في تجربته السردية الأولى “دموع ودماء”، يؤسس الكاتب المغربي يوسف صبري لأبعاد جديدة في الحكي وبشخصيات ورقية تكابد صعوبة وجودها الرمزي، تحيل من خلاله على عوالم متخيلة ملغومة، عمل من خلالها على إعادة ترتيب للعالم بواسطة الكتابة، تجسدها خلخلته لجسد النص الحكائي من خلال مكوناته العلائقية والتفاعلات المحركة لصيرورة السرد وهي تستهدف تعرية واقع معين يحيل على كل الأمكنة والأزمنة . المتن السردي في رواية “دماء ودموع” نموذج لكتابة إبداعية بهوية غير محددة أجناسيا تراهن على عدة ممكنات أدبية من خلال المراهنة على شكل تجريبي في الكتابة السردية باعتباره موقفا ثقافيا وابداعيا، كما تحيل على مفهوم النص بوصفه طريقة لا تقتصر على ضرب معين من فعل الكتابة وبسياق رمزي ينطلق من العنوان حيث الدموع والدم، كعتبة لها وظائفها المرجعية واللغوية والتأثيرية وبتفاعل سيميائي لصورة ثابتة كأيقونة يطغي عليها اللون الأسود، والأسود كما ترصده سوسيولوجيا الألوان هو لون العتمة والظلام، ويستحضره الملفوظ السردي بلغة دالة تحيل على عوالم قاتمة، ذلك أن العلاقة السيميائية بين اللون الموظف والمتن السردي نجده من خلال اللغة الموظفة في صفحة تقديم المؤلف: (كان الكاتب وحده يسرد تفاصيل الظلام في سجنه البارد الأبكم الساكن) لكن داخل السواد المسيطر نجد كوة من لون أبيض يحيل على الضوء، كدلالة على الأمل والخلاص وهو ما يزكيه أيضا نفس التقديم: (وقف على جهة من المعبر من أجل الخلاص) مع الإحالة على أيقونة شخص غير محدد الملامح، أي على ما يسمى بنمطية الشخصيات، وهو ما أسماه المؤلف في الصفحة الأخيرة بالأجيال كإحالة على تعاقبها الزماني والمكاني . المتن السردي (دماء ودموع) يرصد العمق الانساني والجوانب الجوهرية لشخوص نتعظ منها ونتنفس من خلالها الكون والحياة، استطاع خلالها الكاتب يوسف صبري أن يلتقط تفاصيل ما لم نستطع رؤيته في مجرى الحياة الصاخبة وضجيجها، ليمنح المتلقي رعشة وجودية تنفض الهم والغم عن شخصياته التي تفاعلنا معها، ونستحضر من خلالها فواجعنا التي ورثناها عن المكابدات اليومية لشقائها، وهي تعيش حكيها الداخلي حيث يقول: (في كل هذا السرد لا نفهم قمة الحزن والشرود الذي يطال هذا الإنسان ويطال كل المجال المحيط به). ( ص15). بناء المتخيل في المتن السردي واكتشاف دلالاته الجمالية والاستيتقية ينشد من خلاله المؤلف أيضا التعبير عن ذات تعيش قلقها، وهي تستحضر أفق شخصياتها انطلاقا من قصة متخيلة إلى الماضي، يجسدها التعبير بصيغة ضمير الغائب حيث يتم بناء الرؤية إلى العالم، ذلك أن المؤلف هو السارد كمعادل دلالي يتضمن رؤية تتوزع بين الماضي والحاضر، يسيطر على الحكي بل وعلى القارئ: “وقبل أن نقفل هذا الباب من حياة أبناء العم مسعود الذين تعددت مصائبهم، لابد أن نحيط القارئ الكريم” (ص41)، كما يتخذ الزمن المستعمل وسيلة لتمرير وعي ممكن يراهن على التغيير من خلال شخصية العم مسعود، تلك الشخصية المثالية أو كما يسميها المؤلف بالملهم (ص13)، يكيل لها كل التمجيد كبطل خرج من رحم الحرب: (فالعم مسعود بركة وطن وأرشيف أمة وتراث فريد يطلبه العابرون إلى أي