هذه حلقات وسمتها ب “النظرية الأخلاقية في الإسلام”، جوابا عن سؤال: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟. أضعها بين يدي القارئ الكريم سلسلة منجمة في هذا الشهر الفضيل، لعلها تسهم ولو بقدر يسير في إعادة إحياء السؤال، في زمن أصبح فيه سؤال الأخلاق ملحا أكثر من أي وقت مضى. فالناظر العارف المطلع يفهم أن باب السؤال، سؤال الأخلاق هو من الأسئلة المتسعة والتي تم تصنيفها منذ الفلسفة الأولى كباب من الأبواب الكبرى التي تهم الفلسفة. وعليه فباب الأخلاق وسؤال الحسن والقبيح والخير والشر وغيرهما من الثنائيات لم يخل مجتمع من المجتمعات المعرفية من الاهتمام بها والكتابة عنها وفيها. وربما كان هذا هو السبب في جعلي في هذه الحلقات لا أولي اهتماما كبيرا للجانب النظري والمناقشات النظرية، التي هي على كل حال مدونة مشهورة يعلمها العالمون. فقد ركزت بالأساس على ما يظهر من أخلاق المسلمين وبما يضمر اعتمادا في تفسير ذلك على خطاب الدين والمعرفة العامة. إن الذي ينظر في مجتمع الصحابة يفهم أنه كان مجتمعا بما تحمله الكلمة من معنى مجتمع، مجتمع صحراوي خرج للتو من القبيلة إلى المدينة، مجتمع يحاول أن يتخلص من عاداته الجاهلية ويزكي أخرى، بعيدا عن التغريض والتضخيم؛ الذي سببه النفوس الضعيفة التي تريد إلباس الدين حالها الموجب للإشفاق. والمسلم مطالب بصنع النموذج الدائم الذي يكون مستقبله أرفع من ماضيه بالنظر في ماله وفي ما ليس له. وفي مجتمع النبي آلاف العبر والمواعظ، ولكن الطريقة التي تم التعامل بها مع هذه التركة كانت كارثة على الأمة؛ حتى لتسمع من يردد قول عبد الله بن المبارك حول المفاضلة بين عمر بن عبد العزيز ومعاوية بن أبي سفيان، فيقول قولا شنيعا قادر على تشويه المعنى الأخلاقي في عقول المسلمين، يقول: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله أفضل من عمر بن عبد العزيز بألف مرة. وقد تسمع من يقول إنه لا يقاس أحد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الخلاصات البئيسة التي تشيع بين العامة؛ والتي قد يراد منها الرفع من قدر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هي قادرة على نسف روح الأخلاق في وجدان المسلم، وإلا كان أن يذكر الصحب بالمحاسن لا بحجية المصاحبة التي اختزلوها في الرؤية، والمسلم مطالب بالإحسان على نهج من أحسن منهم وشكرهم والثناء عليهم في حدود بشريتهم، ومطالب بتجنب ما قاموا به من سيئات باعتبار بشريتهم المعترف بها بنص القرآن. فكيف نستطيع أن نفسر للشباب أنه كان في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة تقاتل فقط من أجل الغنائم بما يسجله الخبر وبما يقيده قوله تعالى: “ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة” ألم يكن حريا أن نريهم الحقيقة بدلا من إخفائها؛ حتى نخلق جيلا واقعيا ينظر لماضيه بواقعية ونقد من غير عقد، أم أننا سنكون دائما مضطرين للخوف من الحقيقة. لقد ساهمت الحركة الإسلامية في كثير من الأسقام؛ لما كانت في مرحلة ما مضطرة للرد على الدهشة الغربية، كانت مضطرة إلى أن تعود إلى الماضي لتبحث عن قدوات لشبابها لما أصبح الغرب قدوة يفرض نفسه على الواقع، ولكن المشكل هو أن الأمور لم تتم بالطريقة الصحيحة لاعتبارات عديدة سوف نتحدث عنها في حينها. لقد وقعت الأمة في فخ المثالية وانتصار العقل الوعظي المفارق على حساب الواقع، وهذا ما يعطينا نتائج عكسية تجعل المسلم مرتفعا عن واقعه؛ لأنه يعيش في عالم ليس عالمه، ويريد تمثل سلوكات لم تكن واقعا كما نقلت إليه، فيتحول تدينه هذا إلى أسقام نفسية تجعله مريضا بعقدة الذنب والدونية واحتقار الذات الفردية والجماعية. فالنتائج المنقولة بالانطباع تقول إن البلد الذي يكثر فيه الوعظ والإرشاد غالبا ما يفشل في تحقيق مراد الدين، لأنه ينطلق من مقدمات غير صحيحة ولا علاقة لها بحقيقة الدين ولا واقع ما يبشر به. فالذي يبنى على باطل، هو بالضرورة باطل. لقد احترف الوعاظ الكذب ضدا على إرادة الدين، سيرا على نهج أسلافهم الذين وضعوا آلاف الأحاديث زورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغهم حديث النبي المشهور: ‘من كذب علي متعمدا' قالوا إنما نكذب له. قالوا هذا لأنهم هكذا ينظرون للإسلام ضعيفا يحتاج لمن يكذب له ولا يحمل قوة في نفسه مثلما يحملها العلم الطبيعي، فهو يحتاج للمطبلين والمخرفين والكذابين لينتصر. وقد حدث أن اخترعوا آلاف الأكاذيب في زمن قبل النت وصدقها الناس وحاجوا بها غيرهم، ولما جاءت الشبكة العنكبوتية احترفوا التزوير الرقمي والفوطوشوب لنصرة قضايا إنسانية أغلبها عادلة، ولم تكن في حاجة لمن يكذب لها. بل أصبح هذا دأب كثير منهم يجنون على أنفسهم والدين. وبدلا من الحصول على نتائج مرضية رأينا كيف تحول الإسلام بهؤلاء إلى أضحوكة بخطابات وعبارات مسكوكة يتقاذفها الشانئون والمغرضون في نواديهم. ولو أن هؤلاء القوم كانوا على دراية بمقاصد الشرع لألفوا أن الحق إذا كان حقا وعدلا، وأيقن صاحبه أن ما يعتقد حقا وعدلا؛ لم يكن في حاجة إلى الاحتماء بالباطل، فقد ذكر الإمام مسلم في صحيحه جانبا من هذا قصة ‘الرجل الذي كان معروفا بالجرأة والنجدة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :تؤمن بالله ورسوله. قال لا. قال: ارجع فلن أستعين بمشرك'..وهذا إنما يقضي بأن الحق لا يحتاج إلى باطل. وقد صدق الخبر، فالحق لا يحتاج فقط للنصر بأي وسيلة، بل لا بد من صدق الوسيلة وفضيلة الوسيلة. والقرآن يأمر بالعدل حتى مع المخالفين، فكيف بالافتراء لنصرة دين. يقول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”.