أعلنت الثورة الفلسطينية المعاصرة عن انطلاقها عبر عمليات عسكرية فدائية استهدفت جيش الاحتلال ومستوطنيه؛ وشكلت هذه الانطلاقة انعطافة هامة في حياة الشعب الفلسطيني، الذي كان حينها لا يزال يعيش صدمة النكبة وتداعياتها. وفشلت محاولات الدولة العبرية إخماد الثورة بكل ما تملك من ترسانة حربية وقدرات استخبارية من خلال اعتداءات مباشرة على مواقع الثورة ومخيمات اللاجئين، ومع تجاوز هذه المحاولات، تجذرت الثورة وتطورت بناها وهياكلها مع بلورة البرنامج الوطني التحرري في إطار منظمة التحرير الائتلافية. ومع ذلك، بقي العامل الحاسم الذي يعطي الثورة زخمها هو الحركة الشعبية في ميدان المواجهة مع الاحتلال، وعبرت عن ذلك بوضوح عبر انتفاضات جماهيرية عارمة وضعت الدولة العبرية أمام حسابات جديدة. اندلعت الانتفاضة الكبرى في مرحلة شهدت ذروة المحاولات لتجاوز منظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وفي وقت توزع الموقف العربي الرسمي على محاور وتكتلات عدة ، وفي ظل السعي الإسرائيلي المحموم على اختراع بدائل عن المنظمة وتقديمها طرفاً في تسوية سياسة تديم الاحتلال وتنهي مقاومة الشعب الفلسطيني. من هذه الزاوية، شكلت الانتفاضة بزخمها الشعبي واستمرارها تجديداً لشرعية المنظمة وبرنامجها الوطني ، وعبرت عن التفاف الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وشرائحه الوطنية حول هذا البرنامج . وهو الانجاز الأول للانتفاضة ؛ وتراجعت بالتالي جميع المحاولات التي سعت لتجاوز المنظمة وتسويق بدائل لها. وفي سياق المواجهة الميدانية مع الاحتلال ، جسدت الانتفاضة وحدة الشعب الفلسطيني وتكامل حقوقه وأهدافه الوطنية في جميع أماكن تواجده بما فيها أراضي ال48 . وشكلت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة بوصلة هامة توجه فعالياتها وترسم لها المهام اليومية في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة. في الجانب السياسي، كانت أهداف الانتفاضة واضحة في طرد الاحتلال من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وإقامة الدولة المستقلة بعاصمتها القدس وضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها إبان النكبة ، والذي يكفله لهم القرار الدولي 194. وتحت هذا السقف كانت بيانات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة توجه نضالات المنتفضين في الميدان وبعد عام تقريباً على اندلاع الانتفاضة، صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني «إعلان الاستقلال» وعلى اساسه حصد الشعب الفلسطيني اعتراف غالبية أعضاء الأممالمتحدة بدولة فلسطين، وجددت الأممالمتحدة اعترافها بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه. وبذلك تكامل الفعل الميداني مع الجهد السياسي والديبلوماسي كمتلازمة لابد منها كي تتقدم أي حركة تحرر وطني على طريق الخلاص مع الاحتلال. ومنذ اندلاعها جهدت سلطات الاحتلال كي تضع حداً لها وبذلت كل ما تستطيع من أجل إخمادها ، واستخدمت لهذا الغرض جميع أشكال القمع وفشلت في ذلك. وشكلت الانتفاضة مع استمرارها وتعاظمها هاجساً مقلقاً لدولة الاحتلال وحلفائها وفي المقدمة الولاياتالمتحدة ؛ التي كثفت جهودها للالتفاف على الانتفاضة وأهدافها مع انكشاف الفشل الإسرائيلي في إنهائها . وقد أبدت واشنطن استعدادها للحوار مع منظمة التحرير وهي التي تضعها في قائمة المنظمات الارهابية ، وكان واضحاً أمام الكثيرين أن الهدف