يُعدُّ جورج إبراهيم عبد الله من أقدم السجناء السياسيين العرب المتواجدين بالسجون الغربية، وبالتحديد في السجون الفرنسية، حيث قضى أكثر من 30 سنة. هو أبرز النشطاء اليساريين والمساندين للقضية الفلسطينية المعتقلين في السجون الفرنسية. ويطرح إصرار الساسة الفرنسيين على عدم إطلاق سراح الناشط السياسي الذي عمل مع الحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأسس تنظيم الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، تساؤلا حول الدوافع التي تقف وراء موقف فرنسا الرسمي إزاء أحد آخر الثوار الداعمين للقضية الفلسطينية. جورج إبراهيم عبد الله العربي الذي تبنى قضايا التحرر الوطني وناضل من أجلها لسنوات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لبناني الأصل، ولد في 2 أبريل 1951 ببلدة القبيات شمال لبنان، عمل مع الحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأسس تنظيم الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية. ينحدر من أسرة مارونية متكونة من 9 أطفال، بينما كان والده عسكريا. تابع الدراسة في دار المعلمين في الأشرفية شرق بيروت، وتخرج سنة 1970، ليمتهن التدريس في قرية بهضبة البقاع، وظل مدرسا إلى غاية 1979، ولم تمنعه رعايته للأجيال من انخراطه في المقاومة والدفاع عن الشعبين اللبنانيوالفلسطيني، حيث كانت لبنان تمثل “حاضنة” المقاومة والتنظيمات الفلسطينية، ومثل العدوان الإسرائيلي للبنان سنة 1978 منعرجا في مسيرة جورج إبراهيم عبد الله، حيث أصيب فيها بجروح، لكن تلك الفترة كانت انطلاقة لمسار نضالي امتد لسنوات لكنها توقفت، نتيجة تصنيفه ضمن أهم الأعداء الواجب تحييدهم من قبل الدول الغربية وإسرائيل على حد سواء. برز مسار إبراهيم عبد الله النضالي سريعا، فانخرط في النشاط السياسي، لينضم في الحزب الاجتماعي القومي السوري بداية السبعينات، ويلتحق بعدها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 1971، حيث تبنى القضية الفلسطينية تحت وطأة العدوان الإسرائيلي الغاصب للأرض، ناهيك عن المساعي التوسعية والعدوانية على لبنان بداية من 1978. وسرعان ما دخل عبد الله ضمن اهتمامات مصالح الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد” التي أظهرته كأحد المقربين من زعيم الجبهة الشعبية جورج حبش، واستمر ذلك مع مساهمته في تأسيس الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية الداعية لمناهضة الإمبريالية. وأثارت التحركات التي قام بها عبد الله امتعاضا كبيرا، بل جعلت منه العدو رقم 1 لدى بعض المصالح التي سعت إلى القضاء عليه بداية بالموساد، في وقت ظلت بعض وسائل الإعلام الفرنسية تنعته بالرجل الذي أرعب الفرنسيين، لا لشيء إلا لأنه كان، وهو المسيحي العربي، قد اصطف إلى جانب القضايا العادلة والدفاع عن الحق في الحرية القومية للشعوب في التحرر من الاستعمار. هذه المواقف العملية أثارت حفيظة وقلق دوائر الاستعلامات الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية، فتقاطعت مصالحها لتجعل منه ومن عدد من المناضلين الآخرين إرهابيين مهددين للأمن القومي وللمصالح الحيوية للدول الغربية، فكان لابد من “القضاء على الرجل” أو “تحييده” على الأقل. فالرجل وضع نصب عينيه هدفين اثنين: تحرير لبنان من التواجد الأجنبي الطاغي