حين رفض دافيد بن غوريون، أول رئيس لحكومة إسرائيل، اقتراحا أميركيا بإعادة حوالي مئة ألف لاجئ فلسطيني، غضبت واشنطن، ورأت الإدارة الأميركية، في هذا الرفض تعطيلاً لمبادرة قدمها الرئيس الأميركي آنذاك، رأى أن من شأن العمل بها، أن تنهي الحرب بين إسرائيل والعرب، وأن تفتح الطريق أمام سلام نهائي في المنطقة. فقد أقلق الولاياتالمتحدة خروج حوالي 800 ألف لاجئ فلسطيني دفعة واحدة إلى الدول العربية المجاورة، ورأت أن من شأن ذلك أن يوفر تربة خصبة لتغلغل الأفكار اليسارية في صفوفهم خاصة وأن الحرب الباردة كانت تتقد نيرانها بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكانت واشنطن وحلفاؤها تبحث السبل الكفيلة بفرض الحصار الحديدي على الاتحاد السوفييتي وحلفائه في شرق أوروبا، ومكافحة القوى اليسارية في المنطقة العربية. رأت واشنطن في موقف بن غوريون خطأ سياسياً، وأفلت من بين يديه فرصة تاريخية للوصول إلى إنهاء الحرب وعقد اتفاقات سلام مع الدول العربية إذ كانت قضية اللاجئين، في ذاك الزمن هي القضية الرئيسية المطروحة على طاولة البحث في المنطقة، وكأن الدول العربية سلمت بأن حل هذه القضية من شأنه أن ينهي الصراع بينها وبين إسرائيل. وقد جرت مشاورات عربية وأميركية وإسرائيلية، بعضها عبر القنوات الرسمية وبعضها الآخر عبر قنوات خلفية في مبنى الأممالمتحدة في نيويورك، أبدت خلالها الدول العربية الوصول إلى سلام شرط إعادة اللاجئين إلى ديارهم، واصطدم هذا الموقف بتعنت الموقف الإسرائيلي ولعل هذا ما يدفع البعض للتأكيد أن جوهر القضية الفلسطينية هي قضية اللاجئين، وأمام هذا التعنت الإسرائيلي، بادرت الولاياتالمتحدة إلى التدخل لتقديم المساعدات إلى الدول العربية التي تدفق إليها اللاجئون عبر حدودها مع فلسطينالمحتلة ولعل أول شحنة مساعدات وصلت إلى تجمعات اللاجئين، قبل قيام وكالة الغوث، كانت من مستودعات الجيش الأميركي، من خيم وملابس ومواد غذائية وأدوات مطبخ وغيرها. قلق الولاياتالمتحدة لم يكن على الأوضاع الصعبة التي يعانيها اللاجئون، بل خوفاً من أن تتحول هذه الكتلة الكبرى (حوالي 800 ألفاً في ظل دول عربية وليدة وضعيفة الإمكانيات المادية والخبرات الأمنية) إلى عنصر تفجير في المنطقة العربية، وإلى اتساع حركة العداء الشعبية للولايات المتحدة خاصة، وللغرب عموماً، باعتبارها هي المسؤولة عن النكبة، وعن توفير الظروف السياسية والميدانية لولادة إسرائيل، وإلحاق النكبة بالشعب الفلسطيني، وبالحالة العربية كلها، إذ بدت إسرائيل منذ ولادتها دولة (عملاقة) فانتصرت على ست دول عربية في حرب ال 48. ولما تحولت قضية اللاجئين إلى القضية السياسية الأولى على جدول أعمال الصراع العربي الإسرائيلي، ولما تيقنت الولاياتالمتحدة استحالة الضغط على إسرائيل لإعادة دفعات من اللاجئين تفتح باباً للسلام، لجأت هي ودول أخرى إلى الحل المديد، رغم صدور القرار 194، المشتق من القرار 181 الذي كفل للاجئين حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948، وبالتعويض لما لحق بهم من أذى، مادي وجسدي بفعل التهجير على أن يكون التعويض استكمالا لحق العودة وأن يكون حق العودة «لمن يريد»، أي لا يحق لإسرائيل أن تعترض على إعادة أي من اللاجئين إلى دياره وممتلكاته، هو حق شخصي لا تعطله أية قوانين إسرائيلية قد تتخذها حكومة بن غوريون. (2) القرار 302 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 8/12/1949 بتأسيس وكالة الغوث حمل في طياته تفسيرات واحتمالات عدة، متباينة في جهة، وتلتقي في جهة أخرى. 1) الولاياتالمتحدة أرادت منها أن تكون ذات صيغة مؤقتة وبحيث تكون وظيفتها تقديم الخدمات، من جهة وتأهيل اللاجئين من جهة أخرى، لدمجهم في المجتمع المضيف، على طريق إنهاء قضية اللاجئين، وشطب حق العودة. في هذا السياق، وخدمة لمشروعها السياسي كما راهنت عليه في إقامة وكالة الغوث جعل من الولاياتالمتحدة المانح الأكبر لوكالة الغوث، كما تعهدت بسد العجز في موازناتها. 