الأميركي وراء ذلك هو خلق حالة من الإرباك في صفوف قيادة الانتفاضة مستغلة نزعات الرهان على دور الولاياتالمتحدة في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كامتداد لمسار كامب ديفيد على الجبهة المصرية. وأرادت واشنطن بالأساس وضع سقف سياسي منخفض عن السقف الذي وضعه البرنامج الوطني التحرري الفلسطيني، والذي جددت الانتفاضة التأكيد عليه. ومن باب المناورة، أعلنت الولاياتالمتحدة مبدأ «الأرض مقابل السلام» كعنوان لمؤتمر مدريد الذي انعقد في خريف العام 1991، بدعوى إيجاد حل للصراع الفلسطيني /العربي الإسرائيلي. واستفادت واشنطن من التطورات العاصفة التي وقعت على الصعيدين العالمي والإقليمي، وخاصة انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية وماتبعه من ظهور نظام عالمي جديد تشكل فيه الولايات المتحد القطب الأوحد، بالإضافة إلى تداعيات الغزو العراقي للكويت والحرب التي تلت ذلك. بدأت مقدمات الانقلاب على الانتفاضة وأهدافها منذ لجوء القيادة الرسمية الفلسطينية إلى مسرب المفاوضات السرية مع الاحتلال، والتي أدت إلى توقيع اتفاق أوسلو في أيلول /سبتمبر من العام 1993، وقد شكل طعنة لحصيلة النضالات الفلسطينية وحجم التضحيات الكبيرة منذ اندلاع الثورة وماحصده الشعب الفلسطيني من انجازات تمثلت في عشرات القرارات الدولية التي أكدت على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ولقد غيبت هذه القرارات عن نصوص الاتفاق وقواعد التسوية التي قامت بموجبه، والتي اعتمدت آليات تنفيذ تضمن سيطرة تل أبيب على مسار المفاوضات ومآلاتها. وقد تمكنت فعلاً إيقاف نبضات تسليم مناطق من الضفة إلى السلطة الفلسطينية عند حدود سياساتها التوسعية، واكتفت دولة الاحتلال بتسليم السلطة الولاية الادارية على مناطق محدودة في الضفة وهي التجمعات السكانية باستثناء القدس التي تصر تل أبيب على اعتبارها العاصمة الموحدة لإسرائيل. والأخطر في كل هذا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة اشتغلت على تنفيذ سياساتها التوسعية في الضفة والقدس مستفيدة من تغييب موضوعة وقف الاستيطان عن أسس الاتفاق وربما كان الاستيطان حو المتحرك الوحيد مع قطار التسوية التي اقتصرت «إنجازاتها» على إحالة مهمة إدارة حياة «السكان» الفلسطينيين إلى السلطة الفلسطينية وعلى نفقة الدول المانحة. وباعتبارها الراعي الوحيد للتسوية، عملت الإدارات الأميركية المتعاقبة على ضبط المفاوض الفلسطيني في زاوية حلبة المفاوضات. ومع أن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة أكد على ضرورة قيام دولة للفلسطينيين ودعا إلى تجميد الاستيطان ووقف هدم المنازل، إلا أن السياسة الأميركية العملية استمرت لصالح الانحياز للاحتلال واعتباراته الأمنية والتوسعية. المفاوض الفلسطيني ومرجعيته السياسية اعترف متأخراً بفشل الاتفاق وانحياز الراعي الأميركي لإسرائيل، لكن ذلك لم يتحول حتى اليوم إلى سياسة معتمدة لدى القيادة الرسمية الفلسطينية ،على الرغم من أن الموقف الأميركي بات أشد انكشافاً وانتقل من الانحياز مع الاحتلال إلى التطابق مع مواقفه بمجيء إدارة ترامب. ومنذ الانتفاضة الكبرى التي وئدت على يد الانقلاب عليها، وقعت انتفاضات عدة في مواجهة الاحتلال سعت إلى تصويب البوصلة السياسية للقيادة الرسمية التي لم تغادر حتى اليوم سياستها الإنتظارية وحنينها إلى اتفاق أوسلو الذي لم يتبقى منه سوى قيوده الأمنية والاقتصادية والسياسية.