التنسيق النقابي للصحة يصعد في وجه الوزير الجديد ويعلن عن خوص إضراب وطني    مطار الناظور العروي.. أزيد من 815 ألف مسافر عند متم شتنبر    الأمم المتحدة: الوضع بشمال غزة "كارثي" والجميع معرض لخطر الموت الوشيك    نيمار يغيب عن مباراتي البرازيل أمام فنزويلا وأوروغواي    بمراسلة من والي الجهة.. المحطة الطرقية أول امتحان أمام عامل الجديدة        بهذه الطريقة سيتم القضاء على شغب الجماهير … حتى اللفظي منه    صدور أحكام بسجن المضاربين في الدقيق المدعم بالناظور    شاب يفقد حياته في حادث سير مروع بمنحدر بإقليم الحسيمة    اعتقال عاملان بمستشفى قاما بسرقة ساعة "روليكس" من ضحية حادث سير    ارتفاع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج مقارنة بالسنة الماضية    الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة تحصد 6 ميداليات في الجمنزياد العالمي المدرسي    فليك يضع شرطا لبيع أراوخو … فما رأي مسؤولي البارصا … !    نظرة على قوة هجوم برشلونة هذا الموسم    وزارة الشباب والثقافة والتواصل تطلق البرنامج التدريبي "صانع ألعاب الفيديو"    أنيس بلافريج يكتب: فلسطين.. الخط الفاصل بين النظامين العالميين القديم والجديد    هذه مستجدات إصلاح الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة    الجمعية المغربية للنقل الطرقي عبر القارات تعلق إضرابها.. وتعبر عن شكرها للتضامن الكبير للنقابات والجمعيات المهنية وتدخلات عامل إقليم الفحص أنجرة    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية الوطنية        أرباب المقاهي والمطاعم يحشدون لوقفة احتجاجية ضد الغرامات والذعائر    الأسبوع الوطني التاسع للماء..تسليط الضوء على تجربة المغرب الرائدة في التدبير المندمج للمياه بأبيدجان    بدون دبلوم .. الحكومة تعترف بمهارات غير المتعلمين وتقرر إدماجهم بسوق الشغل    "الشجرة التي تخفي الغابة..إلياس سلفاتي يعود لطنجة بمعرض يحاكي الطبيعة والحلم    الفيضانات تتسبب في إلغاء جائزة فالنسيا الكبرى للموتو جي بي    مركز يديره عبد الله ساعف يوقف الشراكة مع مؤسسة ألمانية بسبب تداعيات الحرب على غزة    قمة متكافئة بين سطاد المغربي ويوسفية برشيد المنبعث        الحكومة تقترح 14 مليار درهم لتنزيل خارطة التشغيل ضمن مشروع قانون المالية    "تسريب وثائق حماس".. الكشف عن مشتبه به و"تورط" محتمل لنتيناهو    مناخ الأعمال في الصناعة يعتبر "عاديا" بالنسبة ل72% من المقاولات (بنك المغرب)    نُشطاء يربطون حل إشكالية "الحريك" بإنهاء الوضع الاستعماري لسبتة ومليلية    "البذلة السوداء" تغيب عن المحاكم.. التصعيد يشل الجلسات وصناديق الأداء    الأميرة للا حسناء تدشن بقطر الجناح المغربي "دار المغرب"    غيبوبة نظام الكابرانات تكشف مهازل استعراضات القوة غير الضاربة    "كلنا نغني": عرض فني يعيد الزمن الجميل إلى المسرح البلدي بالعاصمة التونسية    صدور عدد جديد من مجلة القوات المسلحة الملكية    فؤاد عبد المومني في أول تصريح له بعد إطلاق سراحه: ما تعرضت له هو اختطاف (فيديو)    ارتفاع عدد قتلى الفيضانات في إسبانيا إلى 205 على الأقل    البيضاء تحيي سهرة تكريمية للمرحوم الحسن مكري    منْ كَازا لمَرْسَايْ ! (من رواية لم تبدأ ولم تكتمل)    ارتفاع حصيلة القتلى في فيضانات إسبانيا لأزيد من 200 ضحية    اختتام الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي النسخة 45    47 قتيلا في قصف إسرائيلي وسط غزة    اشتباك دموي في مدينة فرنسية يخلف 5 ضحايا بينها طفل أصيب برصاصة في رأسه    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    الأشعري يناقش الأدب والتغيير في الدرس الافتتاحي لصالون النبوغ المغربي بطنجة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    دراسة: اكتشاف جينات جديدة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحكيم في العقود الإدارية
نشر في برلمان يوم 02 - 05 - 2014

أخد مفهوم العدالة وكيفية تحقيقها، في ظل التحولات السريعة التي يشهدها مغرب اليوم يتغير بفعل تبني المغرب لسيلسة اقتصاد السوق وانفتاحه على القطاع الخاص وإبرام شركات معه في المشاريع الاقتصادية التنموية الهامة [1]، كان القضاء مند القدم ولا يزال الوسيلة الأساسية لحل النزاعات، لكن مع تطور ظروف التجارة والاستثمار الداخلي والدولي أخذت تنشأ إلى جانب القضاء وسائل أخرى لحسم المنازعات، وبذلك ظهر التحكيم فتطور مع تطور التجارة الدولية والتوظيفات الدولية، وإلى جانب التحكيم ظهرت الوساطة والتوفيق وهذا الشكل من العدالة قديم جدا وهو أقدم من عدالة الدولة، وإذا كانت الوساطة تتم في السابق بشكل بسيط قائم على إصلاح ذات البين ونابعة من العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، فقد كانت مطبقة في العهد القديم في فرنسا بمفهوم المصالحة واستخدمت من جديد بعد الثورة الفرنسية عام 1789.
