بعد الحوار الذي أنجزناه مع المفكر والكاتب عبد الإله بلقزيز في صيف 2015 بجريدة الاتحاد الاشتراكي، وفي تقديمنا لهذا الحوار التزمنا مع المفكر وقراء الجريدة أن الحوار سيكون في ثلاثة محاور رئيسة: وهي الأدبي، والسياسي، والفكري. في صيف 2015 كان الحوار أدبياً وذاتياً. أما اليوم فإننا نطرق بوابة السياسي في إنتاج هذا المفرد بصيغة الجمع. انطلاقاً من كتاباته السياسية التي تدخل ضمن مشروعه النظري والفكري العام؛ حاولنا مشاكسته في بعض القضايا السياسية في راهننا العربي: فلسطين، العولمة، الديمقراطية، الدولة، المعارضة، ثم الخطاب القومي، والربيع العربي، وغيرها كثير. كلما اقتربت من عبد الإله بلقزيز إلاّ وازداد حباً وتقديراً؛ فهو المبدئي الذي لا يفرط في مبادئه، مهما كان الثمن، يدافع عن مشروعه القومي باستماتة فارقة. فالمتتبع لأعماله سيصل، بالضرورة، الى هذه التقدمية، والحداثية في إنتاجه الفكري، وممارسته المهنية، وانخراطه في الجبهات المناهضة للعولمة والامبريالية… بل أكثر من ذلك فكتاباته السياسية تستشرف المستقبل، ليس لأنه يؤسس نظره على الفكر السياسي، والحداثي، والفلسفي، وإنما في انخراطه الكلي في قضايا العالم العربي. نفتح هذا الحوار لنتقرب من هذا الرجل أكثر؛ الرجل الذي يُحيط زائره بالحبّ والتقدير والكرم. نقول له شكرا لأننا اخترقنا عالمك، وفتحت لنا قلبك للحديث عن أوجاعنا، ومطبّاتنا، وأعطابنا السياسية والتاريخية. وأقول شكراً للصديق محمد رزيق الذي شاركني في إنجاز هذا الحوار، والشكر موصول الى الاصدقاء الذين قاموا بتفريغ الحوار وكتابته (الإخوة محمد البوقيدي، محمد زكاري، إبراهيم وانزار). أملنا في أن يكون هذا الحوار إطلالة على الجوانب المهمة من فكر هذا الرجل.
o الملاحظ في كتابتكم السياسية متابعتكم للأحداث وهي ساخنة. ما الذي يجعلكم لا تنتظرون هدوءها؟ (أعطي مثلا: كتابكم حول زمن الانتفاضة وحول الربيع العربي). n أمارس نوعين من الكتابة، التي مدارها على شؤون السياسة، نوع سِمَتُه متابعةُ الحدث في سيولته قصد فهمه وتحليله وبناء رؤية حوله، أيا تكن المآلات التي يمكن أن يؤول إليها ذلك الحدث؛ وهذا النوع من الكتابة يستجيب لطلب ذاتي –عندي أنا من جهة- هو أن أكون يقظاً تجاه ما يحصل، وأن أتخذ الموقف الفوري مما يجري. وله وظيفة أخرى في علاقة بالقارئ والجمهور هي تقديم إجابات متواضعة عن أسئلة تشغله وهو يتابع الحدث عينه. هذا نوع من الكتابة مكانه الطبيعي هو الصحيفة. هناك نوع ثان من الكتابة في الشأن السياسي، يتعلق بما يمكننا أن نسميه البحث العلمي أو الدراسة المتكاملة في مسألة تكون قد تبلورت اتجاهات التطور فيها على النحو الذي يسمح ببناء استنتاجات وإصدار أحكام. وهذا، أيضاً، مارسته استجابةً لحاجة معرفية أكاديمية ذاتية وموضوعية، ولا أرى أن ثمة تناقضاً بين الأمرين، بل بالعكس كلما جَرَّبَ المرء أن يكون مواكباً للأحداث بالرأي وبالإضاءة، كان أصدق في علاقته بتلك الأحداث مما لو انتظر ما ستتمخض عنه أو ما سينجم منها من نتائج، والمعظم من الكتاب – ما