ربما تكون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" هي الوكالة الوحيدة من وكالات الأممالمتحدة التي لا تعتمد في تمويلها على المنظمة الأممية وتظل مرتهنة بدلا من ذلك لكرم أو تقتير المانحين المرتهنين بدورهم لالتزاماتهم التاريخية بالحفاظ على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي والذين يمولون حوالي 97% من موازنتها السنوية. إن إنهاء الأزمة المالية المزمنة التي تتجدد سنويا للأونروا يقتضي تحمل الأممالمتحدة للمسؤولية عن تمويل هذه الوكالة من اشتراكات الدول الأعضاء فيها، أسوة بالوكالات الأخرى التابعة لها. وكانت هذه هي على وجه التحديد التوصية الهامة التي تضمنها بيان مجلس (12) منظمة فلسطينية لحقوق الإنسان يوم الثلاثاء الماضي عندما ناشد المجلس الرئيس محمود عباس "صياغة قرار ورفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بحيث ينص على جعل موازنة الأونروا الأساسية … جزءا من المساهمة الإلزامية الواجبة على الدول الأعضاء" كجزء من "الحماية الدولية" للشعب الفلسطيني التي يطالب الرئيس الفلسطيني بها. وكذلك فعل المشاركون في ورشة العمل التي عقدها "مركز دراسات الشرق الأوسط" في العاصمة الأردنية عمان يوم الإثنين الماضي بعنوان "المضمون السياسي لمشروع وحق العودة" الفلسطيني عندما أوصوا "بالتحرك السياسي لاستصدار قرار أممي لتثبيت موازنة أونروا أسوة بغيرها من الوكالات المتخصصة" التابعة للأمم المتحدة و"عدم إبقائها رهن التبرعات والمنح الطوعية للدول". ولم يفت الأوان بعد لإعداد مشروع قرار عربي يحمل الأممالمتحدة المسؤولية عن تمويل الأونروا تتبناه فلسطين والأردن وسوريا ولبنان بدعم من المجموعة العربية يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما تنعقد في دورتها السبعين في شهر شتنبر 2015. إن رد الفعل الرسمي الفلسطيني وغير الفلسطيني على الأزمة المالية للأونروا لا يرقى إلى مستوى تهديدها بوقف أعمالها، وقد اتسم حتى الآن بالتسليم بواقع الأزمة المالية المزمنة والمتكررة لوكالة أونروا بقدر ما اتسم بعدم التنسيق بين الأطراف المعنية مباشرة بهذا التهديد، فهذه الأطراف أدمنت على ممارسة رد فعل مكرر على أزمة قديمة تتجدد سنويا منذ إنشاء الأونروا عام 1949 وبدء عملياتها في السنة التالية، ولم تسع جديا حتى الآن للبحث عن حل دائم لأزمة تمويل الأونروا المزمنة يمنع تكرارها مع بداية كل سنة مالية. وأزمة الأونروا تتصل مباشرة بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين المستعصية على الحل، فهذه الوكالة الأممية هي "الشاهد الدولي" على مشكلة اللاجئين الفلسطينيين و"منبر من منابر الشرعية الدولية" لها ومن هنا الأهمية السياسية للحفاظ عليها كما قال رئيس لجنة فلسطين في مجلس الأعيان الأردني وجيه عزايزة. لذا فإن الحفاظ على الأونروا ليس مسؤولية فلسطينية فحسب بل ومسؤولية عربية عامة كذلك بخاصة للدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين، وهذه مسؤولية سياسية في المقام الأول وينبغي ألا تتحول إلى مسؤولية مالية تحمّل العرب ما يجب أن يتحمله المجتمع الدولي المسؤول عن تقسيم فلسطين ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين التي قاد التقسيم إليها. وهذه المشكلة هي جوهر القضية الفلسطينية التي أرجأت الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي البحث عن حل لها إلى قضايا "الوضع النهائي"، بالرغم من أن التوصل إلى حل دائم للصراع العربي الصهيوني في فلسطين وعليها سوف يظل مستحيلا من دون التوصل إلى حل عادل لها، فحل قضية القدس لن ينهي الصراع من دون حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين محوره العودة "و" التعويض. لقد أعلنت الأونروا مؤخرا أنها تواجه أزمة مالية "غير مسبوقة" وصفتها بأنها الأسوأ في تاريخها، وأن الحرب على سوريا التى دخات عامها الخامس والحروب الثلاثة التي شنتها دولة الاحتلال على قطاع غزة منذ عام 2008 قد ضربت أهم تجمعين للاجئين الفلسطينيين وجعلت أزمتها تستفحل، وأن حاجتها الراهنة الماسة لمبلغ (101) مليون دولار أميركي لسد العجز في ميزانيتها سبب يسوغ لها التهديد بوقف خدماتها لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في مناطق عملياتها الخمس في الضفة الغربيةالمحتلة وقطاع غزة المحاصر والأردن وسوريا ولبنان. كما يسوغ لها التهديد بتأجيل أو إلغاء العام الدراسي الجديد لتعليم نصف مليون طالب فلسطيني وقطع المصدر الوحيد لدخل ما يزيد على (22) ألف مدرس من معلمي الوكالة في 700 مدرسة وثمانية مراكز للتدريب المهني. إن "العجز" المفترض ل(62) دولة مانحة للأونروا عن توفير المبلغ الزهيد المذكور، ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي واستراليا واليابان وتركيا والكويت والعربية السعودية، حسب