الشيء الذي أدى إلى ضرورة إيجاد وسائل بديلة لفض المنازعات التي تكون الدولة أو إحدى هيئاتها طرفا فيها، ومن بين هذه الوسائل البديلة نذكر الوساطة الصلح أو المصالحة التسوية العاجلة والتحكيم. هذا الأخير يعد من بين أهم الوسائل البديلة الذي حظى باهتمام متزايد في مختلف الأنظمة القانونية، نظرا لما يوفره من سرعة وفعالية في البث وليونة وبساطة في الإجراءات[2]، ومنه فالتحكيم هو اتفاق رضائي، بين الطرفين على حل نزاع قائم بعيدا عن قضاء الدولة المختص بإسناد أمر النظر فيه إلى شخص أو عدة أشخاص من الأغيار على أن يكون الحكم الصادر ملزم للخصوم[3]، وهذا ما يميز التحكيم عن غيره من الأنظمة البديلة لحل المنازعات. أي أن نظام التحكيم يفصل في جوهر النزاع بحكم ملزم لأطراف النزاع عكس باقي الوسائل البديلة التي تكتفي فقط بتقريب وجهة نظر بين الخصوم[4]، إضافة إلى كون مسطرة التحكيم هي أقرب إلى المسطرة القضائية، حيث يحل مقرر المحكمين محل القاضي بينما تقف مهمة الوسيط عند حد الجمع بين وجهات النظر.
وقد وجد التحكيم مع وجود الإنسان أملته عليه القوانين الطبيعة منذ القدم، قبل قيام فكرة الدولة وظهور القضاء[5]. كما كان عرفا في المجتمعات الفرعونية، اليونانية، الرومانية والبابلية[6]. وكذلك كان التحكيم معروفا لدى العرب في الجاهلية قبل الإسلام باحتكامهم إلى شيخ القبيلة أو من اشتهر عنهم بالتحكيم، وأجيز مع دخول الإسلام[7].
أما المغرب فقد اهتم بالتحكيم منذ القدم، واتخذ كوسيلة ناجعة لفض النزاعات ذلك منذ سنة 1693، حين عقدت الدولة المراكشية في عهد المولى إسماعيل معاهدة سان جرمان مع الدولة الفرنسية في عهد الملك لويس 14 التي قضت باللجوء إلى التحكيم في منازعات المستأمنين اليهود المتعلقة بالأحوال الشخصية وبعض المعاملات المدنية، إلى أن أدخل المشرع المغربي في مرحلة لاحقة نظام التحكيم في شكله العصري[8] ضمن موجة أو حركة التقنين التي عرفها المغرب إثر توقيع معاهدة مع فرنسا، بمقتضى ظهير الالتزامات والعقود الصادر في 12 غشت 1913 بموجب الفصول 527-543 التي ألغيت بمقتضى ظهير المسطرة المدنية الصادر ب 27 شتنبر1974 إلى أن تم تطوير القواعد القانونية المتعلقة بالتحكيم من خلال إدخاله لإصلاحات على القواعد الواردة في قانون المسطرة المدنية بمقتضى القانون رقم 05-08.
وأمام الاتساع الحاصل في التعاملات الاقتصادية وحاجة الدول إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية وتشجيع الاستثمار أصبح لزاما على الإدارة في عصر العولمة أن تعمل على تحديث وتطوير أساليبها في حل نزاعاتها بالشكل الذي يضمن توافر المرونة والسرعة، مما فرض عليها اللجوء للتحكيم كإحدى الوسائل الحديثة لحل النزاعات المرتبطة بالأشخاص المعنوية العامة، هذه الأخيرة تلجأ للعقود الإدارية كأهم آلية قانونية بيد الإدارة لتنفيذ برامجها ومشاريعها ومخططاتها التنموية الوطنية والمحلية، لذا فمن الطبيعي أن تكون من أبرز المجالات التي تشهد قيام نزاعات بين الإدارة من جهة، والطرف المتعاقد معها من جهة ثانية، الشيء الذي يحثم الأخذ بالتحكيم في العقود الإدارية كنظام استثنائي للتقاضي، لما يوفره من السرعة، البساطة والمرونة، فبموجبه يجوز للدولة وسائر أشخاص القانون العام إخراج بعض منازعات العقود الإدارية من ولاية القضاء الإداري، لكي تحل بطريقة التحكيم بناءا على نص قانوني يجيز ذلك[9]. لذا فالتحكيم في العقد الإداري، يتأتى من خلال إمكانية إسناد أمر البث في النزاع المتعلق بالعقد الإداري لجهات غير القضاء الإداري صاحب الاختصاص الأصلي في حدود ما يبيح لها المشرع[10].
ومنه فالتحكيم في منازعات العقود الإدارية له أهمية مزدوجة، نظرية وعملية. فبالنسبة لأهمية النظرية أو العلمية للموضوع تظهر من خلال التأسيس لمفهوم متطور وحديث للعدالة البديلة.
أما الأهمية العملية فتكمن بالنسبة للمتعاقد مع الإدارة في ضمان عدم المساس الإدارة بحيادها وتمسكها بالحصانة القضائية[11]، بالإضافة إلى توفير الوقت والجهد من خلال البساطة والمرونة والفصل السريع في المنازعة، أما بالنسبة للإدارة التي تهدف للصالح العام في تشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي، الحفاظ عي العلاقات الودية وتخفيف العبئ الكبير الملقى على عاتق المحاكم المختصة وتطبيق القواعد القانونية بوسائل بديلة عن الوسائل المعتادة[12].
و أمام هذه الأهمية، فإن من شأن الاعتراف بمشروعية التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات الإدارية من شأنه أن يؤدي إلى طمس معالم وأحكام المنازعات الإدارية، والى خضوع الإدارة للقانون العادي وبالتالي إلى القضاء العادي، خصوصا في الدول التي تأخذ بازدواجية القانون وتنص بعض أحكامها وقوانينها على حظر اللجوء إلى التحكيم كما هو الشأن بالنسبة للمغرب.
