ما الذي يجمع بين تسطير “أجندة الريف” ضمن برنامج انتخابي لأحزاب في هولندا وبلجيكا وتنظيم جلسات استماع لعائلات المعتقلين في البرلمان الأوربي وبين الحملة التي يقودها جزء من الآلة الإعلامية في فرنسا؟ ولماذا تغامر هولندا بالتدخل في الشؤون الداخلية للمملكة؟ وتسعى فرنسا إلى الإبقاء على حالة التأجيج الإعلامي لقضية “الريف” كعنوان بارز يشغل مساحة أكبر مما يشغله حراك “السترات الصفراء” في وسائل الإعلام الفرنسي؟ وهل يدرك “تجار حقوق الإنسان” الذين يوفرون منصات لقصف مؤسسات الدولة عبر تقارير حقوقية موجهة رعونة هكذا ممارسات؟ وهل يفقه هؤلاء الأخطار الناشئة والخلفيات التي تقف وراء فكرة ما يسمى ب”التقسيم داخل الحدود”! قبل سنوات، وتحت تأثير الصدمة التي أحدثها الربيع العربي في التفكير الاستراتيجي لدى الغرب، انتبهت مراكز تفكير غربية إلى ضرورة صياغة آليات جديدة تُمكن من التأثير على الدول (في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديدا) عبر توظيف جماعات ضغط داخلي في شكل مجموعات اجتماعية إثنية أو ذات وحدة هوياتية. وفعلا بدأت مراكز التفكير، وفي مقدمتها معهد RAND Corporation الأمريكي، في بلورة أفكار تساعد على إعادة صياغة الأنظمة السياسية من خلال إضعاف مؤسسات الحكم بها ودعم المجموعات المناطقية (خطط تقسيم العراق إلى ثلاث دول: سنية وكردية وشيعية. ومشروع”فَدْرَلَة”سوريا). يُطلق على هذه الإستراتيجية اسم “التقسيم داخل الحدود”. وتقوم على فكرة استخدام الجماعات الداخلية لإضعاف الدولة المركزية من خلال توظيف أزمات داخلية لإعادة فرز قوى مجتمعية قادرة على تمديد هذه الأزمات بما يُضعف مؤسسات الدولة. وتقوم النظرية على تفكيك وحدة الدول عبر عنصرين: الأول، يركز على تغذية الهويات القاتلة لوحدة الدول (تعزيز المطالب الاجتماعية بشعارات الهوية كما حدث في الريف). أما الثاني فيهم “الادعاء” بدعم الديمقراطية سواء بواسطة برامج تكوين قيادات (برنامج قادة الديمقراطية الذي أطلقته واشنطن مثلا سنة 2009) أو من خلال العمل على التدويل السياسي لقضايا هذه القوى المجتمعية الناشئة والترويج لها خارجيا عبر وسائط التواصل ووسائل الإعلام الأجنبية. وقد أدَّت هذه الإستراتيجية وظيفتها بنجاح منذ ظهورها في الفترة ما بين 2011 و2013، حيث تبنتها العديد من البلدان في علاقاتها بالدول (Les Pays Satellites) التي تملك فيها مصالح اقتصادية أو سياسية. بالعودة إلى “أجندة الريف” نجد أن هناك تطابقا تاما بين هذه الاستراتيجيات (التقسيم داخل الحدود) وبين الآليات والأدوات التي توظفها هذه الجهات بغرض تحقيق أهدافها (تغذية النزعات الهوياتية والجغرافية في منطقة الريف)، لنخلص منذ البداية إلى أن الأمر مدبر وفق تخطيط مسبق تتبادل فيه بلدان أوربية الأدوار للضغط على الدولة وتحقيق مكاسب خاصة بها. في البدء اقتصر الموقف على تعليقات وتصريحات حول “حراك الريف” صدرت عن سياسيين في الخارج تَفضح قناعة بالوصاية. وبعدها تشكلت جماعات من سياسيين وجمعيات مدنية في هولندا وبلجيكا وبعض وسائل الإعلام في فرنسا ولجان برلمانية ونواب أوربيين، ثم انتقلت إلى تشكيل مجموعة ضاغطة داخل المغرب محورها أقارب المعتقلين و”نشطاء” حقوق الإنسان ممن لديهم حسابات مع مؤسسات الدولة، وتحديدا المؤسسة الأمنية والقضائية. وبذلك تكون الجهات الخارجية قد وفرت شروط “التقسيم داخل الحدود”: استخدام الجماعات الداخلية لإضعاف الدولة المركزية، عبر استغلال بوعي أو بدونه للفاعلين في حراك الريف. وبناء خطاب حقوقي بدعوى الدفاع عن الديمقراطية. وهي المهمة التي أوكلت ل”النشطاء” الذين يؤججون الملف منذ بدايته: أثناء توقيف المتهمين هاجموا المؤسسة الأمنية، وخلال المحاكمات تهجموا على القضاء والقضاة، واليوم هي الأسماء نفسها التي تروج لادعاءات بالتعذيب داخل السجون.. ضمن هذا السياق، يمكن أن نفهم توقيت العمليات الأمنية التي أفضت إلى اعتقال المتهمين في”حراك الريف”، ولماذا تحركت المؤسسة الأمنية في سياق دون آخر بعد أن ظلت تراقب الحراك الاحتجاجي لأزيد من ستة أشهر، مع ما رافقه من تنازلات من السلطة المركزية وإعفاءات في حق مسؤولين حكوميين مركزيين ومحليين. فقبل أن يكون التدخل عمليا سبقه عمل استخباراتي، ميداني، ولدت نتائجه القلق في ظل تغلغل المجموعات الخارجية في صناعة قرار الاحتجاج وشعاراته وراياته ورموزه في الساحات العمومية، فتحولت مظاهر الاحتجاج من مطالب اجتماعية إلى شعارات بحمولات تعكس هوية المحتجين الذين بدأوا حينها في التحول تدريجيا إلى مجموعة داخلية ضاغطة تتحرك وفق الإستراتيجية المذكورة. لقد انتبهت الدولة جيدا لمخاطر تحويل الهوية إلى ثقافة سياسية، في وقت ترفع فيه الحركات الاحتجاجية في لبنانوالعراق مثلا شعارات مناهضة لهذه الثقافة التي تأخذ شكل الطائفية. وفطنت إلى تحولات الظاهرة الاحتجاجية في الريف في الوقت المناسب، ووسط كل هذه الخيوط بدت الدولة يقظة ممسكة جيدا بخلفيات الفاعلين ومخططاتهم التي تحولت، اليوم، من إستراتيجية ال”تقسيم داخل الحدود” إلى بقايا ضجيج متناثر.