لا يخفى على أحد من الناحية الأدبية، أن أرض المغرب كانت وما تزال معينا دافقا للشعر، تعددت وجهة العطاء الشعري وتنوعت مجالاته.. مما أتاح للشعراء المغاربة أن يصوغوا شعرا جميلا في لوحات من الفن الأنيق المبدع، ينسكب حياة وتجديدا وتواصلا مع الناس، ويمنحهم قدرة فذة على اجتذاب أرواحهم ونفوسهم، مؤثرا فيهم بشعاع المحبة والخير والتصافي. لعل الجهود التي تقوم بها أكاديمية المملكة وهي تسعى لجمع ما هو مفرق ومشتت وموجود في الخزانات العامة والخاصة، هي جهود طيبة إدراكا منها لقيمة هذا الشعر وحضوره المتميز في المجتمع المغربي، حتى لا يضيع ما تبقى منه، نظرا لما يمكن أن يتعرض له من عوامل مختلفة، سواء ارتبط ذلك بالطفرات الحضارية والثقافية والاجتماعية التي تمر بها، أم ارتبط بتغلغل وسائل الإعلام الحديثة في حياة الإنسان اليومية وهو تغلغل يفوق سيطرة الإنتاج الكمي الصناعي الآلي على قدرات وإنتاجات الإنسان الإبداعية. إن عمر فن الملحون كما يقول أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري، يمتد نحو سبعة أو ثمانية قرون، إذا نحن تحدثنا عن البدايات الأولى قبل أن يتطور. وخلال هذه القرون، كان فن الملحون وعلى يد أشياخه الكبار، يكتسي من العناصر الحية والفاعلة ما يكسبه أهمية أكثر. فخلال هذه الفترة، برز فن الملحون إلى أن أخذ المكانة التي نعرفها عنه اليوم من خلال شعراء استطاعوا بإبداعهم الشعري أن يضعوا بصماتهم على هذا الفن الشعري المتميز عبر العصور والأحقاب. إن كل إنسان يمكن أن يكون شاعرا، وليس كل إنسان قادرا على أن يحظى باعتراف المجتمع باعتباره شاعرا. ذلك أن هذا الاعتراف يتضمن عناصر كثيرة، منها قدرة هذا الإنسان على نظم الشعر سواء كان معربا أو ملحونا وإمكاناته على تمثل هذا الشعر ومدى إدراكه لطبيعة ذلك الشعر، ووعيه بمختلف المتغيرات والظروف التي يعيشها المجتمع وخصائصه.. إضافة إلى ما ينبغي أن يتميز به من ذاكرة حية وذكاء طبيعي، مما يتيح له القدرة على النظم ويعمق من قدراته على صياغة القصيدة بالأسلوب المناسب. فهو بهذا المعنى، يكون ذلك الفنان المعبر عن ذاته أو عن روح الجماعة التي ينتمي إليها، ونتاجه الفني تعبير عن قدرته على الإبداع. ولعله من المفيد أن نشير إلى أن شعراء الملحون بأسفي قد سجلوا بشعرهم وأدبهم تاريخ مدينتهم، وصوروا مختلف ملامح ذلك المجتمع الذي عاشوا فيه، كما وصفوا الكثير من مظاهر الحياة الثقافية والحضارية والاجتماعية للمجتمع الآسفي.. وبرعوا في كل فنون هذا الشعر. ومن ثمة، جاء شعرهم رصيدا حافلا بالتجارب، ومعينا خصبا أمدنا بمعلومات وافرة عن الأعراف والتقاليد المتبعة، كما أطلعنا على طرائق العيش ومؤالفة المحيط الاجتماعي والبيئي لهذه المدينة.