و منه يثور التساؤل حول، مدى مشروعية اللجوء إلى التحكيم في مجال العقود الإدارية؟ و ما هي علاقة التحكيم بالقضاء الإداري؟ و ما هي آثار التحكيم على اختصاصات القاضي الإداري؟
ولمعالجة هذا الموضوع ارتأينا اعتماد التصميم التالي
المبحث الأول: مدىمشروعية التحكيم في العقود الإدارية
يعتبر اللجوء للتحكيم لفض النزاعات المرتبطة بالعقود الإدارية، من بين الضمانات التي ينادي و يطالب بها المتعاملين مع الإدارة، نظرا لفعاليتها و نجاعتها.
إلا أنه من المتعارف عليه في الدول التي تتبنى نظام الازدواج القضائي، أي تلك التي تعرف قضاء إداريا مستقلا عن القضاء المدني، أن الاختصاص النوعي ينعقد للمحاكم الإدارية بشأن منازعات العقود الإدارية[13]، بموجب مقتضيات المادة 8 من القانون المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية بالمغرب.
و منه فمن شأن التحكيم في العقود الإدارية أن يسلب اختصاص القاضي الإداري بالنظر في منازعات العقود الإدارية[14]، كما أن هذه الأخيرة مرتبطة بسيادة الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، و بالتالي فخضوعها للتحكيم قد يكون فيه نوع من الخرق لسيادة الدولة[15]. الشيء الذي أثار إشكالا مهما و حقيقيا حول مدى مشروعية اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية لا على المستوى التشريعي (المطلب الأول)، و لا على مستوى الفقهي نفسه (المطلب الثاني).
المطلب الأول: موقف التشريع
بالرغم من أهمية التحكيم في حسم المنازعات الإدارية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة[16]، إلا أن هذه الأهمية تصطدم بموقف المشرع نسبيا، على مستوى التشريع المقارن (أولا)، و على مستوى التشريع المغربي (ثانيا).
أولا- موقف التشريع
إذا حاولنا الوقوف عند بعض التشريعات المقارنة فسنجد بهذا الخصوص أن المبدأ العام في التشريع الفرنسي، هو منع اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية إلا إذا نص القانون على إجازته[17].
وفقا لنص المادة 83 و 1004 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الصادر في سنة 1806، باعتباره الأساس التشريعي لهذا المنع و الحظر، كما كرس المشرع هذا الحظر بمقتضى قانون 5 يوليوز 1972، حينما ألغى المادة 1004 و حلت محلها المادة 2060 من القانون المدني الفرنسي التي نصت في فقرتها الأولى على عدم إمكانية اللجوء إلى التحكيم فيما يخص النزاعات المتعلقة بحالة الأشخاص و أهليتهم أولئك المتعلقة بوحدات الإدارة العامة أو المؤسسات العامة و بوجه عام جميع المسائل التي تمس النظام العام[18].
إلا أن هذا المنع ليس على إطلاقه، بل له استثناءات، بحيث أضافت الفقرة الثانية من نفس المادة أنه بإمكان بعض المؤسسات العامة ذات الطابع الصناعي و التجاري اللجوء إلى التحكيم لكن شريطة صدور مرسوم يسمح بذلك[19]، و منه فالمشرع الفرنسي حاول التلطيف من حدة المبدأ القاضي بالحظر.
أما في مصر، فقبل صدور قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994 و تعديله بالقانون رقم 9 لسنة 1997، لم يكن هناك تنظيم تشريعي يحكم مسألة التحكيم في العقود الإدارية، فلا النصوص القانونية المتعلقة بالقانون الإداري أوردت المنع أو الجواز في هذا الصدد، و لا نصوص القانون المدني و التجاري بينت حكم اللجوء إلى التحكيم[20].
و بالتالي فالمشرع المصري لم يوضح موقفه في موضوع التحكيم في العقود الإدارية، فالقانون المصري قد خلا قبل قانون 1997 من أي نصوص صريحة في مجال المنازعات الإدارية[21].
لذا صار الاختلاف في مواقف الفقه المصري و أحكام قضاءه العام و الإداري بخصوص هذه المسألة.
و أمام هذه الاختلافات الفقهية و القضائية بين مؤيد و معارض للتحكيم في العقود الإدارية التي سنقف عندها فيما بعد و في ظل غياب نص تشريعي، تدخل المشرع المصري بقانون 27 لسنة 1994[22] بشأن التحكيم في المواد المدنية و التجارية، إلا أنه لم يزد الأمر سوى الغموض و اللبس و تضارب في المواقف.
مما دفع بالمشرع المصري التدخل مرة أخرى بمقتضى القانون رقم 9 لسنة 1997، للحسم في الخلاف بين الفقه و القضاء في مصر حول مدى مشروعية اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية، بموجب الفقرة الثانية التي تمت إضافتها للمادة الأولى من القانون رقم 27 لسنة 1994، و التي نصت على ما يلي “و بالنسبة لمنازعات العقود الإدارية، التي يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص، أو من يتولى اختصاصه على التحكيم بموافقة الوزير الأول المختص، أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، و لا يجوز التفويض في ذلك”.
إذن يستفاد من مضمون هذه الفقرة على أن المشرع المصري أقر بإمكانية اللجوء للتحكيم في مختلف العقود الإدارية الداخلية مسماة أو غير مسماة بمقتضى اتفاق التحكيم[23].
ثانيا: موقف التشريع المغرب
بالنسبة لموقف المشرع المغربي، فقد اتسم بالازدواج بالمنع أو الجواز اللجوء للتحكيم في مجال العقود الإدارية، بحيث قبل إصدار القانون رقم 05-08 كرس المشرع فكرة حظر اللجوء للتحكيم[24]، من خلال قانون المسطرة المدنية الصادر في 12 غشت 1913 و قانون المسطرة المدنية الصادر سنة 1974.
فقد تناول هذا الحظر بمقتضى الفصل 527 من قانون الالتزامات و العقود لسنة 1913، حيث جاء فيه ما يلي “لكل الأشخاص أن يتفقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها باستثناء المسائل التي تتعلق بالنظام العام”، و كذا من خلال الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية لسنة 1974، حيث جاء فيه ما يلي “ يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها، غير أنه لا يمكن الاتفاق عليه في :
في الهبات والوصايا المتعلقة بالأطعمة والملابس والمساكن .
