ينظم حزب التقدم والاشتراكية جامعته السنوية حول موضوع “النموذج التنموي” بمساهمة أخصائيين وخبراء من داخل الحزب وخارجه مكرسا بذلك ممارسة دأب عليها منذ سنين كاختيار لم يأت بمحض الصدفة، بل يستجيب لحاجة موضوعية تتجلى في فتح نقاش حول مستقبل بلادنا لكسب الرهانات العديدة التي يواجهها على المستويين الداخلي والخارجي. وهي معركة تمر بالضرورة عبر توطيد دعائم دولة الحق والقانون، وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية عبر سياسات اجتماعية إدماجية تروم إشباع الحاجيات الاجتماعية للساكنة خاصة الشباب منها، وتعزيز مكانة المغرب على الصعيدين القاري والدولي. لبلوغ هذه الأهداف؛ نجد أنفسنا مطالبين بمراجعة شاملة للتوجهات القائمة و”النموذج التنموي” المعتمد حاليا، إذا افترضنا أن هذا الأخير موجود بالفعل. وهنا، لابد من التذكير أن المغرب جرب منذ الاستقلال العديد من “النماذج التنموية” أو بالأحرى “نماذج النمو”.. وهكذا تبنى على التوالي، نموذج قائم على الصناعات البديلة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تلاه نموذج التقويم تحت تأثير أزمة المديونية خلال الثمانينات كمرحلة انتقالية نحو إقامة نموذج قائم على الصادرات وانفتاح اقتصادي على المستوى الدولي (الانخراط في الكاط سنة 1987 والمنظمة العالمية للتجارة في 1995). وتجدر الإشارة إلى أن ما يجمع هذه النماذج الثلاثة التي تعاقبت هو ارتباطها بالليبرالية ورهانها على القطاع الخاص الوطني والدولي على حد سواء. كما أن المغرب تمكن خلال هذه المدة من تحقيق نسب نمو مرتفعة على العموم، دون أن يتمكن في الوقت نفسه من تحقيق التنمية، لأن هذه الأخيرة لا تختزل في النمو؛ حيث أن النمو يقاس بمؤشر الإنتاج الداخلي الخام، بينما التنمية تدمج العديد من المتغيرات من قبيل درجة إشباع الحاجيات الاجتماعية، والتغيرات الهيكلية التي تشمل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية برمتها. وهذا ما يفسر التفاوت في تصنيف المغرب على الصعيد الدولي حسب مؤشر. التنمية الاجتماعية (المرتبة 126) وهو ما يعني أن ثمار النمو لا يستفيد منها الجميع بالقدر نفسه. من جهة أخرى، ينبغي الاعتراف بأن المغرب رغم تبنيه لاختيار الانفتاح من خلال التوقيع على مجموعة من اتفاقيات التبادل الحر مع 55 بلدا توفر ما مجموعه مليارا من المستهلكين، إلا أنه لم يستفد من ذلك كما كان منتظرا. وهكذا، نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة؛ ذلك أن النمو الذي سجله المغرب قد تم تحقيقه بفضل الإنفاق الداخلي من نفقات الاستثمار واستهلاك الأسر، أما الطلب الخارجي الذي راهن عليه المغرب فقد لعب دورا سلبيا في النمو، حيث يسجل ميزاننا التجاري عجزا بنيويا، يستفحل سنة بعد أخرى ولا يتم تسديد هذا العجز جزئيا على الأقل إلا بالاعتماد على تحويلات مغاربة العالم والإيرادات السياحية. ويمكن القول بأن هذا الاندماج في السوق العالمية ليس سوى حبرا على ورق؛ ذلك أن المغرب لا يساهم إلا ب 0.13% من مجموع أرقام معاملات التجارة الدولية، وهي نسبة تعادل تقريبا مكانته في الإنتاج العالمي (0.14%) وتقل بكثير عن نسبة الساكنة المغربية من مجموع سكان العالم (0.4%). ويعود هذا الضعف إلى محدودية تنافسية اقتصادنا، ومحدودية العرض القابل للتصدير، باستثناء المهن العالمية الجديدة التي عرفت نوعا من التطور خلال السنوات الأخيرة كصناعة السيارات والطائرات والإلكترونيات والخدمات المالية. ونتيجة لذلك، سجل هذا النموذج فشلا ذريعا في تحقيق الإدماج الاجتماعي وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وما الأرقام المتوفرة إلا تعبير واضح عن تفاقم الإقصاء الاجتماعي والفوارق بشتى أنواعها. ذلك أن الدخل الوطني يعرف توزيعا غير عادل بالمرة، حيث يستحوذ أرباب العمل على 50% من “الكعكة” في حين لا يحصل المنتجون والعمال، وهم الذين ينتجون الخيرات، إلا على 30%، ويعود الباقي إلى الدولة في شكل موارد جبائية. علما أن الثقل الجبائي يتحمله بالأساس المأجورون، وعدد محدود من المقاولات المسؤولة اجتماعيا وأخلاقيا. كما أن هذه التفاوتات لا تنحصر في توزيع الدخل بل تشمل أيضا الولوج إلى الخدمات الاجتماعية وخاصة على مستوى الصحة والتعليم. كما أن هذا النموذج، رغم ما حققه على المستوى الكمي وعلى مستوى البنية التحتية، فقد استنفذ نهائيا كل إمكانياته ولم يعد قادرا على