2) الدول الأوروبية التقت مع الولاياتالمتحدة بضرورة أن تكون وكالة الغوث مؤسسة دولية ذات صيغة مؤقتة لحين تطبيق القرار 194، أو توفير حل بديل لقضية اللاجئين. ولعل مساهمة الدول الأوروبية المحددة في تمويل الوكالة، بعد أن كانت أوروبا خارجة من حرب عالمية دمرت معظم مدنها وعواصمها، وأرهقت اقتصادها، ما اضطرها للاعتماد على مشروع «مارشال» (وزير خارجية الولاياتالمتحدة آنذاك) وعلى الدعم الأميركي لإعادة بناء ما دمرته الحرب الثانية من مدن ومرافق واقتصاد. 3) الوفود العربية الى الأممالمتحدة تمسكت بأن تكون «الوكالة» ذات صيغة مؤقتة، وأن يكون تفويضها مرة كل ثلاث سنوات، في تأكيد على أن هجرة اللاجئين حالة مؤقتة، حلها يكون بتطبيق القرار 194 (العودة والتعويض معاً) كما تمسكت بأن يكون تمويل الوكالة على عاتق المجتمع الدولي باعتباره المسؤول سياسياً وأخلاقياً وقانونياً عن ولادة قضية اللاجئين، في موافقته على تقسيم فلسطين، وفي تقاعسه عن مساعدة الفلسطينيين على إقامة دولتهم، وفي صمته على التوسع الإسرائيلي على حساب مناطق الدولة الفلسطينية. 4) اللاجئون نظروا إلى «الوكالة» نظرة مركبة فهم من جهة بحاجة إلى مساعداتها في الإيواء، والغذاء والصحة، والتعليم، وهم من جهة، رأوا فيها أداة في يد المجتمع الدولي المسؤول عن نكبتهم، لذلك كان (وما زال) اللاجئون ينظرون بارتياب إلى كل خطوة تخطوها الوكالة، وإلى أي قرار تتخذه، ويفحصون بقلق شديد، فيما اذا كان مرتبطاً بشكل أو بآخر، بمشروع غربي للتوطين وإسقاط حق العودة. وهكذا ولدت وكالة الغوث، التي بالتعاون مع الدول العربية المضيفة (لبنان، سوريا، مصر، قطاع غزة، الأردن، الضفة العربية الشرقية) أقامت للاجئين المخيمات، والمدارس والعيادات الطبية، والخدمات البيئية وغيرها، ومرت في مطبات وشهدت خضات، مرة في إطار الضغط الغربي عليها، لتسريع مشاريع التوطين والدمج، ومرات في إطار الصدام مع اللاجئين احتجاجاً على سياساتها وتقليص خدماتها أو مستواها المتدني. لكن، وعلى الدوام، بقيت قضية اللاجئين هي محور الصراع بين العرب وإسرائيل، ويبقى حق العودة هو مفتاح السلام. إلى أن وقع عدوان حزيران 67. (3) عدوان حزيران 67، أحدث انقلاباً في المعادلة السياسية في المنطقة. فتحت شعار «إزالة آثار العدوان» باتت الأولوية في ملف الصراع العربي الاسرائيلي هي استعادة الأرض التي احتلت في 5حزيران، كشرط للتسوية وعندما صدر القرار 242 كأساس للتسوية، برزت فيه قضية اللاجئين مهمة، وكأنها قضية ثانوية يمكن معالجتها لاحقاً «بطريقة ما». لذلك وجد القرار المذكور رفضاً من قبل الفلسطينيين، لأنه همش قضيتهم وحولها من قضية شعب وأرض ومستقبل وعودة إلى الديار إلى قرار لإعادة رسم الحدود (الآمنة) بين إسرائيل والدول العربية. ومع انطلاقة المقاومة الفلسطينية، وفي ظل حالة معنوية ذهبت بعيداً في الحلم الثوري، تحول اللاجئون إلى «فدائيين»، وتراجع الاهتمام بوكالة الغوث ودورها، (خاصة بعد أن توفرت إلى جانبها خدمات الثورة في الميادين المختلفة) وصار شعار حرب التحرير الشعبية لتحرير فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية، على كامل التراب الوطني الفلسطيني (من النهر إلى البحر) هو الشعار السائد. إلى حين تطورت الأمور سلباً بعد حرب أيلول(1970) وأحراش جرش وعجلون (تموز 1971) وخروج المقاومة من الأردن وإلغاء وجودها العلني، والإعلان عن مشروع المملكة العربية المتحدة، لحل الصراع مع إسرائيل، وشطب المقاومة، وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية. غير أن البرنامج المرحلي الذي أطلقته الجبهة الديمقراطية في مواجهة مشروع المملكة العربية المتحدة، والذي أكدت صحته كبرنامج واقعي وثوري، حرب تشرين 1973، أحدث النقلة السياسية الكبرى في الحالة الوطنية الفلسطينية، ونقل العقل السياسي الفلسطيني من حالته الحالمة الثورية إلى حالته الواقعية الثورية، في «تحليل ملموس للواقع الملموس»، للحالتين الفلسطينية والعربية، خاصة بعد الخروج من الأردن، ورحيل جمال عبد الناصر، ووقوع حرب تشرين 1973، ومبادرة السادات للحل المنفرد مع إسرائيل ووفقاً لآراء خبراء سياسيين، فلولا البرنامج المرحلي الذي وفر الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية لمنظمة التحرير الفلسطينية لكان مجرى التاريخ قد شهد تغيرات مأساوية بحق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وفي القلب منها قضية اللاجئين وكان بارزاً أن شعار البرنامج المرحلي الذي تبنته م.