يبدو أن المواطن البريطاني روني ديكسون، الذي تعرّف عليه المغاربة على شبكة الإنترنت في قضية توفيق بوعشرين، يعيش في هذه الأيام إشكالية قانونية حقيقية وأزمة مفاهيمية جدّية تتعلق بتحديد “صفته في الدعوى”! فمع بروز الإرهاصات الأولى لمحاكمة القرن، حسب تصريح المحامي عبد الصمد الإدريسي، نشرت جريدة “أخبار اليوم” على لسان هيئة دفاع ناشرها توفيق بوعشرين، بأن المحامي البريطاني روني ديكسون، عرّاب الدعاوى الدولية في قطر، سيلتحق بصفوف المؤازرين ليتولى ممارسة حقوق الدفاع في الخط الدولي للمحاكمة. ومن هذا المنظور، خرج المحامي البريطاني روني ديكسون بأول بلاغ إعلامي حول هذه القضية ذيّله بصفته “محامي السيد توفيق بوعشرين”، قبل أن يفطن إلى أن ممارسة مهنة الدفاع من طرف محامي أجنبي، تقتضي وجود اتفاقات أو مذكرات تفاهم ثنائية بين هيئات المحاماة في المغرب وبلد المحامي الأجنبي، فضلا عن اشتراط الترخيص المسبق من وزارة العدل المغربية. وبما أن بريطانيا، وهي بلد المحامي ديكسون، لا ترتبط بأي اتفاق ثنائي مع المغرب في هذا الجانب، فقد وجد المعني بالأمر نفسه شاردا في هذه المحاكمة، تعوزه الصفة التي هي مناط الدعوى وسبب الانتصاب في هيئة الدفاع. لكن سرعان ما وجد هذا الأخير طريقة مبتكرة للالتفاف حول مسألة الصفة، مُقدما نفسه- من خلال تصريحات النقيب زيان- على أنه يحضر جلسات المحاكمة بصفته مراقبا دوليا. وبالرغم من أن المحامي البريطاني لم يُعرف عنه عضويته في أية منظمة غير حكومية تعنى بسير المحاكمات وبحقوق المتهمين، باستثناء علاقاته المتشعبة بمركز الفلسطيني عزمي بشارة، وشبكة مخالطاته المكتنفة بالأسرار بأصحاب النفوذ في دولة قطر، إلا أن هيئة المحكمة المكلفة بالبت في ملف بوعشرين دأبت على السماح بحضوره في مجريات المحاكمة، مثله مثل الجميع ممن تعوزهم الصفة، وذلك استنادا إلى مبدإ علنية الجلسات، الذي يشكل القاعدة العامة التي تنظم سير المحاكمات في التنظيم القضائي المغربي. لكن، مع القرار الأخير الذي اتخذته هيئة المحكمة والقاضي بعقد القادم من الجلسات في ملف توفيق بوعشرين بشكل سري، استنادا إلى مقتضيات المادة 302 من قانون المسطرة الجنائية، فقد أصبح المحامي البريطاني روني ديكسون يعيش فعلا أزمة “صفة” حقيقية، على اعتبار أنه لن يكون بمقدوره حضور الجلسات القادمة، سواء بصفته محاميا أو ملاحظا دوليا، كما لا يمكنه أن يدلي بأي دفع أو دفاع أو ملتمس كيفما كانت طبيعته أو شكله القانوني. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل المواطن البريطاني ديكسون يوقع بلاغه الثاني بصفته الجديدة “المستشار القانوني الدولي للسيد توفيق بوعشرين”، بعدما اعتاد الحديث سلفا بصفته محامي ناشر جريدة “أخبار اليوم”. وهذه الصفة الجديدة لا تتطلب ترخيصا من وزارة العدل، ولا تشترط تفاهمات مسبقة مع هيئات المحامين بالمغرب، لكنها في المقابل لا ترتب أي أثر قانوني في الدعوى، وتصريحاته لن تلزم أي شخص أو جهة كيفما كانت باستثناء من صدرت عنه تلك التصريحات شخصيا. لقد كان هذا المدخل ضروريا لفهم أزمة “الصفة” التي يعاني منها هذا الشخص الأجنبي، الذي اختار مخاطبة المغاربة بنبرة التهديد والوعيد، لكن ماذا عن جوهر البلاغ المنسوب إليه والمنشور في بعض المنابر الإعلامية؟ لقد زعم المستشار القانوني الدولي لتوفيق بوعشرين أن هناك إمعان في “استمرار محاكمة هذا الأخير بتهم ثقيلة دون دليل”، وكيف له أن يطّلع على الأدلة والقرائن وهو لم يحضر سوى للجلسات الأولية الخاصة بالدفوع الشكلية والطلبات العارضة، بيد أن الأدلة والإثباتات القطعية في الملف ستعرض ابتداءً من جلسات يومه الإثنين سابع ماي الجاري، وهي الجلسات التي لن يكون حاضرا فيها لأنه يفتقد للصفة في الدعوى. كما أن حديثه عن الدليل المادي في الدعوى، وجودا أو عدما، كان سيكون منطقيا ومستساغا لو أنه انتظر إلى حين عرض المحكمة للأشرطة ولوسائل الإقناع في هذه القضية، لكنه اختار التسرع والجزم بعدم وجود الدليل، لخلفيات ودوافع لا حاجة لنا بمعرفتها ما دام أنها لا تنتج أي أثر قانوني في القضية. ومن المؤاخذات القانونية على السيد ديكسون أيضا، أنه لا يميز بين سرية الجلسة وحقوق الدفاع، بل إنه يعتبر بأن السرية تعني صراحة أن المحاكمة غير عادلة وأنها ستكون مدفوعة بانشغالات سياسية! فأي منطق قانوني هذا الذي يدفع محاميا للجزم بأن السرية “ستحرم المتهم وهيئة دفاعه من الاطلاع على الادعاءات المنسوبة إليه بشكل مفصل وتمكينه من مواجهة الضحايا المفترضات أمام المحكمة؟ إن الجهل بمقتضيات القانون المغربي يمكن فهمه وتفهمه عندما يتحدث المحامي البريطاني عن مقتضيات خاصة بالتشريع الوطني، نظرا لاختلاف الثقافة القانونية بين المغرب وبريطانيا. لكن الجهل بمبدإ عالمي يتعلق بعلانية الجلسات والاستثناء الوارد عليها (السرية) كلما تعلق الأمر بقضايا الأخلاق العامة أو بالأحداث القاصرين، فهذا ما لا يمكن استيعابه أو تفهمه. فالسرية، لا تعني حرمان المتهم وهيئة دفاعه من الحضور أو مواجهة المشتكيات أو الضحايا أو المطالبات بالحق المدني، كما أنها لا تحرم المتهم من مناقشة الأدلة المقدمة ضده، ولا تُجرّد الدفاع من حقوقه التي يكفلها القانون، سواء تعلق الأمر بالأصل (العلنية) أو عند تطبيق الاستثناء (السرية). فالحقوق تبقى مماثلة ومتطابقة، بينما يتغير شكل المحاكمة التي تنتقل من العلنية إلى السرية. والسرية في قضية توفيق بوعشرين، أملتها أسباب موضوعية وأخرى شخصية ولا علاقة لها بأية انشغالات سياسية كما زعم المواطن البريطاني ديكسون. فأما الظروف الموضوعية فتتعلق بطبيعة الجرائم المرتكبة والتي هي من جرائم الأخلاق التي تخول للمحكمة صراحة إصدار أمر بعقد الجلسة سرية حماية للأخلاق العامة، أما الأسباب الشخصية فتتعلق بالحفاظ على الحق في الحميمية وصون أعراض الضحايا من النساء، وكذا مراعاة لخصوصية المجتمع المغربي الذي تشكل فيه جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي وهتك العرض واحدة من الطابوهات المجتمعية التي لا يمكن مناقشتها وعرضها أمام عموم المواطنين. والسرية لا تعني، كما ادعى المحامي البريطاني، حرمان السيد توفيق بوعشرين من الاطلاع بتفصيل على الأفعال الإجرامية المنسوبة إليه، بل هي تعني في الأساس منع من لا صفة له من حضور المحاكمة كما هو الحال بالنسبة لهذا المواطن البريطاني. أما المتهم بوعشرين فسيكون بمقدوره مناقشة التهم الموجهة إليه، وتمحيص الأدلة المقدمة ضده، ومراجعة هيئة دفاعه في كل تفصيل من تفاصيل القضية. وعلى صعيد آخر، لا بد من الوقوف مليّا عند مقولة وردت، بشكل غير بريء، في بلاغ المواطن البريطاني ديكسون وكذا المحامية الفرنسية راشيل، ومؤداها “لم يبق أمام بوعشرين للحد من العذاب الناتج عن اعتقاله التعسفي إلا اللجوء إلى القضاء الدولي”. وهنا لن نناقش لغة التهديد باللجوء إلى العدالة الدولية في مواجهة المغرب، وإنما سنناقش عبارة “العذاب الناتج عن الاعتقال التعسفي”. فالثابت قانونا، سواء من خلال الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو المهينة أو اللاإنسانية أو الحاطة من الكرامة، أو من خلال الفصل 1-231 من القانون الجنائي المغربي، أن “الألم أو العذاب الناتج عن عقوبات قانونية أو المترتب عنها أو الملازم لها لا يعد تعذيبا بالمفهوم القانوني”. وبالتالي، فإن أية معاناة أو عذاب ناتج عن محاكمة توفيق بوعشرين، أو ملازم لإدانته، لا يعد تعذيبا بصريح المواد أعلاه من القانون الدولي والوطني. وبمفهوم المخالفة، فإن الادعاء والترويج لكون “اعتقال توفيق بوعشرين هو إجراء تحكمي أو تعسفي”، معناه أن هذا الأخير تعرض للتعذيب، ومعناه أيضا أن الدولة المغربية لا تحترم التزاماتها في مجال مناهضة التعذيب. لكن الذي يجهله أو يتجاهله المحامي البريطاني، وزميلته الفرنسية، أن إجراءات توقيف توفيق بوعشرين باشرتها شرطة قضائية مختصة نوعيا ومكانيا، وأشرفت عليها جهة ادعاء مختصة قانونا، وتبت فيها سلطة قضائية عادية وليست استثنائية، ومحاكمته تطبق فيها قوانين شكلية وموضوعية تسري على جميع المواطنين. فأين هو الاعتقال التحكمي المسوغ للحديث عن مزاعم التعذيب؟ وأين هي تجليات العذاب الناتج عن العقوبة غير القانونية؟ إن المخجل في خرجات المواطن البريطاني روني ديكسون هو أنها تسيء إلى الوضع القانوني لتوفيق بوعشرين أكثر مما تخدمه، وأنها تحاول تصوير الدولة المغربية كطرف في قضية جنائية، بيد أن ذلك يبقى من اختصاص النيابة العامة التي تنوب عن المجتمع وليس عن الدولة في الدعوى العمومية. لكن منتهى العبث في هذه التصريحات المخجلة، هو أنها تصدر عن شخص أجنبي يسمح لنفسه باستعمال عبارات تهديدية لا تليق بدولة ذات سيادة من مقام المملكة المغربية.