والأطماع التوسعية (فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل)، ونصرة فلسطين لتأسيس دولتها المستقلة. مع منتصف الثمانينات، بدا واضحا أن جورج ابراهيم عبد الله أصبح مصدر قلق واهتمام في آن واحد للاستخبارات الإسرائيلية، في وقت بلغ نشاطه النضالي ذروته بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية بقيادة أبو عمار ياسر عرفات من بيروت، وكان لزاما على عبد الله أن يتخذ احتياطات للوقاية من استهداف “الموساد” وكذا مصالح استخباراتية غربية، فاتخذ تسميات حركية مثل “أبو صالح”، وعُرف أيضا باسم “عبد القادر سعدي الجزائري”. ويشير جاك آتالي في مؤلفه وقائع سنوات 1983-1986 (الجزء الثاني ص 1180) إلى أن التهمة الوحيدة التي وُجهت لإبراهيم عبد الله في أعقاب اعتقاله في 24 أكتوبر 1984، هي حيازته لجواز سفر جزائري اعتُقد بأنه مزور باسم عبد القادر سعدي، وهو ما تبين خطؤه لاحقا، فقد كان الهدف من تضييق الخناق على إبراهيم عبد الله إسكات صوت من أصوات المقاومة داخل قضبان السجون ولمدة طويلة جدا، فقد تزامن توقيفه في مدينة ليون الفرنسية بملاحقة شرسة قادها الموساد الإسرائيلي بهدف النيل منه، وتداخلت الضغوط من مصالح استخبارات غربية وإسرائيلية لضمان إبعاد عبد الله من الساحة، ورغم أن المناضل الثوري ظل يكرر أمام القضاة وأمام المحققين “أنا لست مجرما بل ثوري”، فإن كل شيء كان يوحي بأن الأمر حسم من قبل، حيث انتقلت التهمة من جواز سفر جزائري مزور إلى تهم التواطؤ والاشتراك في عمليات اغتيال الملحق العسكري الأمريكي في باريس شارل راي، والدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمانتوف، وإصابة روبير أونان القنصل الأمريكي بستراسبورغ بجروح. ورغم عدم توفر أية أدلة تدينه، فقد أصرت باريس على الحكم عليه ب 25 سنة سجنا، وبرز الضغط الأمريكي الإسرائيلي في محاكمة استعراضية سريعة. برزت تفاعلات سريعة مع اعتقال وحبس جورج إبراهيم عبد الله، وامتدت تداعياتها في دول عديدة منها لبنان موطن الثائر، والجزائر التي أضحت رقما مهما في المعادلة بفعل شبكة علاقاتها الجيدة في لبنان وقدرتها آنذاك على الوساطة. ويشير جاك آتالي في كتابه المذكور سلفا إلى أن السلطات الفرنسية وعدت الحكومة الجزائرية بالإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله وإطلاق سراحه، وأوفدت لهذا الغرض لتبليغ الرسالة مدير المخابرات الفرنسية آنذاك إيف بوني، وتم تفسير ذلك بغياب التهم ضده، وعليه فقد كان مبرمجا إطلاق سراحه حسب الوعود الفرنسية خلال صيف 1985، وقد أبلغ بوني هذه الرسالة للسلطات الجزائرية في 28 مارس خلال زيارته الجزائر، وقد جاءت تلك الزيارة في سياق عملية اختطاف طالت رعية فرنسية في لبنان “بيرول”، وقامت الجزائر حينها بمساعٍ لإطلاق سراحه من أيدي مختطفيه في لبنان، ويبدو أن هؤلاء طلبوا بالمقابل إطلاق سراح عبد الله. واستمرت فصول قضية عبد الله كما يرويها جاك آتالي، حيث أشار إلى اجتماع بتاريخ 24 مارس 1986 ضم الرئيس الفرنسي جاك شيراك وأولريك ممثل جاك شيراك الوزير الأول في حكومة التعايش بين اليمين واليسار، إلى جانب أندري جيرو وزير الدفاع، إضافة إلى وزير الخارجية جون برنارد ريموند والجنرال فوري قائد الأركان وجون لويس بيانكو أمين عام رئيس الجمهورية الفرنسية، وخلال الاجتماع أصر الرئيس