تاريخيا لم تشغل فكرة الدولة الفكر السياسي الفلسطيني ولذا لم يكن مفهوم الوطن الذي يقاتلون من أجله يتطابق دائما مع مفهوم الدولة الذي تنتجه التسويات السياسية، وعليه كثرت الدراسات حول الوطن والثورة، فيما قل التأريخ للدولة الفلسطينية ككيان سياسي وقانوني محدد المعالم كما تعددت التصورات حولها. عرف مفهوم الدولة الفلسطينية في الفكر السياسي الفلسطيني الحديث وتحديدا منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية 1964 حتى الآن سبعة تصورات أو مشاريع وهي: 1 - في الميثاق القومي الفلسطيني 964 جاء أن فلسطين ما بعد التحرير ستكون جزءا من دولة الوحدة العربية 2 - وفي الميثاق الوطني الفلسطيني 1968 جاء أن فلسطين بحدودها عام 1948 هي وطن الشعب العربي الفلسطيني 3 - ومنذ 1971 تم تبني هدف فلسطين الديمقراطية العلمانية التي يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون على قدم المساواة 4 - وفي عام 1974 تم تبني البرنامج المرحلي الذي يقول بسلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من ارض فلسطين 5 - وفي إعلان الاستقلال بالجزائر 1988 تم تبني هدف الدولة الفلسطينية المستقلة حسب قرارات الشرعية الدولية أي في الضفة والقطاع 6 - وفي خارطة الطريق تم الحديث عن دولة مؤقتة ستقام عام 2005 7 - ثم الطرح الإسلامي الذي يتحدث عن دولة الخلافة، بمعنى تجاوز المفهوم الوطني والقومي للدولة والنظر لفلسطين باعتبارها جزءا من الدولة الإسلامية المأمولة. اليوم وبعد تعثر المفاوضات وتراجع فرص قيام دولة في الضفة وغزة، وفي ظل الانقسام ما بين الضفة وغزة وسيطرة حركة حماس بإيديولوجيتها الدينية التي تتجاهل المفهوم الوطني للدولة، على السلطة في غزة، يعود الحديث مجددا عن الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية. هذا التعدد في مفهوم الدولة والانتقال من هدف لآخر ومن تصور لآخر أربك السياسة الفلسطينية وأربك المتعاملين معها، وأحدث انقساما داخليا ولا يخدم القضية الفلسطينية لأنه يظهر الفلسطينيين كالعاجزين عن تحديد هدفهم وغير الواثقين من شرعية حقوقهم. وحيث إنه سبق أن كتبنا بالتفصيل حول مفهوم الدولة في الفكر السياسي الفلسطيني (يمكن الرجوع إلى مجلة السياسية الدولية لعام 2005 وإلى موقعنا الالكتروني www.palnation.net ) فإننا سنقتصر في هذه المقالة على تبيان الفرق بين مفهوم الدولة الواحدة كما تم طرحه لأول مرة في نهاية الستينيات وكما هو مطروح اليوم مع التنبيه إلى خطورة الطرح الحالي. عندما طرحت حركة فتح الفكرة نهاية الستينيات وتم تبنيها رسميا ضمن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971 اعتقدت فتح أن فكرة فلسطين الديمقراطية العلمانية ستجد استحسانا من أطراف يهودية عالمية وأطراف دولية، لأن هذه الدولة ستمنح لليهود المقيمين في فلسطين نفس الحقوق التي هي للعرب الفلسطينيين حيث قالت الحركة: «نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم... مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية» تأكيدا من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلا: «إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق». وفي الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مذكرة للمجلس حددت فيها أن هدف النضال الفلسطيني «إقامة دولة فلسطين الموحدة بعد إزالة الكيان الإسرائيلي وتقضي على التمييز العرقي والعنصري، وتعتمد على حل ديمقراطي للتناحر القائم يستند إلى تعايش الشعبين العربي واليهودي»، نفس الموقف اتخذته الجبهة الشعبية التي أكدت على المضمون الأيديولوجي لفلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية اللينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير: (فلسطين