في المسائل المتعلقة بحالة الأشخاص وأهليتهم .
في المسائل التي يمكن النظام العام و خاصة النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام…”.
إلا أن المشرع المغربي قبل إصدار القانون 05-08، عمل على التخفيف من حدة هذا المبدأ بوضعه لبعض الاستثناءات التي وردت في بعض النصوص الخاصة، مثل القانون الإطار المتعلق بالاستثمار[25] في مادته 17، و قانون رقم 05-54 المتعلق بالتدبير المفوض[26] الذي أجاز اللجوء للتحكيم.
و بعد صدور القانون رقم 05-08، يكون المشرع المغربي خطا خطوات شجاعة في تبني و إقرار التحكيم في العقود الإدارية لأول مرة، متجاوزا بذلك مختلف الانتقادات الموجهة لنظيره المصري و الفرنسي[27].
فنص على ذلك صراحة في الفصل 308 كما يلي “يجوز لجميع الأشخاص من ذوي الأهلية الكاملة، سواء كانوا طبيعيين أو معنويين أن يبرموا اتفاق تحكيم في الحقوق التي يملكون حق التصرف فيها…”.
كذلك في الفقرة الثالثة من الفصل 310 على ما يلي “… يمكن أن تكون النزاعات المتعلقة بالعقود التي تبرمها الدولة أو الجماعات المحلية محل اتفاق تحكيم…”
و في الفقرة الثانية من الفصل 311 الذي نص “… يجوز للمؤسسات العامة إبرام عقود تحكيم وفق الإجراءات و الشروط المحددة من لدن إدارتها، و تكون الاتفاقات المتضمنة لشروط تحكيم محل مداولة خاصة يجريها مجلس الإدارة”.
إن من المنطقي دفع المشرع بعدم إمكانية اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية، لكن ينبغي إرفاق و تدعيم موقفه بالحجج و الأسانيد و إعطاءه الأساس القانوني لهذا المنع.
و منه يمكن القول من خلال استعراضنا في هذا العرض البسيط، أن كل من المشرع المصري و الفرنسي و المغربي قبل إصدار القانون 05-08، اتخذوا النظام العام و أهلية الأشخاص المعنوية العامة، أساسا قانونيا لحظر اللجوء للتحكيم.
ففكرة النظام العام ترتبط ارتباطا وثيقا بالصالح العام، و بالتالي لا يجوز التحكيم في العقود الإدارية التي تكون الإدارة طرفا فيها، نظرا لكون أن القضاء المختص هو الضامن و الساهر على تحقيق المنفعة العامة، و اللجوء لمحكم خارجي بعيدا عن القضاء الإداري يعني إهدار هذه المنفعة[28]، كما أن القاضي هو صاحب الاختصاص الأصيل و أي خروج عن هذا الاختصاص يعد خروجا عن مقتضيات النظام العام الشيء الذي لا يجوز الاتفاق على مخالفة[29] قواعده الآمرة.
بالإضافة إلى أن طبيعة العقود الإدارية تحدد وفق فكرة النظام العام أي المنفعة العامة التي لا يجوز التحكيم بصددها.
كما نجد فكرة الأهلية كأساس لعدم جواز التحكيم، بحيث أن الجهات الإدارية تتمتع بأهلية مقيدة بالقانون و محددة بقواعد نظمها القانون لا نستطيع أن نخرج عنها، و في حالة عدم وجود قانون يجيز التحكيم في العقود الإدارية فإن القانون يكون قد غل سلطة الإدارة و حجب عن الجهة الإدارية حق اللجوء للتحكيم[30]، و بالتالي فعلى الإدارة أن تتقيد بحدود أهليتها التي خصها بها القانون. و هذا ما جاء به القانون الفرنسي و المصري قبل صدور القانون 9 لسنة 1997 و المغربي قبل صدور القانون 05-08[31].
إضافة إلى هذه الأسس هناك أسس أخرى قانونية تدفع بعدم مشروعية اللجوء للتحكيم، استنادا إلى قواعد الاختصاص، فالاختصاص بالنظر في منازعات العقود الإدارية هو اختصاص أصلا و ثابت للقاضي الإداري قانونيا، و عليه فإن الاتفاق على حسم هذه المنازعات بالتحكيم من شأنه أن يمثل اعتداءا جسيما على اختصاص القاضي الإداري، و عليه فإن مبدأ حظر لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم يستند إلى مبدأ احترام قواعد الاختصاص[32]، و بالتالي فاللجوء للتحكيم يقلص و يسلب القاضي الإداري اختصاصه.
كما أن التحكيم يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه دستوريا، بحيث أن اللجوء للتحكيم يؤدي إلى الإخلال بهذا المبدأ، فيما يتعلق بالسلطة القضائية و التنفيذية، فلجوء الإدارة إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية تحيد و تستثني السلطة القضائية المختصة بالفصل في مثل هذه المنازعات التي تدخل ضمن وظيفتها.
و بالتالي تنزع من السلطة القضائية وظيفتها و اختصاصها إذا ما لجأت الإدارة إلى هذا الأسلوب من فض النزاعات.
المطلب الثاني: موقف الفقه
يرى أغلبية فقهاء القانون الفرنسي، عدم جواز اللجوء إلى التحكيم بصدد العقود الإدارية، و أنه من الأمور المحظورة إلا إذا ورد نص صريح بالجواز.
فالفقه الفرنسي، لم يعش ما عاشه نظيره المصري الذي ستعرضه لاحقا، من تضاربات و اختلافات حاة في وجهات النظر، و لعل مرد ذلك هو تبني المشرع و القضاء بشكل قاطع لمبدأ عدم جواز اللجوء للتحكيم.