ت.ف. وصار شعاراً لكل فصائل العمل الوطني الفلسطيني هو «العودة وتقرير المصير، والدولة المستقلة»، ما يلخص حقوق الشعب في مناطق تواجده كافة، في إسرائيل (ال48) وفي المناطق المحتلة (67) وفي الشتات ومخيمات اللاجئين. وهكذا استعادت قضية اللاجئين، واستعاد حق العودة باعتبارها أحد العناوين البارزة للبرنامج الوطني الفلسطيني وبات المس بهذا الحق يشكل انتهاكاً للبرنامج الوطني. اتفاق أوسلو شكل انقلاباً سياسياً على البرنامج الوطني وعلى إعلان الاستقلال (15/11/1988) بما في ذلك انقلاباً على حق العودة، وقضية اللاجئين التي استبعدت من تشكيل الوفد الفلسطيني، كما استبعدت من جدول أعمال العملية التفاوضية وأحيلت إلى «قضايا الحل الدائم» في ظل حالة سياسية متحركة، من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل، لخلق وقائع ميدانية تستبق «مفاوضات الحل الدائم» وتفرض حلولاً من جانب واحد. هذا التطور الذي حمل في طياته مخاطر كبرى نحو قضية اللاجئين ومستقبل الوكالة وحق العودة أثار غضب اللاجئين، واستنهضوا قواهم وشرعوا في تشكيل اللجان والهيئات الشعبية في الدفاع عن حق العودة وصون الدور السياسي والخدماتي لوكالة الغوث. (4) «صفقة العصر» كما أطلقها ترامب لحل قضايا الشرق الأوسط، استندت إلى استراتيجية جديدة، تقوم على فرض الوقائع على الجانب الفلسطيني، قبل استئناف «مفاوضات الحل الدائم»، تحت شعار استبعاد القضايا الشائكة من جدول الأعمال.. فاعترفت الإدارة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل، تحت شعار استبعادها من المفاوضات. كذلك بشأن الاستيطان. وأخيراً، وليس آخراً، قضية اللاجئين وحق العودة واستندت «صفقة العصر» إلى مدخلين كبيرين من شأن التلاعب بهما أن يقوض قضية اللاجئين وحق العودة إذ تدرك إدارة ترامب أن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة صياغة القرار 194 أو إلغائه أو تقويض وكالة الغوث، أو إلغائها، سوف يصطدم بالأغلبية الدولية. لذلك لجأ إلى المدخلين التاليين: 1) الأول هو العمل على تفكيك وكالة الغوث من خلال تجفيف مواردها وشلها، وبالتالي انتفاء الحاجة لها. فقلص (بداية) حصة واشنطن في تمويل الوكالة. ثم في خطوة ثانية أوقف التمويل بشكل نهائي عل أن ينجح في الضغط على حلفائه ليحذوا حذوه. 2) إعادة تعريف اللاجئ ليقتصر على مواليد ما قبل 1948 في فلسطين ونزع الصفة عن الآخرين، في رهان على الوقت لإلغاء القضية بانتفاء أصحاب العلاقة. ردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية صبت في معظمها لصالح اللاجئين وحق العودة وصون وكالة الغوث. لكن هذا الانحياز المهم، يجب صونه بالانتباه إلى أمرين: الأول هو أن تعيد القيادة الرسمية سياسة التلويح بالمقايضة بين حق العودة والدولة المستقلة، فالتجربة أكدت أن المقايضة هذه أدت إلى التفريط بحق العودة والتفريط بالاستقلال. وبالتالي فك الارتباط بأوسلو، ووقف الرهان على «حل وسط» مع واشنطن خطوتان واجبتان لدرء مخاطر السياسة الأميركية عن القضية الوطنية بكل عناصرها، وليس عن قضية اللاجئين وحق العودة فحسب. الثاني أن لا تذهب الدول العربية في الاتجاه الخاطئ وتسد العجز في موازنة الوكالة المطلوب الضغط على المجتمع الدولي ليتولى هو العجز المالي، حتى لا تتحول الوكالة إلى مؤسسة عربية، ويصبح حل قضية اللاجئين حلاً عربياً – عربياً، ويعفى المجتمع الدولي من مسؤولياته الأخلاقية والسياسية والقانونية. أخيراً: ستبقى على عاتق اللاجئين ومؤسساتهم الأهلية، وعلى عاتق م.ت.ف، وبالأخص دائرة شؤون اللاجئين العبء الأكبر ما يستدعي ابتداع أطر وهيئات وآليات ترتقي إلى مستوى الحدث ومستوى القضية وخطورتها. بقلم : معتصم حمادة