المحررة ستكون جزءا من مجتمع عربي ثوري جديد... إن المجتمع العربي الجديد الديمقراطي الاشتراكي سيكون قادرا بالاستناد إلى مبادئ الماركسية اللينينية على توفير الحل لكل مشكلات الفقر والتخلف والاضطهاد والاستغلال التي يعاني منها إنسان هذا الوطن... وأن اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي. كان أشد المعارضين لشعار فلسطين الديمقراطية في الساحة الفلسطينية القوميون، من منطلق أن فلسطين الديمقراطية وبالتعريفات التي أعطيت لها تتناقض مع عروبة فلسطين ومع القومية والوحدة العربية .فرأت طلائع حرب التحرير الشعبية (الصاعقة)، أنه بالرغم من أن البحث في هذا الموضوع سابق لأوانه، إلا أنها تبدي تحفظها تجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية لأن )مثل هذه الدولة تتنافى مع الوحدة العربية التي تؤمن بها، فهي تسعى إلى إقامة دولة عربية واحدة لا حواجز فيها ولا حدود تفصل بين أقطارها، وكل حل للقضية الفلسطينية لا يتفق مع هذا المنطق يبقى حلا مرفوضا من الناحية الفكرية بالنسبة إلى الطلائع)، وبينت الصاعقة أنها (ليست ضد اليهود في فلسطين كشعب) ولكنها ضد الصهيونية، والحل الذي تراه مناسبا هو الحل الاشتراكي باعتباره الحل الإنساني الذي يكفل لليهود العيش بسلام وضمن حقوق متساوية مع العرب في إطار المجتمع العربي الاشتراكي. أما موقف جبهة التحرير العربية فقد اتسم برفض صارم لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وقام هذا الرفض على خلفية قومية وانطلاقا من تحليل موضوعي لطبيعة المجتمع الصهيوني، واستحالة نجاح أي مراهنة على نبذ اليهود لصهيونيتهم وهو الشرط اللازم للعيش في فلسطين المحررة معهم، وهي من منطلق رؤيتها للصهيونية كنفي لوجود الشعب الفلسطيني، ومن منطلق أن المجتمع الصهيوني القائم على الاغتصاب والعدوان هو مجتمع مضطهِد وظالم بمجموعه، تؤكد استحالة العيش مع هذا المجتمع، فالنقيضان لا يمكن أن تجمعهم أرضية مشتركة أو قيم واحدة. وتنهي جبهة التحرير العربية تحليلها الرافض لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية بالقول إن هذا المشروع الدولة الديمقراطية يمثل احتياطيا للحركة الصهيونية تلجأ إليه فيما لو أعدمت الوسائل الكفيلة بوقف الكفاح المسلح والمقاومة العربية وهو لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من تسوية تراعي فيها المصالح الاستعمارية والصهيونية، على حساب حركة الثورة العربية. مع عدم تجاهلنا لأهمية العامل الإنساني في تبني هدف «فلسطين الديمقراطية» وعقلانية هذا العامل في إطار التعامل مع القضية دوليا، إلا أننا نعتقد أن الدافع الرئيسي وراء تبني هذا الشعار والهدف آنذاك هو تلمس بعض العناصر القيادية في م.ت.ف وفي فتح تحديدا التي كان لها نصيب الأسد في ممارسة الكفاح المسلح وفي التعامل مع الأنظمة العربية والتصادم معها، تلمسهم الفجوة الكبيرة ما بين إمكانيات الثورة والشعب الفلسطيني من جهة وتحرير فلسطين عسكريا وإرجاع اليهود من حيث أتوا من جهة أخري، كان تبني هدف «فلسطين الديمقراطية» منطلق سياسة التسوية بالرغم من أن الثورة الفلسطينية والحالة العربية كانتا أفضل بألف مرة مما هي عليه اليوم. بالرغم من التنازل المُتضمن في هدف فلسطين الديمقراطية آنذاك، فإنه لم يجد إلا كل رد ورفض من الكيان الصهيوني، الذي قام على عقيدة شعب الله المختار، وعمل ويعمل على إقامة دولة يهودية نقية خالصة. فهل ستقبل إسرائيل اليوم ما رفضته سابقا؟ من الواضح أن العودة إلى الحديث عن خيار الدولة الواحدة تحت عنوان الدولة ثنائية القومية بديلا عن خيار الدولتين، من طرف السيد أحمد قريع، كبير المفاوضين، ليس مجرد حديث عابر، خصوصا أنه طرحه قبل ذلك في يناير 2005عندما كان رئيسا للوزراء وعندما كانت المفاوضات تمر بمأزق. حتى وإن كان المراد من هذا التصريح تبليغ رسالة احتجاج على تعثر المفاوضات وشكلا من التهديد للإسرائيليين أو للتمويه على شيء ما يطبخ في المفاوضات السرية، فإنه تنبني عليه تداعيات خطيرة ويعطي مؤشرات تستدعي منا التوقف عندها وعند فكرة الدولة الواحدة بشكل عام: طرح فكرة الدولة الواحدة اليوم على لسان قيادي فتحاوي كبير سيُضعف كل جهد ومسعى سواء للحوار لتوحيد شطري الوطن أو للنضال بكافة أشكاله لتحقيق هدف الدولة الفلسطينية. عندما تم طرح الفكرة لأول مرة في السبعينيات كان كل الشعب الفلسطيني خاضعا للاحتلال ولم تكن هناك سلطة فلسطينية ولا مشاريع تسوية واتفاقات تلزم الفلسطينيين بشيء، أما اليوم فهناك سلطة واتفاقات موقعة سواء مع إسرائيل أو مع أطراف خارجية. لا يجوز التلاعب بالحقوق الفلسطينية وبهدف النضال الوطني بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر كلما تعثرت المفاوضات أو فشلت النخبة السياسية في تحقيق الهدف الوطني، فالوضع الطبيعي والعقلاني هو أن يتم تغيير القيادة أو تنحيها عن مواقعها عندما تفشل وليس تغيير الأهداف مع بقاء نفس القيادات. طرح الفكرة اليوم وصيرورتها موضوعا للحديث والجدل عند السياسيين والمثقفين الفلسطينيين يعني إسقاط هدف الدولة المستقلة في الضفة وغزة أو تجاوز المشروع الوطني الفلسطيني الذي وُضِعت أسسه في دورة المجلس الوطني في الجزائر 1988. عندما تم طرح الفكرة لأول مرة بداية السبعينيات كانت الثورة الفلسطينية والوضع العربي بحالة من القوة، ومع ذلك رفضت إسرائيل الفكرة، فهل ستقبلها اليوم في ظل حالة الضعف الفلسطينية والعربية؟ وكيف ستقبل إسرائيل التعايش مع ملايين الفلسطينيين وهي غير قادرة على التعايش والتكيف مع حوالي مليون فلسطيني متواجدين فيها منذ ستين عاما؟ لقد فشلت الفكرة عندما كان الفكر السائد سواء في إسرائيل أو عند الفلسطينيين فكرا يساريا واشتراكيا ومتفتحا، فهل للفكرة نصيب من النجاح اليوم في ظل فكر ديني توراتي يسيطر على المؤسسة الرسمية الإسرائيلية ويعم إسرائيل التي تسعى إلى أن تكون دولة يهودية خالصة، وفي ظل فكر ديني يتزايد انتشارا عند الفلسطينيين وخصوصا في قطاع غزة حيث الحديث عن حكم أولياء الله وحكومة ربانية؟ وكيف سيعيش أولياء الله مع اليهود فيما هم غير قادرين على التعايش والتصالح مع أبناء جلدتهم من فلسطينيين مسلمين وعرب؟ إن خطورة طرح الفكرة اليوم تكمن في تجاوز كل قرارات الشرعية الدولية والعربية، من قرار التقسيم حتى المبادرة العربية والتأسيس لشرعية ومرجعية جديدة لا نعتقد أن الوضع الدولي والعربي مستعد وقادر على تأسيسها. لا شك أنه في حالة فشل كل خيارات التسوية ليس أمام الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق إلا التشبث بأرضهم، ولكن فرض وضع الدولة ثنائية القومية يحتاج لنضال لا يقل عن النضال من أجل الدولة المستقلة وهذا يتطلب وجود استراتيجية فلسطينية واحدة حول هذا الهدف ولا يبدو في الواقع أن هناك إمكانية لوجود هذه الإستراتيجية. إن من يفكرون بحل الدولة الواحدة إن فشلت كل الخيارات الأخرى عليهم أن يعلموا بأن أول خطوة في هذا الاتجاه هي حل السلطة الفلسطينية بحكومتيها، لأن السلطة جزء من المشروع الوطني، مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة، ويتطلب أيضا عودة احتلال قطاع غزة حتى يكون العامل الديمغرافي مؤثرا. ما نخشاه من وراء طرح فكرة الدولة الواحدة في ظل حالة الضعف الفلسطيني والفصل ما بين غزة والضفة واستمرار وجود السلطة الفلسطينية في الضفة، أن تقتصر فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية على الضفة الغربية فقط، وهذا أمر حذرنا منه منذ سنوات ونعتقد بأن مراكز تفكير استراتيجية إسرائيلية تفكر اليوم بهذا الشكل.