و منه يرجع الفقه الفرنسي في تبنيه لهذا المبدأ المنع إلى عدة أسباب منها ما يندرج تحت مظلة المبادئ العامة للقانون، و منها ما يندرج ضمن فكرة النظام العام، التي تقضي بتغليب المصلحة العامة على المصالح الفردية، و منه فلا يجوز التحكيم في منازعات العقود الإدارية التي لا تهدف إلا لتحقيق المصلحة العامة[35]، إلا من طرف الجهات القضائية المختصة بذلك.
و في هذا الصدد يقول الفقيه فيرناند Fernand بأن “القضاء الإداري يستطيع أن يمارس الرقابة على أعمال الإدارة، أفضل من المحكمين”.
كما يذهب الفقيه لافيريير La Feriere إلى القول بأنه “من المسلم به أن الدولة لا تخضع قضاياها لمحكمين، سواء بسبب النتائج المشكوك فيها للتحكيم، أو بسبب اعتبارات النظام العام، التي تقضي بأن الدولة لا يمكن أن تكون موضوعا للقضاء إلا بواسطة جهات القضاء المنشأة بالقانون”، كما يذهب لحد التساؤل بطريقة استنكارية، “كيف للدولة أن تقبل منح المحكمين سلطة النظر في المنازعات التي لم توافق على منحها القضاة العاديين”
و يقول في هذا كذلك مفوض الدولة روميو في أحد تقاريره “بأن الوزراء لا يستطيعون أن يضعوا في أيدي المحكمين الحل لمسألة متنازع عليها، لأنهم لا يستطيعون أن يتهربوا من جهات القضاء القائمة”.
و مع ذلك ذهب البعض من فقهاء القانون الفرنسي إلى القول بجواز اللجوء للتحكيم، و من بين هؤلاء المؤيدين، نجد الأستاذ شارل جاروسو C.Jarrosson الذي انتقد حجج منع التحكيم، ذلك لوجود غموض و عدم الوضوح مما يؤدي إلى تعارضها مع بعضها و ضعفها و كونها ليست قانونية.
كما ذهب رأي آخر إلى حد القول بأن مجلس الدولة الفرنسي يطبق الحظر دون نص، و يأملون تطور موقف مجلس الدولة الفرنسي في هذا الموضوع.
أما في خصوص الفقه المصري، فلعدم وجود نص صريح يمنع أو يجيز التحكيم في العقود الإدارية، و ذلك قبل صدور القانون رقم 27 لسنة 1994 ، فقد اختلف بين مؤيد و معارض.
فجانب من الفقه المصري قال بعدم إمكانية اللجوء للتحكيم، استنادا إلى كون التحكيم يتعارض مع سيادة الدولة، و القضاء الوطني أحد مظاهرها، كما لكونه اعتداء على اختصاص القضاء الإداري صاحب الولاية العامة للبث في منازعات العقود الإدارية، و ذلك عملا بالمادة 172 من الدستور المصري، و المادة 108 من قانون مجلس الدولة، بالإضافة لأن التحكيم يتعارض مع النظام العام.
بنما اتجه جانب آخر من الفقه المصري إلى تقرير جواز التحكيم، نظرا لعدم وجود نص صريح في قانون مجلس الدولة يمنع التحكيم في منازعات العقود الإدارية أما المادة 10 من نفس القانون فهي لا تقتصر سوى على بيان الحدود الفاصلة بين اختصاص محاكم المجلس و محاكم القضاء العادي.
كما لكون أحكام قانون المرافعات، الذي يطبق على محاكم مجلس الدولة، عند غياب نص خاص، يجيز الاتفاق على التحكيم، طبقا لمقتضيات المادة 501.
و نظرا لهذه الخلافات الفقهية، تدخل المشرع المصري و أصدر القانون رقم 27 لسنة 1994. إلا أنه بالرغم من ذلك، اختلفت جهات النظر في مدى مشروعية التحكيم في مجال العقود الإدارية بالنسبة للفقهاء المصريين، و انقسموا لمؤيد و معارض.
و أمام هذا الجدل الفقهي، اضطر المشرع المصري للتدخل مرة أخرى بمقتضى القانون رقم 9 لسنة 1997، الذي بموجبه تمت إضافة فقرة ثانية للمادة الأولى من القانون 127 لسنة 1994 السابق الذكر، و التي تنص على اتفاق التحكيم يكون بموافقة الوزير المختص، أو السلطة التي لها اختصاص على التحكيم بموافقة الوزير الأول.
و بالتالي لا تكتمل أهلية الأشخاص المعنوية العامة في إدراج شرط التحكيم في العقود الإدارية، إلا بموافقة الوزير المعني بالأمر أو من يمثل الشخص المعنوي العام بصفة قانونية بالنسبة لباقي الأشخاص العامة الأخرى، من دون قبول أي تفويض.
و في هذا الخصوص يرى بعض الفقه المصري بأن عدم حصول الإدارة المعنية على موافقة ممثلها القانوني على التحكيم، و أقدمت عليه، فهي تتحمل المسؤولية عن خطئها هذا، إذا كان الطرف الآخر حسن النية.
بينما يرى البعض الآخر، بأن هذا الحل في حد ذاته غير كاف، لأنه لا يجوز للإدارة أن تتنكر لاتفاق التحكيم، ما دام تنكرها مخالفا للنظام العام الدولي.
أما بالنسبة للفقه المغربي فيمكن القول، على أنه لم تكن هناك دراسات حول مدى مشروعية اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية، قبل صدور القانون رقم 05-08، نظرا لموقف المشرع آنذاك في المنع من اللجوء للتحكيم نظرا لاتصاله بالنظام العام[46].
المبحث الثاني: علاقة القاضي الإداري بالتحكيم
شغلت العلاقة بين القضاء و التحكيم أذهان الفقه، و أثيرت مناقشات عديدة حول أساس هذه العلاقة، فهل يغلب عليها طابع المساعدة أم الطابع الرقابي؟ (المطلب الأول)، و هناك أيضا عدة مناقشات تدور حول تأثيرالتحكيم على اختصاص القاضي الإداري باعتبار الأخير هو صاحب الولاية للنظر في المنازعات التي قد تطرأ على تنفيذ العقد الإداري فما هو رأي هذا الأخير بنفسه (المطلب الثاني).