قائمة الأونروا لسنة 2013 لأهم الدول المانحة، هو بالتأكيد ليس عجزا ماليا. بل إنه "عجز" سياسي مشبوه في دوافعه وأهدافه، وهو عجز يسوغ لوزير التربية والتعليم الأردني محمد ذنيبات وصفه بعجز "الرغبة وليس القدرة" الذي يهدد ب"انفجار لغم" الأونروا، ويسوغ المخاوف الفلسطينية بوجود نوايا مبيتة لتصفية الأونروا تمهيدا لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. فالولاياتالمتحدة التي تتبرع بمبلغ )130) مليون دولار سنويا والاتحاد الأوروبي الذي يتبرع بمبلغ (106) ملايين دولار سنويا يتافسان في بياناتهما الرسمية على مكانة "المانح الأكبر" للأونروا، فلماذا يستنكفان طوال أكثر من خمسة وستين عاما من عمر الوكالة عن تحويل التزامهما الأدبي إلى التزام قانوني في إطار الأممالمتحدة التي أنشأت الأونروا؟ إن تنصل المجتمع الدولي المسؤول عن إصدار قرار رقم 181 لسنة 1947 بتقسيم فلسطين بين مواطنيها وبين غزاتها من المستوطنين الصهاينة من مسؤوليته عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التي نجمت مباشرة عن ذاك القرار هو المسؤول الأول والأخير عن تهرب الأممالمتحدة حتى الآن من مسؤوليتها عن تمويل الأونروا. وكان هذا "المجتمع الدولي" ينحو حتى الآن إلى ترحيل هذه المسؤولية إلى ضحايا قرار التقسيم من العرب ومنهم عرب فلسطين أنفسهم. فمدن وبلديات عرب فلسطين الذين خضعوا للاحتلال عام 1967 تتحمل المسؤولية المالية عن تزويد سبعة وعشرين مخيما في الضفة الغربية تعترف الأونروا ب(19) مخيما منها بالكهرباء والماء، وكذلك هو الحال مع ثمانية مخيمات للاجئين في قطاع غزة. وقد فصلت بلدية الاحتلال في القدس مخيم شعفاط عنها بجدار الضم والتوسع حتى لا تتحمل المسؤولية عن تقديم الخدمات له أسوة بالبلديات الأخرى في الضفة الغربيةالمحتلة. وتبرعات العربية السعودية والكويت وغيرهما للأونروا تندرج في هذا السياق. وأعباء الخدمات الأساسية وخدمات البنية التحتية التي تتحملها الدول العربية المضيفة للاجئين دفعت بعضها إلى توثيق مساهمتها في استضافتهم استعدادا للمطالبة بتعويضات في حال التوصل إلى حل دائم للصراع العربي مع دولة الاحتلال. لقد أعرب رئيس وزراء السلطة الفلسطينية برام الله رامي الحمد الله وكذلك وزير الخارجية الأردني ناصر جودة عن أملهما في حل الأزمة المالية الراهنة للأونروا للحيلولة دون الوكالة وتنفيذ تهديدها بوقف خدماتها، نتيجة للجهود الحثيثة التي بذلها الطرفان مع الدول المانحة. لكن هذه الأزمة سوف تتكرر في السنة المقبلة والسنوات اللاحقة ما لم تسارع كل الأطراف العربية المعنية إلى تحميل الأممالمتحدة المسؤولية المالية عن وكالة أونروا، فالأونروا لا ينبغي حلها قبل ممارسة اللاجئين الفلسطينيين لحقهم في العودة والتعويض. في يونيو 2015 لاحظ أمين عام الأممالمتحدة بان كي – مون أنه لم يكن من المتوقع أن تعيش الأونروا لمدة (65) سنة، فقد كان تفويضها عند إنشائها لمدة ثلاث سنوات فقط، يتم تجديدها للمدة ذاتها منذ ذلك الحين، وينتهي تفويضها الحالي في سنة 2017، وفسر التمديد لها وطول عمرها ب"الفشل السياسي" في التوصل إلى حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. لكن كي – مون وأسلافه كانوا يستنكفون حتى الآن عن تحميل المسؤولية عن هذا "الفشل السياسي" أولا لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي ترفض تنفيذ القرار الأممي رقم 194 الذي ينص على عودة اللاجئين وتعويضهم، وثانيا للدول المانحة الرئيسية وبخاصة الولاياتالمتحدة التي تمنع حتى الآن الأممالمتحدة من تنفيذ قراراتها بشأن اللاجئين الفلسطينيين وتكتفي بأن "الهدف من دعم الولاياتالمتحدة للأونروا هو ضمان أن يعيش اللاجئون الفلسطينيون بكرامة مع تعزيز لامكانيات التنمية البشرية إلى حين تحقيق حل شامل وعادل" لمشكلتهم كما جاء في نص "إطار التعاون" لسنة 2015 الموقع بينها وبين الأونروا. ومما لا شك فيه أن مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2002 والتي نصت على "التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194″ قد ميّعت الموقف العربي وشجعت "الدول المانحة" على الاستمرار في تجاهل تنفيذ القرار المذكور وسوغت لدولة الاحتلال الاستمرار في رفضها لتنفيذه، وكل هذه الأطراف وجدت في الموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي يتبنى حلا "متفقا عليه" مع دولة الاحتلال، بدلا من مطالبة الأممالمتحدة بتنفيذه، دعما لمواقفها. غير أن "اللاجئين يجب أن يحصلوا على حل عادل ودائم لمحنتهم على أساس قرارات الأممالمتحدة والقانون الدولي. فذلك سوف يحل الأزمة المالية للأونروا مرة واحدة وإلى الأبد، لأنه عند ذلك لن تكون هناك ضرورة للوكالة وخدماتها" كما قال الناطق باسم الأونروا كريس جنيس لصحيفة "ذى تايمز أوف اسرائيل" يوم الخميس الماضي المنصرم.