قلاع رجال الأمن على شاشة تلفزيون الواقع قليلون كانوا يتصورون أمراً كهذا، فالقوات العمومية من شرطة ودرك ومطافئ في بلداننا العربية تبدو دوماً كتومة ومحتجبة. توحي بالرهبة ويصعب الاقتراب منها. وبالكاد يجرى الحديث بخصوصها سوى بالإجلال واحترام قلاعها المحصنة. برنامج 24 ساعة على 24 الذي تنتجه قناة «ميدي1 تي.في» المغربية كسر هذه القناعة وأبان عن إمكانية التعرف على هذه الجسم المهم والكبير الذي يحتل مكان حامي الدولة والأمن العام. وأتى هذا عبر عرض المحطة ومنذ أكثر من شهرين حلقات ميدانية واستطلاعية تروم التحقيق والتعريف، نقلت المشاهد المغربي إلى رحم مراكز مختلف أجهزة الأمن من رجال الأمن والشرطة القضائية والدرك الملكي والمطافئ. وتتبع البرنامج سيناريو برامج الواقع وآليات التحقيق والبحث عن الخبر والمقاربة الحية اللصيقة كي يبث كل ما تتضمنه مهنة حماة الأمن من تميز ومن إعداد ومن مخاطر، كما أظهر ما تحويه من مساهمة ودور كبيرين في ضمان أسباب الراحة والعيش الجمعي، مع غوص في الواقع الخفي والسفلي للمجتمع. ولوحظ انخراط تام لكل الأجهزة والأفراد المعنيين في جو الحلقات، فسايروا كل مراحل التحقيقات، كما لم يتوانوا عن الرد عن كل الأسئلة وتبيان كل ما قد يغلق على المشاهد. وهم بهذا غيروا تماماً النظرة العامة السابقة بكثير من المهنية. ما أشّر من دون شك إلى مرحلة جديدة تتبنى مقاربة «غير أمنية» تجاه المواطن. وبدا هذا طبيعياً وإلا لما كان التصوير والمشاركة وفتح الباب أمام الإعلام التلفزي على الخصوص المتسم بجماهيريته وسعة مجال تحركه ووصوله للكل. وقد بدأ الأمر في حلقة «الشرطة القضائية» في مجال تحركها في أحياء المدن الكبرى كالرباط والدار البيضاء، حيث تمت معاينة القبض على مجرمين، كما تمت متابعة سير التحقيق والوصول إلى الحقائق مع كل ما يتطلب ذلك من أناة ومخالطة وتجربة. وقد لوحظ تمكن رجال التحقيقات من لغة عربية مهنية فصيحة وبليغة في تعليقاتهم وإجاباتهم عن مختلف مراحل عملهم الميداني. أما الخلفية الواقعية للمشاهد فقد منحت الحلقة جواً درامياً وتشويقياً، حيث كان بالإمكان مشاهدة السكان والأجواء التي يتحرك فيها المجرمون، كالأسواق الشعبية والأحياء القصديرية. الشيء الذي يعطي فكرة «سوسيولوجية» عن مجال عمل الشرطة. تماماً كما يحدث في مدن العالم الكبرى. وكانت أبرز الحلقات حتى الآن هي الحلقة المخصصة لرصد مهمات الفرق الخاصة للدرك الملكي وحلقة متابعة سبل تكوين فرق الشرطة المتخصصة. وهي التي أبدت التحقيقات مثيرة، وإذ فتحت أبواب أسرار عملها لأول مرة للتلفزة. بحيث تابع المشاهدون كيفية إجراء تدريباتها الشاقة والمميزة، وكيفية تدخل أعضائها براً وجواً وبحراً في مجال درء الكوارث الطبيعية، ومحاربة الهجرة السرية وتجارة المخدرات على المستوى الدولي، خصوصاً في مكافحة الإرهاب عبر تدخلات استباقية دقيقة التفاصيل. والانطباع العام الذي يٌخلص إليه ينحو منحى أنهم يتوافرون على كل ما يُمَكّن من وضع الثقة. كما يذكرون بما تتم مشاهدته في الحلقات الشهيرة للوثائقيات العالمية. لكن ما يسترعي الانتباه أكثر وبشكل جلي، هو الشكل الذي قدمت به الحلقات. فقد روعي فيها التشويق والتنويع والإيجاز الذي لا يقطع حبل «الحكي»، لأن الحلقات ككل تلوح مثل قطع سرد مدروس بأشخاص حقيقيين وأحداث غير مألوفة وحبكات أساسية كما هو معهود في حكايات الجرائم. سوى أنها هنا قطع من الواقع الحي وليس استيهامات أو خيالاً. والنتيجة هي أن المتفرج غير المتعود سيشعر بوجوده داخل عالم قريب منه وفي جل نواحي عيشه، وسيرى بأن سيارة الأمن أو الدرك التي تمر بالقرب منه يومياً من دون أن ينتبه لها، هي جزء من مسار مهم وجاد إلى أقصى الحدود ويتسم بالرهبة والمسؤولية الكبرى. لقد نجح هذا البرنامج الجديد والجدي في خلخلة برمجة تلفزيونية مغربية محايدة. وتمكن من فتح العين على مكوّن حي من مكونات المجتمع لم يتم التطرق إليه من قبل أو نادراً وبحسب فرص غير مفكر فيها أصلاً. هو زمن إعلامي ومجتمعي جديد لا شك في ذلك.