المطلب الأول: رقابة القاضي الإداري على أعمال المحكمين
يقصد بالرقابة القضائية على عمل المحكم، التحقق من صحة حكمه و حثه على العناية بعمله، فالرقابة القضائية تؤدي دورا مزدوجا، الأول وقائي: و يتمثل في حرص المحكم على تحري الدقة و التطبيق السليم للقانون، فضلا عن حصر الأطراف أنفسهم على سلامة الإجراءات تجنبا لرفض تنفيذ الحكم الصادر في النزاع، أو إبطاله، أو إنهاء الإجراءات قبل إصدار الحكم، و الثاني علاجي، و يتمثل في إلغاء الحكم أو رفض تنفيذه عند تحقق أوجه الإلغاء أو رفض التنفيذ، و ذلك بهدف ضمان صحة الحكم و الحفاظ على الجوهر القضائي السليم لخصومة التحكيم.
و هذه الرقابة يمكن أن تتم أثناء سير الإجراءات كما هو منصوص عليها مثلا في الفصل 323 من القانون رقم 05-08، حيث يمارس القاضي الإداري المختص الرقابة على المحكم من خلال بته في التجريحات التي تطال هذا الأخير، و في حالة الحكم بتجريحه فإن إجراءات التحكيم التي شارك فيها تصبح كأنها لم تكن بما في ذلك الحكم، في حالة صدوره، و يتم تعيين محكم آخر لتعويضه وفقا لنفس القواعد المطبقة على تعيين المحكم الذي تم تجريحه، و بذلك فالقاضي الإداري يمارس رقابة على أعمال المحكمين سواء أثناء سير الإجراءات بمناسبة طلب المساعدة القضائية، بدءا من طلب تعيين المحكم أو استبداله، أو عند اتخاذ إجراءات وقتية أو الفصل في مسألة أولية تخرج عن نطاق اختصاص المحكم.
كما تتحقق هذه الرقابة أيضا بمناسبة الدفع بوجود اتفاق التحكيم في دعوى رائجة أمام القضاء بشأن نزاع اتفق أطرافه على إحالته للتحكيم، هذا الدفع يبادر به المدعى عليه، و يشترط فيه أن يكون قبل الدخول في جور النزاع، في حالة ما إذا كان النزاع قد عرض على الهيئة التحكيمية، و في كلتا الحالتين لا يمكن للمحكمة أن تصرح بعدم قبول الدعوى لوجود اتفاق أو عقد تحكيمي، فالمشرع المغربي ينص صراحة في الفصل 327 من القانون رقم 05-08 على وجوب تصريح الهيئة القضائية بعدم القبول، لكن ذلك مقرون بشرط واقف و هو قيام المدعى عليه بالدفع بعدم قبول الدعوى، و هذا ما نستخلصه من نص الفقرة الأولى حيث تنص على أنه “عندما يعرض نزاع مطروح أمام هيئة تحكيمية عملا باتفاق تحكيم، على نظر إحدى المحاكم، وجب على هذه الأخيرة إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل الدخول في جوهر النزاع إلى تصرح بعدم القبول”.
كما يمكن للقاضي الإداري أن يمارس رقابته على المحكمين من خلال مراقبته لآجال إصار الحكم، و هنا نميز بين حالتين:
1- في حالة تحديد اتفاق التحكيم لأجل إصدار الحكم التحكيمي، فهنا يلزم المشرع الهيئة التحكيمية باحترام هذا الأجل، إلا أنه يمكن لأطراف النزاع تمديد الأجل الاتفاقي لنفس المدة، و في حالة عدم اتفاقهم يتدخل رئيس المحكمة الإدارية المختصة بناء على طلب أحد الأطراف أو الهيئة التحكيمية.
2- في حالة عدم تحديد اتفقا التحكيم أجل إصدار الحكم: فالمشرع هنا يحدد مهلة إصدار الحكم في 6 أشهر تبتدئ من اليوم الذي قبل فيه آخر و حكم مهمته، و يمكن تمديد هذه المدة بنفس الطريقة السابقة.
و نشير هنا إلى أنه في حالة عدم صدور الحكم التحكيمي خلال الميعاد المشار إليه، فإنه يجو لأي من طرفي التحكيم أن يطلب من رئيس المحكمة المختصة أن يصدر أمرا بإنهاء إجراءات التحكيم فيكون لأي من الطرفين بعد ذلك رفع دعواه إلى المحكمة المختصة أصلا للنظر في النزاع.
و تتجلى كذلك المراقبة القضائية على أعمال المحكمين من خلال إكساب القاضي الإداري لحجية الشيء المقضي به للحكم التحكيمي و ذلك من خلال تخويله له للصيغة التنفيذية، فالحكم التحكيمي لا يتم تنفيذه إذا كان أحد أطرافه شخصا معنويا خاضعا للقانون العام.
حتى يتم تبديله بالصيغة التنفيذية من قبل المحكمة الإدارية التي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي في دائرتها أو إلى المحكمة الإدارية بالرباط، عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني و ذلك عكس ما يقره المشرع بالنسبة للتحكيم في الدعاوى المدنية التي يكتسب فيها الحكم التحكيمي حجية الشيء المقضي به بمجرد صدوره.
هذا فيما يخص الرقابة الوقائية التي يمارسها القاضي الإداري على أعمال المحكمين، أما تدخله العلاجي فيمثل إجمالا في الطعن على حكم جزئي أصدره المحكم في ظل الأنظمة التي تجيز ذلك، و أيضا عند طلب رده، كما تتم في مرحلة لاحقة لصدور الحكم و التكفل بتصحيحه.
