منذ إحداث كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1376ه/1957م، ظل تدريس التاريخ بشكل عام والتاريخ الوسيط على وجه الخصوص بالجامعة المغربية على نفس المنوال لم ينله أي تغيير واضح وملموس، مدة تزيد عن أربعين سنة. وهي مدة طويلة نسبيا بالنظر إلى التطورات والتغييرات السريعة التي شهدها المغرب والعالم على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. ومنذ البداية فقد تم اعتماد تدريس التاريخ بالجامعة المغربية على أساس التقسيم الأوروبي للتاريخ أي تقسيمه إلى فترات محددة وهي القديمة والوسيطية والحديثة ثم المعاصرة. وهكذا حاولت البرامج التفصيلية أي الحصص والدروس المخصصة لكل فترة أن تعكس بعض الجوانب من تاريخ مجالات جغرافية مختلفة، وخصوصا تاريخ شمال إفريقيا والشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموما، وذلك على امتداد السنوات الأربع التي تستغرقها الدراسة للحصول على الإجازة في التاريخ. وإذا رجعنا إلى بعض البرامج المعمول بها في تدريس مادة التاريخ شعبة التاريخ والجغرافية التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط خلال السنوات الجامعية 1987/1988 و1988/1989، و1990/1991، و1994/1995 فإننا نلاحظ أن التاريخ الوسيط يقصد به أساسا تاريخ الإسلام، وهو من الدروس الأولى التي يصادفها الطالب في بداية دراسته كطالب في شعبة التاريخ. غير أن نفس البرنامج، يخصص حصة أسبوعية واحدة لتاريخ الغرب الإسلامي خلال السنة الثانية، والغرب الإسلامي يقصد به الشمال الإفريقي مضافا إليه الأندلس لارتباط تاريخه خلال نفس الحقبة. أما التاريخ الأروبي الوسيط، فلم يدرج إلا مرة واحدة طيلة مدة الحصول على الإجازة. وهي حصة غير كافية لاستيعاب تاريخ أوربا استيعابا كافيا. وبتعبير آخر فقد تم التركيز على تاريخ الإسلام وتاريخ المغرب الإسلامي وهذا التوجه العام في السلك الأول تم تكريسه في الدراسات العليا. فحسب ما تضمنه دليل الشعبة لنفس الكلية خلال السنة الجامعية 1990 – 1991، فإن الدراسات الوسيطية كان مخصصا لها حصتان فقط، ووكل تدريسهما إلى الأستاذين المرحوم محمد زنيبر والأستاذ إبراهيم حركات أطال الله في عمره. فالأول انصب برنامجه الدراسي على الدولة الموحدية في عهد التأسيس (515 ه/1115م– 595ه/1195م)، والمجتمع والاقتصاد بين القرنين الخامس والسابع الهجري، الحادي عشر والرابع عشر الملاديين في المغرب مضيفا إلى هذين المحورين محورا ثالثا يتعلق بحرب الاسترداد في عهد ملوك الطوائف إلى نهاية الموحدين. في حين تناول برنامج الأستاذ الثاني دراسة المدينة الإسلامية من خلال النموذج المغربي (مدن فاس ومراكش وسبتة). وعلى ضوء المعطيات سالفة الذكر يبدو واضحا أن الحيز الزمني المخصص لتدريس التاريخ الوسيط، سواء في سلك الإجازة أو في سلك الدراسات العليا، ظل محدودا ليس فقط في الزمان والمكان، بل أيضا من حيث الموضوعات المدروسة. كما كان يعاني من قلة المتخصصين وعدم وجود الحمولات والأدوات الديداكتيكية اللازمة من مراجع وخرائط متخصصة بالعربية، ونصوص نموذجية منتقاة من أمهات المصادر تطرح مواضيع معينة من شأنها أن تقرب هذه المادة الاجتماعية إلى الطلبة. ومن المعلوم كذلك أن التكوين في التاريخ بصفة عامة، والتاريخ الوسيط بصفة خاصة كان يعتريه خلل آخر يكمن في عدم الاعتماد على العلوم المساعدة من فيلولوجيا (فقه اللغة) وأركيولوجية وإحصائيات ولغات قديمة (كاللاتينية) وحية (كالأمازيغية وغيرها) وباليوغرافيا التي تهتم بقراءة الخطوط المختلفة قراءة صحيحة بحيث يتخرج الطالب وهو غير قادر على قراءة المخطوطات التي لابد له من الركون إليها في عمله كمدرس، أو