اتجاه) (ص8). في التجربة الإبداعية (دماء ودموع) يلتحم الملفوظ السردي في خلخلته لنظرية الأجناس الأدبية بالمكون الاتوبيوغرافي، كإشارة تم توثيقها على الغلاف كتعاقد ضمني غير واضح: (كان الكاتب وحده يسرد تفاصيل الظلام في سجنه البارد الأبكم الساكن، يعبر بالأحاسيس الجماعية لأبطاله). (الصفحة الاخيرة)، ومن خلالها يظهر سيطرة المؤلف الذي هو السارد على شخصياته الورقية من خلال إتقانه للوصف كتقنية سردية تعتمد الجمل القصيرة الدالة، وهو يبني ملفوظه السردي من خلال ذاكرة الحكي المبنية على الاستذكار والاستحضار والاسترجاع، كمتكلم كما في نظرية التلفظ، حيث المزاوجة بين السارد – ضمير الغائب والمؤلف من خلال ضمير المتكلم، حيث يتوحد فيها المؤلف والسارد معا، وتجعل ملفوظهما السردي مزدوجا، يميل غالبا إلى تغليب كفة وجهة السارد، يحتكم فيه إلى الخيال للتوليد الحكائي عكس الذاكرة التي ترتبط بالمكون السير ذاتي، مما يكشف عن وعي استيتيقي لبناء اشتغاله السردي في تعالق بين الميثاق الاوتيبوغرافي والروائي وبواسطة سارد خارج حكائي، بصيغة ضمير الغائب، يعلم كل شيء موجود في كل مكان من النص، فالسارد يحضر بشكل محوري يتولى عملية السرد والحكي لشخصيات فضائها هو الوطن كمرجع للتمايزات والتفاوت، حيث الاحساس بالضيق والغربة والعزلة لعدم انسجامها مع الفضاء العام . ومن هنا نلاحظ أن السارد في (دماء ودموع) يحاول دائما ترسيخ شخصية العم مسعود التي صمدت حين خلدها التاريخ الذي صنعته في حقبة زمنية معينة، فهو يرى في هذه الأسماء الأخرى شخصيات سردية أخرى، لأنها لا تزال خالدة تحتفظ بمكوناتها وبمقوماتها الإنسانية رغم كل أشكال التعثر والتضليل الذي مورس عليها، حيث يقول: (فالحياة ممكنة والعيش الكريم غاية كل انسان، والطمأنينة هي المجبول عليها كل مخلوق، ومجرد رؤية شكل فريد غير هذه المسلمات، يعني أن في الأمر ما يسترعي المتابعة) (ص23). فشخصيات (العم مسعود)، (زهرة)، (محمد القاضي)، (فوزية) و(جليل)، وغيرها من الشخصيات الأخرى، تظهر وكأنها حقيقية، صنعتها الأحداث التاريخية، وبلورت لديها وعيا جديدا، تحمل على أساسه أعباء مرحلة تضطرب بشتى أنواع الصراع، فلم تكن بطولتها هامشية، تعود بالذاكرة إلى اضطراب الحياة السياسية وبدايات تشكيل الوعي، كما أنها تحفل بتعددها اللغوي، إذ نجد السارد والشخصيات الساردة تحكي داخل فضاء لغوي يطبعه التعدد من لغة الهذيانات واللاشعور والجنون واللاوعي ولغة الحلم والغريب والفانطاستيك، ويحاول السارد وسط هذا التعدد والتنوع في الأصوات واللغات والفضاء، بناء عالم حكائي خاص به يحكي من خلاله الأحداث إلى جانب الأصوات الأخرى التي تتفاعل داخل المحكي. لقد استطاع الكاتب يوسف صبري انطلاقا من هوسه بالسوسيولوجيا أن يبني شخصيات ( دماء ودموع) من خلال تحويلها من الورق إلى الوجود، وأن يقيس ذلك التماهي الفلسفي بين المتخيل والحقيقة، وفي تفاعل ذكي بين تداخل الحكي ما بين المؤلف والسارد، ليفتح بذلك أمام القارئ كل فرضيات البحث عن اقتحام مسالكها السردية للتفاعل مع ذات جربت كل الألم وتريد أن تعيد قراءة العالم وكل مفارقات العيش فيه بكل إبداعية .