و في الأخير نشير إلى أن الرقابة القضائية على أعمال المحكمين لا تهدف إلى تعطيل سير الخصومة أو عرقلة عمل المحكم، أو الانتقاص من حرية الخصوم التي كفلها المشرع، كما لا تعني عدم استقلال المحكم أو خضوعه لتبعية القضاء و وصايته، فالأخير لا يمارس هذا الدور الرقابي من منطلق سموه على مكانة المحكم، و إنما انطلاقا من الحرص على تدعيم سير الخصومة و تحقيق حكم له من عناصر الصحة ما يرشحه للتنفيذ، و من خلال هذا الهدف و في إطاره يمارس القضاء رقابته الظاهرة أو الضمنية في كل مناسبة يعرض عليه فيها جانب من جوانب خصومة التحكيم.
المطلب الثاني: موقف القضاء من سلب التحكيم لاختصاص القاضي الإداري
يعد النظر في منازعات العقود الإدارية اختصاصا أصيلا للقاضي الإداري، بموجب القوانين المنظمة لهذا القضاء المتخصص، و تشمل هذه المنازعات كل ما يثور بصدد العقد الإداري سواء تعلق الأمر بانعقاده، صحته، تنفيذه أو انقضائه.
إذا كان التحكيم في منازعات العقود الإدارية يتضمن عناصر العمل القضائي، فما هو موقف القضاء من هذه المسألة على اعتبار أنه صاحب الاختصاص.
و إذا كان المبدأ العام كما سبق الذكر في التشريع الفرنسي هو منع اللجوء للتحكيم و أن الاستثناء هو الجواز، فإن هذا ما استقر عليه القضاء الفرنسي بإبقائه على المنع كأساس و على الجواز كاستثناء.
لذا يعتبر القضاء الإداري الفرنسي رائد الاتجاه المعارض في اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية، باتخاذ مجلس الدولة موقفا واضحا و صارما في هذه المسألة.
و من التطبيقات القضائية لهذا الاتجاه، نجد ما ذهبت إليه محكمة استئناف باريس في قرارها الصادر بتاريخ 10 أبريل 1957 إلى القول “بأن حظر التحكيم بموجب قانون المسطرة المدنية ينصرف إلى التحكيم الداخلي دون الدولي”، و استندت استئنافية باريس على التطبيق الحرفي للمادة 2060 من القانون المدني الفرنسي.
و هذا ما أقرته و ذهبت إلى اعتماده محكمة استئناف إيكس أومبروفونس Aix en-Provence في قرارها الصادر بتاريخ 05/05/1959[62]، و هو نفس الاتجاه الذي أيدته محكمة النقض.
أما بالنسبة للقضاء المتخصص أي الإداري، فقد اتخذ موقفا صارما من حظر التحكيم في العقود الإدارية، و ذلك عملا بمقتضيات المادتين 83 و 1004 من قانون المسطرة المدنية القديم، و المادة 2060 التي حلت محل المادتين السابقتين ضمن القانون الجديد.
و قد بين الحكم الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي سبب الحظر، حيث ذكر أن الوزراء لا يستطيعون اللجوء إلى التحكيم لحل المسائل المتنازع عليها، لأن هذا العمل محظور عليهم بمقتضى نصوص المادتين 1004 و 83 من قانون المسطرة المدنية.
كما حكم مجلس الدولة الفرنسي ببطلان شرط التحكيم في عقد أشغال عامة أبرم بين شركة خاصة صاحبة امتياز في مجال الطرق السريعة و مجموعة مشروعات.
و قد استند مجلس الدولة في إصدار أحكامه إلى نقص أهلية الجهة الإدارية في إبرام اتفاق التحكيم، و اعتماد فكرة النظام العام و المبادئ العامة للقانون، كما تم عرض ذلك على مستوى موقف الفقه الفرنسي.
إلا أنه مع هذا التوجه الصارم و الواضح للقضاء الفرنسي بصفة عامة في منع اللجوء للتحكيم، فإن محكمة النقض الفرنسية في الحكم الصادر عنها بتاريخ 2 ماي 1986، سمحت للأشخاص الاعتبارية العامة بالاتفاق على اللجوء إلى التحكيم لحل منازعاتها المتعلقة بالعقود الإدارية، حتى مع غياب أي نص يرخص لها بذلك سواء كان اتفاق دولي أو تشريع داخلي.
أما بالنسبة للقضاء المصري، فقد كان الأمر مختلفا أمام التضارب و الاختلاف الحاصل قبل و بعد صدور قانون رقم 27 لسنة 1994، الشيء الذي جعل الفقه المصري يختلف و ينقسم لمؤيد و معارض كما سبق الذكر.
و يمكن إجمال موقف القضاء المصري في ثلاثة آراء، رأي مجلس الدولة في شخص الجمعية العمومية لقسمي الفتوى و التشريع، رأي القضاء الإداري ثم القضاء العادي.
فموقف الجمعية العمومية لقسمي الفتوى و التشريع، اتسم بالتضارب إثر إفتاءه بفتاوى متضاربة، ففي البداية أفتت بتاريخ 07/01/1970 بعدم جواز اللجوء إلى التحكيم على منازعات العقود الإدارية من دون النص على ذلك صراحة.
و في فتوى لها بتاريخ 17/05/1989 أجازت اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية، حيث جاء فيها “… إنه إزاء عدم وجود نص تشريعي خاص بتنظيم التحكيم في منازعات العقود الإدارية التي تكون الإدارة طرفا فيها سواء المدنية، أو الإدارية فإنه يتعين الرجوع في ذلك إلى الشروط العامة للتحكيم و إجراءاته الواردة بقانون المرافعات التي لا تتعارض مع طبيعة الروابط الإدارية، و لا وجه للقول بأن محاكم مجلس الدولة هي المختصة بالفصل طبقا للمادة 10 من قانون مجلس الدولة، و بالتالي فإن الاتفاق على حسم تلك المنازعات بطريق التحكيم مؤداه سلب الولاية المقصورة للقضاء الإداري في هذا الشأن، ذلك أن المقصود من المادة 10 هو بيان الحد الفصل بين الاختصاص المقرر لمحاكم مجلس الدولة و محاكم القضاء العادي، و لا يجوز التجاوز في هذا تفسير هذا النص، … و القول بحظر الالتجاء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية”.