عدا من تضطرهم مهنتهم التي هي الصحافة أن يواكبوا الأحداث – أقول: المعظم من الكتاب يميلون إلى الخيار الثاني فيسلكون الرَّيثً والرِّسْلَ حتى لا تصطدم المواقف التي قد يصدرونها بتطورات مفاجئة تفسد عليهم استنتاجاتهم. أنا لست من هذا المذهب خاصة في ما يتعلق بقضايا أشعر أنها صميمية وتمسني وتمس مجتمعي وأمتي، وعلى عاتقي واجب بأن أشارك فيها ولو بالرأي وبالموقف. ولذلك لا أرى تعارضاً بين الطريقتين في مقاربة مسائل السياسة. o في متابعتكم للقضية الفلسطينية، يخال المرء أنكم تعرفون دقائق الأمور عنها، وكأنكم أحد قادتها. كنتم في البداية ضد "اتفاق أوسلو"؛ إلا أن هذا الأخير أضحى مرجعاً سياسيًا الآن، والغريب في الأمر، أن ما انتقدتموه في الاتفاقية تلك هو ما أضحى واضحاً اليوم. ونحن نبتعد عنها زمنياً، في نظركم هل ما زال السلام ممكناً أم أن ما نُزِع بالقوة لا يُرَد إلا بمثيله. (تجربة جنوبلبنان مثلاً)؟ n أما كوني – كما تفضلتم – مُلماً بالشأن الفلسطيني فهذا موضوع نظر؛ نعم، ربما كنت شديد الصلة بهذا الشأن، والأمر يعود إلى فترات مبكرة من حياتي. لم أكن قد بلغت الرابعة عشر من عمري حين كتبت عن المقاومة والقضية الفلسطينية، وارتبطتُ بها منذ ذلك الحين، انطلاقا من الأدبيات التي قدمتها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" ومجلتها "الحرية" قبل أن أُوسِّع دائرة العلاقة مع أدبيات فصائل أخرى مثل حركة "فتح"، و"جبهة التحرير الفلسطينية" و"حماس" و"الجهاد" و"الجهاد الإسلامي". ولقد قُيّظَ لي، في مسيرتي الحياتية، أن أتعرف على مناضلين فلسطينيين وقادة فلسطينيين كبار: الشهيد أبو عمار والمرحوم جورج حبش والطيب الذكر نايف حواتمة والمرحوم أبو إياد وخالد الحسن وآخرين. ووضعتني هذه الصلة على مقربة من مزاج القرار السياسي الفلسطيني، من جهة، ثم أطلعتني على خريطة تناقضات داخلية ما كنت لأستطيع أن أقف عليها انطلاقًا مما كنت أقرأه من تقارير أو من دراسات. لكنني أشعر، فعلاً، بأن لقضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني جاذبية كبيرة وجدانية وفكرية عندي، واعتقد أن هذا مما يمكنني أن أفتخر به لأن هذه قضيتي والشعب الفلسطيني شعبي وفلسطين قطعة من أرضي، وسأظل وفياً لهذه القضية أيا تكن المآلات التي وصل إليها العمل الوطني الفلسطيني اليوم. هذا في المسألة الأولى، أما في ما خصَّ "اتفاق أوسلو" فكتبت ضده وانتقدته انتقاداً شديداً، حتى أنه، ولفترة طويلة، انقطعت صلاتي بالقيادة الية لهذا السبب، والأخ أبو عمار رحمه الله على نحو خاص. وكنت صادقاً في رأيي حين قلته إن هذا الاتفاق انتحار سياسي بامتياز لأن فيه تفريطاً فادحاً في حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وأن اتفاقاً يعلن مبادئ تقيِّد الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا تقدم أكثر مما قدمته، أي حكمًا ذاتياً انتقاليًا لا ضمانات بأن يتحول إلى حل سياسي كامل يسفر عن قيام دولة فلسطينية مستقلة، إن اتفاقاً من هذا النوع لا يمكن إلا أن يشكل متاهةً جديدة