إذا أراد الاستمرار في دراسته العليا. بيد أنه بمضي الوقت، تنامى لدى الأساتذة الجامعيين ولدى المسؤولين على قطاع التعليم، الوعي بأن النهج الذي سار عليه التعليم بصفة عامة والتعليم العالي بوجه خاص (وضمنه تدريس التاريخ) كان لابد من تغييره ليتماشى مع المستجدات الوطنية والدولية. وهكذا، أحدثت لجان متعددة لرصد الثغرات لتجاوزها استشرافا للمستقبل. وقد أسفرت كل المجهودات عن ميلاد ما أصبح يعرف منذ سنة 1996 بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي جاء ليعطي نفسا جديدا للمنظومة التربوية برمتها. وفي إطار توجيهاته العامة يندرج المنهاج الحالي لتدريس التاريخ. ويجب التذكير هنا خصوصا بالمرسوم رقم 769 – 96 -2 الصادر بتاريخ 11 شوال 1417 (19 فبراير 1997) المنظم للدراسات بالسلك الثالث المعمقة منها والمتخصصة وكذا الدكتوراة. وقد أحدث هذا المرسوم تغييرا جذريا على المستوى التنظيمي والمؤسساتي للدراسات العليا التي أصبحت تؤطرها وحداث بحث متخصصة ومنفتحة على مجالات معرفية أخرى تتكامل معها. وإذا اقتصرنا على التاريخ الوسيط وحده، نجد أن تدريسه وفق هذا التوجه الجديد خرج عما كان مألوفا إلى ذلك الحين، واتخذ منحى آخر ألا هو الانكباب على الموضوعات والقضايا التاريخية التي تهم مجالات واسعة تتجاوز تاريخ المغرب والعالم الإسلامي، لتغطي قدر الإمكان تاريخ العوالم الأخرى مثل أوربا الغربية وبيزنطة وآسيا وإفريقيا. وفي إطار هذا التوجه، يندرج إحداث وحدة التكوين والبحث حول العالم المتوسطي في العصر الوسيط: قضايا ومناهج، المحدثة بكلية الآدب بالرباط منذ 1997 والتي بدأ العمل بهذا خلال السنة الجامعية الموالية. وقد تكونت بفضل مجهودات أساتذة أجلاء أمثال الأستاذ العميد محمد القبلي والأستاذ الوزير أحمد التوفيق والأستاذ عبد العزيز توي والأستاذ محمد المغراوي والأستاذ عبد الأحد السبتي، وعبد ربه الذي تحمل مسؤوليتها وآخرين من تخصصات أخرى (الجغرافيا، وعلم الاجتماع، واللغة العربية، واللغات الأوربية). وقد جاءت هذه الوحدة لتتجاوز الصيغة التقليدية لدراسة التاريخ الذي كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا – اهتم لسنوات عديدة بتاريخ المغرب الوسيط دون غيره. وكان الهدف من إنشاء الوحدة المذكورة إبراز شخصية المجال المتوسطي وحيويته باعتباره مركزا للعالم القديم الذي نشأت فيه وازدهرت أهم الحضارات التي كان فيها هذا البحر همزة وصل فيما بينها على مر العصور. وهذا الدور ترسخ خلال الفترة الوسيطية منذ ظهور الإسلام إلى اليوم. ذلك أن الإسلام وسع من آفاقه من خلال قيام إمبراطورية إسلامية فسيحة الأرجاء فخلف ذلك ظروفا سياسية واقتصادية وحضارية جديدة استفادت منها حضارات العوالم الأخرى الغربية وغير الغربية. كما لعب هذا البحر أيضا دورا اساسيا في انفتاح المغرب الإسلامي والمغرب الأقصى على العالم الخارجي خصوصا أثناء تكوينه لدولته المستقلة عن الشرق، الشيء الذي مكنه من لعب أدوار متعددة على الصعيد الإسلامي والعالمي أغنت شخصيته العريقة. ومن جهة أخرى، فقد أنشأت هذه الوحدة لتساهم في تعميق التخصص لدى الباحثين في تاريخ العالم المتوسطي الوسيط بشقيه الإسلامي والمسيحي انطلاقا من عدة قضايا تهم جوانب حيوية من تاريخه، والوقوف عند أثر كل مجال في التواصل والتنافس بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية مع رصد التطورات والمراحل الهامة من تاريخ كل واحدة منهما. وهكذا، وحسب هذا المنظور الجديد، تغير تدريس التاريخ الوسيط بكلية الآداب بالرباط تغييرا نوعيا، خصوصا في السلك الثالث سواء في تنظيمه أو في محتواه، ذلك أن مدة الدراسة أصبحت تستغرق