعتبر ذلك جزءاً من حالة مكافحة المستوطنين العنصريين كما هو الحال في الكثير من المستعمرات، أو اعتبر شبيهاً لحالة أبارتايد في نموذجه الجنوب أفريقي. فهل ثمة تشارك بين الحالتين؟ وهل يعكس الواقع الفلسطيني؟ *** هذا الارتباك أو التخبط في فهم القضية الفلسطينية ووصفها وتحديد اسمها باعتبارها حركة تحرر وطني لم يأت من فراغ، وبلا تشابه ما مع حالات الشعوب التي رزحت تحت الاستعمار والإمبريالية أو واجهت ميزاً عنصرياً في الآن نفسه. ولكن هذا التشابه شكلي وجزئي لا يمثل خصوصية الحالة الفلسطينية أو القضية الفلسطينية أو طبيعة الكفاح الفلسطيني. نقطة التشابه تأتي من احتلال الاستعمار البريطاني لفلسطين بعد الحرب العالمية الأولى كما حدث مع كل حالات الاستعمار من حيث احتلال البلد من قِبَل دولة كولونيالية استعمارية إمبريالية، كما تأتي من كون إقامة الكيان الصهيوني ودعمه الدائم جزءاً من الإستراتيجية الإمبريالية العالمية حتى يومنا هذا. ولكن منذ اللحظة الأولى بدأ الافتراق الشاسع بين خصوصية الاستعمار البريطاني لفلسطين وعمومية الاستعمار البريطاني المؤلفة بدورها من خصوصيات لكل حالة، ولكن ضمن مشترك يسمح بالحديث عن عام كولونيالي بالنسبة للمستعمرات البريطانية أو الفرنسية أو الهولندية مثلاً. وكذلك خصوصية العلاقة الإمبريالية بالكيان الصهيوني عن العلاقة العامة للإمبريالية بالدول الأخرى، فالدول التابعة أو الحليفة للإمبريالية لا تمتلك النفوذ والمشاركة في القرار في المركز الإمبريالي كما هو الحال مع الصهيونية والكيان الصهيوني. الاستعمار يحتل البلد لنهب خيراتها، والتوسع في إمبراطوريته وتعزيز وضعه الإستراتيجي الاستعماري العام، وبهذا يتحدّد التناقض بينه وبين شعب ذلك البلد، ومن ثم يصبح نضال ذلك الشعب هو التحرّر من السيطرة الاستعمارية سواء أكانت ضد احتلال أو ضد هيمنة من خلال معاهدات أو قواعد عسكرية أو أحلاف أو ما شابه. ومن هنا حمل هذا النضال أو الكفاح أو المقاومة سمة حركة تحرّر وطني: حركة استقلال وطني. هذا الأمر سمح بتشكل القانون العام الذي اسمه حركات التحرّر الوطني، وما يجمعها من سمات مشتركة رغم الخصوصية باعتبار كل منها حركة تحرّر وطني. الطريف أن الاحتلال البريطاني لفلسطين لم يسمّ نفسه الاستعمار وإنما الانتداب، وفرض هذه التسمية على عصبة الأمم، وذلك لخصوصية فارقة بكل ما تحمله الكلمة عن الخصوصيات التي عرفتها حالات الاستعمار المختلفة، وهي زرعُ ''كيان قومي يهودي في فلسطين'' وقد عبّر عن ذلك بوعد بلفور، فاتسمت به إستراتيجيته التي حكمت احتلال فلسطين. فالمشروع الكولونيالي هنا لم يكن كولونيالياً بمعنى تحقيق هدف السيطرة على البلد بقصد نهب خيراتها وجعلها جزءاً من إمبراطوريته، لأن المهمة كانت تحقيق هدف إقامة كيان صهيوني في فلسطين، ومن ثم يقوم هذا الكيان بخدمة الإمبراطورية ووضعها الإستراتيجي الكولونيالي. أما السبب الذي كان وراء زرع الكيان الصهيوني الذي أسماه وعد بلفور ''وطنا قوميا لليهود في فلسطين''، فقد ارتبط بإستراتيجية تجزئة الأمة العربية إلى أقطار مستقلة عن بعضها البعض وصلت في محصّلتها إلى 22 دولة قطرية. فلم يكن من قبيل الصدفة أن يلد كل من وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو سوياً كما لو كانا توأمين. وهذا ما شكل خصوصية استعمارية فارقة بصورة حاسمة عن كل الخصوصيات التي جسّدت الاستعمار (الكولونيالية)، وذلك من حيث طبيعة المشروع الصهيوني ومن حيث حجم التجزئة العربية الهائلة (22 جزءاً). على الرغم من أن وعد بلفور ومن بعده نص الانتداب البريطاني لفلسطين قد تعهدا بإقامة ''وطن قومي لليهود في فلسطين''، فإنهما