صديقي إلياس العماري, عرفناك يساريا في بداياتك السياسية، شابا مغمورا يحلم بوهم “الجمهورية” تتنقل بين “الكانتونات” الصغيرة لليسار المتطرف، الذي لم يؤمن يوما بأن الديمقراطية سلوك وممارسة، تقتضي نفسا طويلا في بناء التراكمات، ومد جسور التواصل والحوار بين مختلف الأطياف السياسية والتيارات الإديولوجية، للتوافق حول بناء دولة الحق والقانون، والاحتكام لروح الدستور الذي يضبط عمل المؤسسات المنبثقة عن الإرادة الشعبية. عرفناك، وقد كنت بمعية رفاقك الحُمر، تُكررون مقولة مشروخة “كل ما هو شرعي في ظل نظام رجعي, فهو رجعي”، وترفضون تنظيم العمل السياسي والنقابي في آن واحد، لأنكم كنتم تؤمنون ب”عرقلة ما يمكن عرقلته”، وتعتقدون أن التنظيم بناء سُلطوي يقتل روح العمل “الجماهيري”، ويُخفت جدوته المُتقدة. ولذلك أغرقتم ساحات الجامعات في الفوضى, وكنتم ترونها “نضالا”، وتركبون على الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية، وتحاولون تسييسها، وتنفرون من الحوار. جميل يا صديقي إلياس، أنك أدركت بعد تيهٍ طويل أن الزّبد يذهب جُفاء، وبأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، خصوصا وقد شاهدت بأم عينيك كيف سقط جدار برلين، وكيف نُكست أعلام الشيوعية، وعلمت بعد الرشد السياسي أن المغاربة لن يتزحزحوا قيد أُنملة عن ثوابتهم الوطنية التي توارثوها أبا عن جد، فعرجت ذات اليمين بعد أن علمت أن لا جدوى من الاستمرار في مقارعة الطواحين بسيف “دونكيشوط” الخشبي. والأجمل أنك صاحب حظ عظيم، عرفت كيف تحرق المراحل، وتتسلق المراتب، لتصبح في ظرف وجيز ذا مقام عظيم بعد أن كنت مغمورا لا حول ولا قوة لك. أعترف بأنك داهية كبير، استطعت جمع ثلة من رفاقك “اليساريين” الذين عادوا عن غيهم وتسلموا ثمن “نضالاتهم” زمن “سنوات الرصاص” من المال العام، وأقنعتهم بتأسيس إطار سياسي جديد، بمنهجية جديدة لتُخلصنا من “رداءة” العمل السياسي لأحزاب اعتبرتها أنت وحوارييك مهترئة علاها الصدأ، وإن أفقدتك بقايا النزعة الستالينية التسلطية ما تقتضيه هذه المغامرة من الحكمة والكياسة في الإقناع بدل ترهيب وتخويف من صدقوا حقا بأنك من أهل الحل والعقد في البلاد. أعرف يا صديقي، كما يعرف الجميع، بأنك كنت ماسكا بخيوط حزب “الأصالة والمعاصرة” من خلف الكواليس، وحين اعتقدت أن الأوان قد حان للخروج من غَبَشِ الليل إلى نور الشمس خروج المارد من القمقم، أمسكت بمقود الجرار بقوة، فصرت الأمين العام ل”الأصالة والمعاصرة”. بصراحة، لا أخفي عليك أنني صدقت على مضض ما ذهب إليه كثير من أصدقائي ومعارفي، بأنك ستكون قياديا سياسيا كبيرا، وزعيما لا يشق له غبار، وصِرْتُ أُمنِّي النفس وأنا أتابع خطاباتك وجولاتك في المناطق بأن عهدا جديدا من العمل الحزبي النبيل قد لاحت بشائره، غير أنني سرعان ما استرجعت مواقفي السابقة منك حين انتابتني الدهشة وتملكني الاستغراب قبل وأثناء الانتخابات التشريعية الماضية، وقد أعطيت التزكيات لوجوه ألفناها في أحزاب أخرى، ودبرت حملة انتخابية أقل ما يمكن القول عنها بأنها مقتبسة من حرب “داحس والغبراء”، تركت فيها مشاكل البلاد جانبا وعجزت عن تقديم البدائل وحسبت حسابات خاطئة أفقدتك المصداقية داخل حزبك وخارجه. كم هو غريب وقد كنت توهم “ضعاف” النفوس بأنك “المهدي المنتظر” ورسول زمانه إلى الأحزاب السياسية لتهديها سواء السبيل، وتعيد قطار العمل الحزبي إلى سكته الصحيحة، فإذا بك تزيد الطين بلة، وتراكم طبقات سميكة من الفساد فوق ما تراكم، فانطبق عليك المثل الشعبي “جا يبوسو و عماه”. ورغم ذلك، فقد كبرت مرة أخرى في أعيني يا صديقي! حين تحملت المسؤولية بعد خطاب الملك الذي أسقط ثقة جلالته في عمل نفر كبير من السياسيين، فقد كنت أنت الوحيد من الأمناء العامين للأحزاب الذي قدم استقالته تفاعلا مع الخطاب السامي، في الوقت الذي لم يخجل فيه الباقون من أنفسهم، فأعرضوا عما قمت به. قلت في نفسي، لعلك أعدت قراءة الفنجان، وارتشفت منه جرعة من الشجاعة والجرأة في تحمل مسؤولية الفشل في تدبير الحزب، فلماذا خيبت ظني فيك، وتراجعت عن استقالتك؟ وها أنت جمعت “برلمان” حزبك للمرة الثانية، وكأن شيئا لم يكن بعد أن أوصدت الأبواب في وجه وسائل الإعلام، ومنعت رفاقك في القيادة أن يدلوا بأي تصريح للصحفيين كي لا يصلنا صراخ من يرفضون قبضة الحديد التي تمسك بها مقود الجرار، وكأني بدماء “ستالين” قد عادت لتسري في عروقك من جديد. صديقي إلياس! إن التاريخ لا يرحم فكن بنفسك رحيما، قبل أن يرميك خارج أسواره ذليلا مهينا، يكفيك شرف المحاولة بأنك جربت القيادة في زمن ضاعت فيه بوصلة النبل في السياسة، ويكفيك فخرا أنك اعترفت بالفشل في بلاغ استقالتك، وهي شيمة تفردت بها وحدك في زمن “تخراج العينين”، فلا تسقط هذه الميزة عن جبينك لعلها تشفع لك. يا صاحب مقولة “المغرب جَبلوووونْ” كن أنت الجبل، واتعظ، ففي حزب “الأصالة والمعاصرة” رجال ونساء لهم من الكفاءة ما يجعلهم قادرين على تصحيح المسار وإصلاح عجلات الجرار ليسير نحو الأهداف المتوخاة من تأسيسه، فلا تأخذك العزة بالإثم ودع المقود لمن يراه “الباميون” الأجدر على ترميم ما يمكن ترميمه قبل فوات الأوان. أما وأنك مُصِرّ على أن تتراجع عن استقالتك وكأن شيئا لم يكن، فاعلم أن تلك هي الطامة الكبرى، ولك في أهل السياسة ما وراء البحار عبرة وموعظة وتذكرة إن كانت تنفعك الذكرى!!!