مواصلة الطريق: فهو نمو عاجز على توفير شغل لائق لكل المغاربة، ونمو غير قادر على ضمان حد أدنى من الكرامة للمواطنين. بعد هذا التشخيص الذي أصبح محط إجماع، وباستحضار النداء الذي وجهته أعلى سلطة في البلاد للتفكير في نموذج تنموي جديد والذي من شأنه أن يحفزنا على الإسراع في هذا المسار، تم اختيار موضوع جامعتنا السنوية. مع الإشارة إلى أن الحزب شرع في هذا التمرين خلال المرحلة الإعدادية للمؤتمر الوطني العاشر؛ حيث نظم سلسلة من الموائد المستديرة في مواضيع مرتبطة بالنموذج التنموي الجديد وخاصة في بعده الاجتماعي والسياسي. كما أن الوثائق التي صادق عليها المؤتمر تشكل، دون ريب، إسهاما مهما في هذا الاتجاه. وتعتبر الجامعة السنوية بالنسبة لنا فرصة لتعميق هذا التحليل والسير، قدر الإمكان، نحو الملموس، من خلال المصادقة على تدابير إجرائية لسياسة اقتصادية واجتماعية لصالح بلادنا وشعبنا، دون إغفال الجوانب النظرية التي تحدد هذه التدابير. وهو ما يجعل حزبنا وفيا لمنهجيته التي تربط دائما بين النظرية والممارسة لتجنب السقوط في المثالية والبراغماتية. فالمثالية يمكن أن تؤدي إلى مقاربة معزولة عن الواقع، كما أن البراغماتية تقود غالبا إلى أسلوب تغيب فيه المرجعية النظرية. وكل منهما يعتبر عاملا في تفقير التفكير ويمكن أن يؤدي بالتالي إلى مآزق ينبغي تفاديها. وفي ضوء ما سبق، نعتقد أن النموذج التنموي الذي نعمل على بلورته، ينبغي أن يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: ضمان وحماية استقلالنا الاقتصادي وتحسين مستوى عيش الساكنة، وإقامة حكامة ديمقراطية، بمعنى آخر ينبغي لهذا النموذج أن يقوم على ثلاثة دعائم: اقتصادية واجتماعية وسياسية. فبخصوص استقلالنا الاقتصادي، لا يمكن تحقيقه إلا بمراجعة عميقة لخياراتنا السابقة في مجال الانفتاح على السوق العالمي. دون أن يعني ذلك الدفع بفك “الارتباط” الذي سيؤدي بنا إلى العزلة ونوع من “الحمائية البائدة”؛ إذ يمكننا القيام بتقييم موضوعي لاتفاقيات التبادل الحر، التي وقعناها أحيانا دون القيام بدراسة الأثر، مع بعض البلدان والتجمعات الإقليمية. وهي المنهجية نفسها التي ينبغي اتباعها بخصوص البرامج القطاعية بإعادة النظر في أولوياتها وأهدافها مع القيام بتحليل خاص لمواردنا الطبيعية في اتجاه ديمومتها وخاصة منها الموارد المائية. كما أن من بين متطلبات استقلالنا الاقتصادي هناك حاجة البلاد إلى التوفر على قطاع عمومي خاضع لتدبير ديمقراطي وقادر على لعب دور القاطرة في العملية التنموية بشراكة مع القطاع الخاص، كما يقتضي هذا الاستقلال، العمل من أجل تحقيق الاستقلال الطاقي من خلال تدعيم الانتقال الطاقي عبر تطوير أكبر للطاقات البديلة التي تعتبر طاقات نظيفة وطاقات للمستقبل، مما سيمكن بلادنا من الانخراط بقوة في استشراف المسالك المستقبلية التي يفتحها الاقتصاد الأخضر. مع ضرورة إيلاء الاهتمام نفسه للاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي يوفر إمكانيات وطاقات هائلة سواء في مجال توفير فرص الشغل أو في خلق القيمة المضافة. الهدف الثاني يتمثل في تحسين مستوى عيش السكان، مع إعطاء الأولوية في مرحلة أولى للفئات المحرومة في الوسط القروي وضواحي المدن لضمان حد أدنى من الدخل حماية لها وصونا لكرامتها. وعلى المدى المتوسط ينبغي وضع سياسة إرادوية لتوزيع وإعادة توزيع الخيرات في اتجاه تدعيم الإمكانيات المرصودة للدولة والمداخيل الأجرية، وكذا اعتماد سياسة أجرية تحدد في إطار الحوار الاجتماعي وتدخل في نطاق إصلاح جبائي عادل، إذ لا يمكن لأي نموذج تنموي القفز على ورش إصلاح جبائي حقيقي قائم على النجاعة والإنصاف يمكن الدولة من تعبئة موارد إضافية من خلال جبايات توفر خدمات اجتماعية بالجودة المطلوبة خاصة في مجالات التعليم والصحة وتعميم التغطية الاجتماعية. أما الهدف الثالث فيهم نظام الحكامة وتدعيم دولة الحق والقانون بما فيه مجال الأعمال، وتكريس المساواة الفعلية بين المواطنين أمام القانون. وعلى هذا الأساس ينبغي نبذ العلاقات القائمة على الزبونية، والممارسات الريعية، والمواقع الاحتكارية ومحاربة كل أشكال التحايل على القانون، كما يجب تطبيق الدستور الذي حظي بدعم شعبي واسع، نصا وروحا، لاسيما مقتضياته المتعلقة بأجرأة هيآت الحكامة وحماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية والنهوض بها، وتدعيم استقلال القضاء.