أصرّا على ضرورة مراعاة السكان المحليين وعدم الإضرار بهم. طبعاً هذا الشرط الأخير يتناقض مع مشروع إعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين. والدليل أنه منذ اللحظة الأولى أي منذ الهجرات الأولى وإقامة المستوطنات التي كانت تسمى ''مستعمرات'' قام التناقض مع السكان المحليين الذين هم الشعب العربي الفلسطيني الذي كان يعمر مدن فلسطين وقراها ويزرع أرضها. فما كان من الممكن أن يؤسس لمثل ذلك الكيان إلاّ من خلال القوة البريطانية وقهر الشعب الفلسطيني وممارسة الضغوط الهائلة لبيع الأرض، فضلاً عن وهبه أراضي تعود إلى الملكية العامة التي هي من حق الشعب الفلسطيني وحده. ولكن رغم ذلك، ظل العرب الفلسطينيون مع قيام دولة الكيان الصهيوني يمتلكون 94% من الأرض، ولهذا ما كان ممكنا أن تقوم تلك الدولة إلاّ بمصادرة الأرض وأحياء المدن والقرى وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني. بكلمة، لم يكن هنالك من هدف أو عمل للانتداب البريطاني ما بين عامي 1917 و1948 عدا في مرحلة الحرب العالمية الثانية غير حماية الهجرات وتهريبها إلى داخل فلسطين وتأمين المستوطنات لها ومن ثم تسهيل تسليحها وتدريب مليشياتها تمهيداً لتشكيل قواتها المسلحة الضاربة (الجيش). إن إقامة وطن قومي لليهود وترجمته إلى دولة وكيان كانا يعنيان بالضرورة اقتلاع الشعب الفلسطيني من مدنه وقراه وأراضيه والاستيلاء على ممتلكاته، ولم يكونا يعنيان أن يجد اليهود ملجأ لهم في فلسطين أو ''وطناً'' يعيشون فيه مع أصحابه الأصليين، فقد كانت عملية هجومية عدوانية لا علاقة لها بإيجاد ملجأ آمن لمعالجة المشكل اليهودي في أوروبا. فالهدف البريطاني وهدف المشروع الصهيوني كانا من حيث الجوهر ومن دون مواربة أو لف ودوران، يرميان إلى إحلال ''شعب'' مكان الشعب الأصلي صاحب البلاد، وهذا لا يكون إلا من خلال الاقتلاع والتهجير، خارج حدود فلسطين أو خارج ما تمكن من السيطرة عليه من أرض فلسطين. باختصار، تمثلت خصوصية القضية الفلسطينية بسمة كفاح شعب فلسطين ضد الاقتلاع والتهجير، وضد فقدان الوجود على أرض الوطن. كما أن المسألة هنا خرجت من أن تكون حالة سيطرة مستوطنين على البلاد واضطهاد شعبها وممارسة الميز العنصري ضدهم حتى يتشابه الوضع بحالة المستعمرين الفرنسيين في الجزائر أو الأبارتايد في جنوب أفريقيا لكي يُردّ عليها بالمساواة المواطنية ومناهضة العنصرية. *** فالسمة الحاكمة للصراع هنا هي صراع حول الوجود وليس مواجهة سيطرة كولونيالية أو مواجهة ميز عنصري. وقد أغلقت الأبواب طوال المرحلة بين عامي 1918 و1947 (قرار التقسيم) في وجه كل المساومات التي قبلت بها قيادة الشعب الفلسطيني بالوجود المشترك في فلسطين بين شعبها العربي الفلسطيني (السكان الأصليين) والمهاجرين اليهود المستوطنين. فقد كان هدف المشروع الصهيوني العمل على اقتلاع الشعب الفلسطيني من فلسطين والحلول مكانه وتسويغ الاستيلاء على بيوته وأراضيه وممتلكاته كما لو كانت جميعاً غنائم حرب، وهذا ما حدث فعلاً وما زال يحدث يومياً. وذلك فضلاً عن هدف تكريس تجزئة العرب وضعفهم والسيطرة على دولهم بالشراكة مع دول الغرب الاستعماري الإمبريالي. طبعاً ما كان لعملية الاقتلاع أو هذا الصراع على الوجود في فلسطين أن يتمّا بضربة واحدة، وذلك لخضوع العملية لموازين القوى ومجموعة ظروف محلية وعربية وإقليمية وعالمية. من هنا بدأت العملية بالهجرة والاستيطان والاستيلاء على أجزاء من أملاك الدولة بين عامي 1917 و,1948 ثم انتقلت تحت غطاء قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 لتشن حرب الاقتلاع والتهجير من خلال المجازر عام ,1948 