إلا أن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى و التشريع، رجعت عن موقفها و أفتت في فتوى لها بتاريخ 18/12/1996 بعدم جواز التحكيم في العقود الإدارية بناء على أنه يشترط لجواز صحة اتفاق التحكيم أن يكون عاقده أهلا للتصرف بعوض في الحقوق التي يشملها اتفاق التحكيم و ألا يكون التحكيم في مسائل متعلقة بالحالة الشخصية ولا بالنظام العام.
و لأن الولاية سواء كانت خاصة أو عامة، فالأصل فيها هو المنع و عدم النفاذ إلا بعمل تشريعي.
و أن لجوء أية جهة عامة للقضاء ذي الولاية العامة في نزاع يتعلق بعقد إداري هو الاستعمال الطبيعي لحق التقاضي و أن لجوءها إلى التحكيم يفيد الاستعاضة عن القضاء.
كما أن طبيعة العقد الإداري جعلت المشرع لا يعمد للقضاء المدني بالنظر في منازعات العقود الإدارية، و بالتالي فإنها تكون من باب أولى أن تكون في منأى عن طبيعة التحكيم و هيئاته، و يكون شرط التحكيم متنافيا مع إدارية العقد، و انتهت الجمعية إلى عدم جواز التحكيم.
و بهذا تدخل المشرع بمراجعة قانون 27 لسنة 1994 بمقتضى قانون 9 لسنة 1997 و أضاف الفقرة الثانية من المادة الأولى من هذا القانون.
أما بالنسبة لمحكمة القضاء الإداري و المحكمة الإدارية العليا بمصر، فقد تأرحج بين موقفين متعارضين، فتارة يذهبون إلى منع اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية، بنفس التبريرات التي كان يسوقها الفقه في منعه اللجوء للتحكيم، و من تطبيقات هذا الموقف ما قضت به بمناسبة نظرها في الطعن المقدم من هيئة قضايا الدولة نيابة عن وزير الإسكان و المرافق ضد حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بتاريخ 18/05/1986 في قضية الشركة المصرية للمساهمة و التعمير و الإنشاءات السياحية ضد وزير الإسكان و المرافق و من معه، و التي قضت “بعدم جواز التجاء جهات الإدارة في العقود الإدارية إلى التحكيم، و سبت المنع أن الاتفاق على التحكيم لا يجوز أن يسلب اختصاص محاكم مجلس الدولة المقرر بالمادة 10…، و أن اتفاق التحكيم يجب ألا يهدم خصائص العقد الإداري و لا يزيل اختصاص مجلس الدولة بنظر المنازعات المتعلقة بذلك العقد”.
و هذا الاتجاه هو الذي سلكته محكمة القضاء الإداري فيما عد، و التزاما بما انتهت إليه المحكمة الإدارية العليا في قضية نفق أحمد حمدي.
إلا أن نفس المحكمة – الإدارية العليا و كذلك محكمة القضاء الإداري – تراجعت عن موقفها الأول، عندما أيدت جواز اللجوء إلى التحكيم، طبقا لنص المادة 501 من قانون المرافعات، حيث ذكرت “… أن الاتفاق على التحكيم لا ينزع الاختصاص من المحكمة و إنما يمنعها من سماع الدعوى طالما بقي شرط التحكيم قائما”.
و هذا ما أقرته كذلك محكمة القضاء الإداري في القضية رقم 486 لسنة 38 ق، حينما قررت في حكمها بتاريخ 18/05/1985 جواز لجوء الجهات الإدارية للتحكيم لفض منازعاتها المتعلقة بالعقود الإدارية.
أما موقف القضاء العادي فلم يعرف التضارب، فقد كان موقفه واضحا و صريحا في هذا الخصوص، بجواز اللجوء إلى التحكيم، و من تطبيقات هذا القضاء ما قضت به محكمة النقض المصرية، حين قضت بأنه “يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين بوثيقة خاصة كما يجوز في جميع المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ عقد معين”. فقد انتهت إلى أنه بالنظر لعمومية هذا النص الذي ينطبق على كل العقود، و هو ما يخول للمتعاقدين الحق في الالتجاء إلى التحكيم.
و هو كذلك ما ذهبت إليه محكمة استئناف القاهرة، في أحد أحكامها بجواز اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية.
أما بالنسبة للقضاء الإداري المغربي، فإن تطبيقاته العملية منعدمة، فالمحاكم الإدارية في المغرب لم يسبق أن عرفت منازعة خاصة بالتحكيم الإداري، نظرا للموقف الواضح و الصريح للمشرع المغربي.
خاتمة:
أضحى قضاء التحكيم سواء في العقود الإدارية الداخلية أو الدولية يفرض نفسه على مختلف الأنظمة القانونية لجل الدول، خاصة أمام أزمة القضاء الرسمي و التشكيك الذي يطاله، كون الدولة أو الشخص العام يكون طرفا و حكما حينما تعرض نزاعات ترتبط بالشخص العام أمام القضاء الرسمي، في ظل لا استقلالية هذا القضاء و ما يعانيه من اختلالات كالبطء و تعقد المساطر و الإجراءات…
و محليا و أمام هذا النهج المنفتح للمشرع المغربي في مجال التحكيم، يمكننا أن نتساءل عن مصير العقد الإداري الوطني هل سيظل كوسيلة من وسائل العمل الإداري، أمام إصدار المتعاقدين مع الإدارة على إبرام اتفاق التحكيم.
كل هذا، يجعل التنبؤ بأفول نظريات العقد الإداري مسألة واقعية في ظل التزايد الملحوظ في مستوى الإقبال على قضاء التحكيم، و في ظل تطبيق المحكم لقوانين لا يميز بين العقد الإداري و العقد الخاص.
و هو ما سيؤدي إلى حرمان القضاء الإداري (الرسمي) من البث في جزء أساسي من اختصاصه في المادة الإدارية، و هي المتعلقة بنزاعات العقود الإدارية.

سعيد الستاتي
خديجة حيلي
محمد الصابري
حجبوها سويسا
عبد الله الإدريسي
صفية لعزيز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.