ميتران بأنه رخص لمديرية مراقبة الإقليم “دي أس تي” بأن تقول للجزائريين الذين كانوا يلعبون دور الوسيط إن إطلاق سراح إبراهيم عبد الله ممكنة في إطار القانون الفرنسي، وربما تكون المديرية قد قالت للجزائريين إننا سنطلق سراحه سريعا. كان الانطباع السائد أن الوساطة الجزائرية ستكلل بالنجاح مجددا، ولكن فجأة حصل ما لم يكن بالحسبان، ففي انقلاب سريع للمواقف نكث الفرنسيون بالوعود، وبتاريخ 10 يوليوز تفاجأ الكثير بمحاكمة أولى لجورج إبراهيم عبد الله بتهمة حيازة أسلحة ومتفجرات بطريقة غير مشروعة، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة 4 سنوات. ولم يتوقف الأمر حينها عند هذا الحد، بل سارع الفرنسيون وسط بروز ضغوط خارجية إلى محاكمة عبد الله مرة ثانية في الفاتح من مارس 1987 بتهمة التواطؤ في أعمال “إرهابية”، وأصدرت بحقه حكماً بالسجن المؤبد. وفي كلتا الحالتين رفض عبد الله المحاكمة لكونها غير مؤسّسة. بالمقابل، يروي إيف بوني بعض تفاصيل وخبايا من أضحى يعتبر أقدم سجين سياسي في فرنسا بمعتقل “لانميزون”، والذي ظل ضحية ثأر غير معلن. يقول بوني في تصريحات قدمها للصحافة الفرنسية “حينما تم اعتقال عبد الله سنة 1984، لم نتعرف على هويته الحقيقية، وكان يؤكد انتماءه لمصالح أمن منظمة التحرير الفلسطينية، حينها كانت لي علاقات مع الرقم الثاني أبو اياد،كما قمت بالاتصال بالإسرائيليين، ليتم تحديد هويته على أساس أنه قائد لتنظيم الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، ولكن لم تكن لدينا أدلة خطيرة تدينه، باستثناء حيازته لجواز سفر وبعض الأسلحة، واعترف بوني بقوة التنظيم الذي أكد صعوبة اختراقه، وهو الذي كان يرتكز حسب أقواله على عائلات وأسر القبيات، وهي قرية قريبة من طرابلس. لقد نكث الفرنسيون عهودهم وتخلوا عن التزامهم، ليظل عبد الله سجينا حتى بعد انقضاء العقوبة التي سلطت عليه. بعد مضي 3 عقود من سجن عبد الله، لا يزال الساسة والمصالح الغربية تصر على إبقائه سجينا، ويبقى رفض العدالة الفرنسية 9 مرات طلب إطلاق سراحه يطرح إشكالا حقيقيا، حيث لم يعد مفهوما الإصرار الفرنسي على أن يظل عبد الله قابعا في غياهب السجون، ولم تنفع المساعي والحملات التي قامت بها جمعيات متعددة في تغيير هذا المعطى، بل إن قرارا صادرا من العدالة الفرنسية في سنة 2013 يقضي بالإفراج عنه مع اشتراط ترحيله عن الأراضي الفرنسية لم يغير من وضع رجل بلغ 63 سنة، في عالم تغيرت فيه المفاهيم وشبكة العلاقات الدولية، ورغم أنه كان مرشحا لإطلاق سراحه المشروط منذ 1999، فإن عبد الله ظل استثناء، وحينما قامت العدالة الفرنسية في 2003 بقبول مبدأ إطلاق السراح، لقي تحفظ وزير الداخلية آنذاك دومينيك بيربان، واعترضته النيابة العامة، بل إن الامريكيين تدخلوا معتبرين عبد الله مصدر خطر، ليتم رفض إطلاق السراح من محكمة الاستئناف. ونفس الأمر في 2013 حينما امتنع وزير الداخلية مانويل فالس عن توقيع منشور الإبعاد بعد قرار العدالة إطلاق سراحه، بعدها أقرت محكمة الاستئناف حكما بإلغاء إطلاق السراح المشروط، ويعاد السيناريو مجددا في 5 نوفمبر 2015 مع رفض محكمة تطبيق الأحكام إطلاق سراح عبد الله، وتأكيد ذلك في الاستئناف، مبررين ذلك بأن المناضل العربي لم يعبر عن ندمه عن الأعمال المنسوبة إليه وعدم القيام بتعويض الضحايا.