مما أسفر عن اغتصاب 78% من فلسطين وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني. فبالتأكيد نحن هنا أمام صراع وجود وليس صراعاً ضد هيمنة استعمارية (حركة تحرر وطني) ولا ضد ميز عنصري (حركة مناهضة العنصرية).. وحتى بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967 (أجبر نحو 600 ألف على النزوح)، وصدور القرار .242 ومن ثم حوّلت القضية لحصرها بالقضاء على الاحتلال ضمن خطوط الهدنة ما قبل 5 يونيو,1967 ولا سيما بعد إبداء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الاستعداد لحصر برنامجها في إقامة دولة فلسطين ضمن تلك ''الحدود'' والمساومة على ذلك بداية من خلال الاعتراف بقرار 242 (إعلان الاستقلال 1988). وجاءت تجربة السير على طريق التسوية السلمية لتؤكد أن المشروع الصهيوني بتواطؤ أميركي غربي لا يستهدف اقتسام فلسطين على أساس 78% مقابل 22% للفلسطينيين، وإنما راح يضاعف من الجهد الاستيطاني والتهويدي لاغتصاب ما أمكن من أراضي الضفة الغربية، وإبقاء بعض الفتات لتهجير من عليها مستقبلاً. (ماذا يعني ابتلاع الجدار والمستوطنات لأراضي القرى سوى التهجير، فالقرية تفقد سكانها ومعناها إذا فقدت أرضها الزراعية، وهذا يعني تهجير مئات ألوف جديدة لاحقاً). إذن نحن هنا أيضاً أمام صراع وجود وليس صراعاً ضد احتلال أو صراعاً حول تسوية سياسية تبقي للشعب الفلسطيني وجوداً جزئياً على أرضه. بل وصل الأمر علناً إلى طرح أصل الحق في فلسطين، أي حق الوجود في فلسطين، أو بعبارة أخرى: فلسطين لمن؟ ومن هو شعبها صاحب الحق فيها؟ وبهذا يصبح الصراع وجود وجدود بلا حدود. وهذا بالضبط ما يعنيه الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، فهذا الاعتراف يتضمن إقراراً بأن فلسطين المغتصبة منذ عام 1948 وما تمتد إليه دولة الكيان (فلسطين كلها عملياً) هو وطن لليهود فقط أو هي من حق اليهود فقط. فالمشكلة هنا تتناول أصل الحق، ومن ثم أصل الوجود على هذه الأرض، ومن ثم شرعنة كل ما أحدثه المشروع الصهيوني. هذه الإشكالية: صراع الوجود على الأرض، وصراع الحق في فلسطين، يولدان التباساً حين يدرج كفاح الشعب الفلسطيني ضمن إطار حركة تحرّر وطني شأنها شأن حركات التحرير الوطني لشعوب المستعمرات. فهذا الإدراج لا يطابق واقع الحال، كما لا يطابق واقع الحال حين يسمّى ما يجري بعملية ميز عنصري أو حالة أبارتايد. فما يجب أن نبحث عنه هو الوصف المطابق لواقع إحلال شعب مكان شعب آخر، وبلا أي حق، ومن خلال القوة العسكرية والمجازر، وبدعم من مجموع الدول الاستعمارية سابقاً، فالإمبريالية لاحقاً ولا سيما أميركا والدول الغربية حالياً. فالهدف هنا ليس التحرّر من هيمنة استعمارية أو إمبريالية وليس هدف نضال ضد ميز عنصري أو أبارتايد من حيث الجوهر، وإنما هو صراع من أجل الحق في فلسطين، بل هو مقاومة ونضال ضد إحلال شعب مكان الشعب الفلسطيني. فالشعب الفلسطيني يكافح من أجل تحرير بلاده واستردادها بالقوة عينها من اغتصاب الكيان الصهيوني لها. فالحالة هنا تتجاوز حالة حركة تحرّر وطني تقليدية وحالة مناهضة عنصرية تقليدية. على أن طبيعة العلاقة العضوية البالغة حد التماهي السياسي والعسكري والاقتصادي والأيدولوجي بين الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية من جهة، والإستراتيجية الأميركية خصوصاً والغربية عموماً من جهة ثانية، يعطي لهذا الصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني بُعدَه الكوني ضد الإمبريالية والعنصرية، مما يسمح بعقد التحالف الوثيق بينه وبين حركات التحرّر الوطني والمقاومات والممانعات وأحرار العالم عربياً وإسلامياً وعالمياً.