في تاريخ العمل الوطني الفلسطيني. كان رأيي هكذا، وكنت في الأساس ضد مؤتمر مدريد حينما انعقد في أكتوبر 1991 وضد مشاركة وفد منظمة التحرير الفلسطينية في الوفد الأردني. وحتى حينما استقل الوفد، وانتقلت المفاوضات من مدريد إلى واشنطن في جولاتها الأحد عشر، انتقدتُ الخروج عن التنسيق العربي النسبي الذي كان في مفاوضات مدريدوواشنطن، وفَتْحَ قناة سرية في أوسلو لأنه بفتح هذه القناة السرية استفرد العدو الصهيوني بالمفاوض الفلسطيني وفرض إملاءاته وشروطه عليه وكان ذلك فادحًا جداً على صعيد ما استطاعت القيادة الفلسطينية أن تتحصله من المفاوضات في أوسلو. والأنكى والأمَرُّ من ذلك كله أن هذا الاتفاق ضحى بكل موار القوة التي كانت في حوزة الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية: الموارد القانونية والموارد السياسية والموارد العسكرية؛ ضحى بكل ترسانة القرارات الصادرة عن الأممالمتحدة جمعيةً عامة ومجلسَ أمنٍ وخاصة القرارات المتعلقة بإقرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. "اتفاق أوسلو" تجاهل هذا كله بما في ذلك القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة الخاصة بحق الشعب الفلسطيني في ممارسة الكفاح والمقاومة ضد العدو بكل الوسائل بما في ذلك الوسائل العسكرية. ضحى أيضا بكل القرارات المتعلقة أيضًا بعدم شرعية الاستيطان الصهيوني، والتي تتعلق بعدم شرعية الإجراءات الإسرائيلية القاضية بتغيير وضعية القدس، أي ما نسميه نحن بتهويد القدس، والقرارات المتعلقة بحق اللاجئين في العودة وعلى رأسها القرار 194. إذن كل هذه المكتسبات، التي كان يتمتع بها الشعب الفلسطيني والتي تصون حقوقه والتي اعترف له العالم بها، ضُحِّيَ به في "اتفاق أوسلو". أيضًا "اتفاق أوسلو" بَّدد كل الموارد السياسية التي كانت في حوزة الشعب الفلسطيني؛ قبل "اتفاق أوسلو" وقبل مؤتمر مدريد كان الحديث يجري، عالمياً، عن أنه لا حل سياسياً لقضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي إلا عبر مؤتمر دولي بمشاركة العُظْميين (الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي) ورعاية الأممالمتحدة ينعقد قصد تطبيق القرارات الدولية الصادرة عن الأممالمتحدة. في "أوسلو" لم تكن هذه المرجعية حاضرة على الإطلاق، وإنّما كانت الرعاية أمريكية كما أنه لا مرجعية للمفاوضات، والمنطق أصبح كالتالي: نحن لا نتفاوض بهدف تطبيق القرار 242 والقرار 338، وإنما نتفاوض لنتوصل إلى حل نتفاهم عليه. والحال أنه لا يمكن التفاهم على حل بينما الفجوة في القوة كبيرة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني. إذن ليست هناك من ضمانات بأن يحصل الفلسطيني على شيء في غيبة مرجعية دولية. بُدِّدَت هذه الموارد السياسية في «اتفاقية أوسلو» كما بددت الموارد الشعبية، لأن النتيجة كانت هي وقف الانتفاضة الشعبية التي بدأت في ديسمبر 1987؛ وأيضاً بُدِّدَت الموارد العسكرية لأن قيام السلطة الفلسطينية بعد «اتفاق أوسلو»، كان من مقتضياته إنهاء حالة المقاومة. ولذلك