سنتين بدل سنة واحدة، يتلقى خلالهما الطالب – الباحث عددا متنوعا من المعارف المتداخلة مع التاريخ، فإلى جانب مواد التخصص في التاريخ الوسيط الإسلامي والمسيحي، يشمل التكوين أيضا الاهتمام ببعض اللغات الحية (الفرنسية، والانجليزية والإسبانية) وبالعلوم المساعدة، كالأركيولوجيا، وعلم المسكوكات، وعلم الخط العربي واللاتيني والمعلوميات وكذا جغرافية المجال المتوسطي التي بدون معرفتها لن يتأتى فهم تاريخه. وهذا العدد المهم من المواد أدى حتما إلى تزايد عدد الحصص المخصصة للدراسة، بحيث أصبحت مدتها الزمنية تفوق عشرين ساعة، متجاوزة بخمسة أضعاف ما كان معمولا به من قبل. وموازاة مع ذلك، تم تنظيم حصة خاصة بالمناظرات، تدخل فيها باحثون متخصصون ينتمون لجامعات مغربية وأجنبية، كان الهدف منها احتكاك الطلبة بباحثين متمرسين، ممن لهم قدم راسخة في البحث التاريخي الوسيط، سواء في المغرب أو خارجه، ليكونوا بالتالي، على بينة من إشكالات البحث ومناهجه الحديثة التي تقتضي الدقة والصرامة. ومن المؤسف جدا أن هذه التجربة الرائدة قد توقفت بعد انقضاء مدة اعتمادها الذي هو سنة 2000 وذلك لعدم توفر الإمكانيات اللازمة وتعقيد المسطرة المتبعة في الحصول على الاعتماد بحيث لم يحصل التراكم الزمني والمعرفي، لتقييم وتقويم هذا المسار الذي سار عليه تدريس التاريخ الوسيط لاسيما في كلية الآداب بالرباط. وما هو مؤمل اليوم هو إحياء هذه الوحدة من جديد، علما بأن شعبة نفس الكلية تتوفر على ثلة متميزة من الأساتذة الباحثين المتخصصين في التاريخ الوسيط. وجدير بالملاحظة أيضا أنه تم تشكيل وحدات مماثلة للبحث في نفس الحقل المعرفي (أي التاريخ الوسيط) في جامعات مغربية أخرى، إلا أنها في حاجة إلى دعم قوي وإتاحة الفرصة أمام أعضائها والمسؤولين عنها، لرصد هنات تجاربهم لتجاوزها وإنضاجها، إسوة بما هو جار به العمل في الدول التي يحظى فيها تدريس التاريخ الوسيط بمكانة مرموقة. إن تدريس التاريخ، والتاريخ الوسيط على وجه الخصوص، له بعد أخلاقي وتربوي وعلمي، وعليه في نفس الوقت تلقين الصرامة العلمية والروح النقدية، لأن التاريخ بشكل عام له متطلبات علمية معروفة. وتأتي أهمية تدريس تاريخ العالم المتوسطي الوسيط في كونه يساهم في بناء الذاكرة الجماعية لهذا الحوض ويساهم بالتالي في حاضره وحاضر العالم، خدمة للمصالح المشتركة لشعوبه، ولذلك فلا يجب أن يظل في منأى عن التساؤلات والزوابع التي تتعرض لها مجتمعاته. وهو يواجه أيضا تعدد كتابات المؤرخين المتزايدة والذين يساهمون باستمرار في تجديد النظرة إليه. كما يواجه تنوع مجتمعاته التي لم يعد فيها البعد الوطني المرجعية الوحيدة. وسؤال اليوم هو كيف ستبنى غدا ذاكرة هذا المجال الفسيح والغني بمقوماته الثقافية والحضارية، وبالتالي المرجعية المشتركة الضرورية للتعايش الجماعي وإعطاء المكانة اللائقة لتعدد التجارب والروابط مع هذا التاريخ دون الإخلال أو المساس بمستلزمات التاريخ ذي الطابع العلمي. بقلم: محمد حمام * *أستاذ بجامعة محمد الخامس – الرباط المراجع: دليل الدراسة لكلية الآداب بالرباط للسنوات الجامعية 1987/1988 و1990/1991 و1994/1995. دليل الدراسة في دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وحدة التكوين والبحث حول: العالم المتوسطي في العصر الوسيط: قضايا ومناهج، السنة الأولى 1998/1999، كلية الآداب – الرباط. دليل الدراسات بالسلك الثالث: دبلوم الدراسات العليا المعمقة دبلوم الدراسات العليا المتخصصة والدكتوراة، وزارة التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، مديرية التعليم العالي، اللجنة الوطنية للاعتماد والتقييم، مارس 2000.