اصطدمت السلطة، منذ ميلادها في العام 1994، بالمقاومة الفلسطينية، وكان جهاز «الأمن الوقائي» في غزةوالضفة الغربية وأجهزة الأمن بمختلف أنواعها (وهي حوالي اثنا عشر جهاز أمن) قد تفرغت لملاحقة المقاومة في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي القدس الشرقية من أجل طمأنة إسرائيل إلى أن المفاوض الفلسطيني اختار عملية التسوية والسلام وأنه ليس في وارد فتح جبهات من الداخل الفلسطيني مع الاحتلال. وكي أكون منصفاً ودقيقاً أقول إنَّ هذا المسار التراجعي الفلسطيني رُوجِعَ في مفاوضات الوضع النهائي في مفاوضات كامب ديفيد الثانية حينما رفض الشهيد ياسر عرفات توقيع أي اتفاق مع إيهود باراك، برعاية بيل كلينتون، ينال من حق الشعب الفلسطيني في القدس، وينال من حق اللاجئين في العودة، وقَلَبَ طاولة المفاوضات على الطرفين، وبعدها بشهر ونصف – كما تعرف- اندلعت انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر سنة 2000، وفي سياقها أوعز ياسر عرفات لحركته حركة «فتح» بأن تفتح خطاً عسكرياً فنشأت «كتائب شهداء الأقصى». هذا كان تصحيحاً متأخراً، لكنه كان تصحيحاً لمسار تراجعي أسسته أوهام التسوية في العقل السياسي الفلسطيني. إذن أنا كان واضحاً لي، منذ ذلك الحين، عام 1993، حين كتبت دراستي الشهيرة «ليس في الإمكان أسوأ مما كان» عن «اتفاق أوسلو»، أن هذا المسار سوف يأخذ الحركة الوطنية الفلسطينية إلى متاهة سياسية جديدة الله وحده يعلم إلى أين يمكن أن تنتهي. وهذا ما نراه اليوم؛ يكفي أن «اتفاق أوسلو» يتحدث عن مرحلة حكم ذاتي تنتهي بعد خمس سنوات بإقامة دولة فلسطينية. نحن الآن على وشك أن نبلغ ربع قرن على توقيع «اتفاق أوسلو»، وليس من دولة ولا هم يحزنون. هذا خيار عبثي بامتياز. تسألني هل التسوية ما زالت ممكنة؟ لا، لا تسوية سياسية تمكن لأي فريق إن لم يرفدها ويعززها ميزان القوة العسكري. المفاوض الفلسطيني مجرد من كل أدوات القوة لديه لماذا ستتنازل له إسرائيل؟ سوف تتصرف معه بمنطق الغالب، وتملي شروطها عليه، وعليه أن يقبل هذه الشروط وإلا فسوف يعاقب، وهو يعاقب يوميًا بالحصار والتجويع والملاحقات الأمنية… إلخ. إذن التسوية مستحيلة إن لم تكن هناك شروطها الأساسية التي تجبر العدو عليها، أي على أن يضطر إما إلى الانسحاب من دون قيد أو شرط، كما حصل في جنوبلبنان تحت ضربات المقاومة و»حزب الله»، وإما أن يجلس إلى طاولة المفاوضات ويسلم بتلك الحقوق بدون تفاوض. وفي الحالين، إسرائيل ليست في وارد تقديم أي تنازل ولا مصلحة لها إطلاقا في ذلك. أذكر دائمًا الإرهابي شمعون بيريز حينما سئل، قبل أوسلو بأكثر من عقد ونصف، عما إذا كانت إسرائيل مستعدة لأن تنسحب من الجولان ومن جنوبلبنان ومن الضفة الغربية ومن القدس الشرقية ومن قطاع غزة، ضحك وقال: «إسرائيل لم تحصل على هذه الأراضي في لعبة قمار». ولذلك نعود إلى القولة الذهبية لعبد الناصر: «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» وهذا ما حصل وهذا هو الدرس الكبير الذي قدمته المقاومة الوطنية في جنوبلبنان.